الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود ونوجة وصفية

مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)

2013 / 10 / 7
الادب والفن


محمود و نوجة و صفية

لم يكن بكاؤها ينقصه سوى الحرارة ، سوى الإتقان . كان سيالا ، وكان دوريا ، كلما وضع زوجها العقدة في المنشار ، وأصر على إفهامها بطريقة مباشرة وغير مباشرة أنها أس البلاء . تبدأ الواقعة بشرر عادي ، كنوع الأكل الذي كأنه يتفاجأ به بعد غياب طويل ؛ كان يعود في الصباح ، فطاره طبيخ ، ثم يدخل ؛ لينام حتى العصر أو المغرب ، بعدها إلى االحياة : عشرتين طاولة مع شلة القهوة ، وفي الثامنة يتوجه إلى عمله بمحطة بنزين مصر للبترول . وردية الليل كانت بالتناوب ، إلا أنه يعشقها ، كأن به رغبة داخلية أن يكون في النهار خارج أسوار العمل ، حتى وإن كان في السرير يأكل مع الملائكة . ملائكته لا تعمل ليلا . هذا ينسجم أكثر مع شخصيته التي تكره العمل ، لم يحب العمل أبدا ، أي عمل .
محمود الزيات صاحب خط جميل ، مؤهل للعمل كخطاط ، وعمل فعلا ، لكن دون احتراف ، يكتب " لِستة " الأسعار للمحال التجارية من معارفه ، دون مقابل تقريبا اللهم بعض النفحات كشنطة بها زيت وسكر وبعض الجِبَن ، يأخذها بعد ضغط كبير ، أو طلبات مجانية في القهوة في الأيام القليلة التالية لنشاطه ، كثيرا ما حثته صفية على الاحتراف بطرق متعددة ، حين يقوم بعمل وسائل تعليمية مطلوبة لنجوى ابنة زوجته ، كان ينجزها بمزاج عال .
نجوى التلميذة في الصف السادس الابتدائي صديقته الصدوقة ، في العصاري بعد نومة طويلة ينادي عليها: تعالي يا نوجة ، روحي اغسلي شعرك ، وتستكن في كنفه وهو يسرِّح لها شعرها ويضفره ، يمشي خطوات في الضفيرة ثم يرفعها إلى أعلي ويعاين ، ويرسم علامة استحسان بوجهه ثم يكمل ، أو " تؤتؤ " ويفك الضفيرة مرة أخرى ويبدأ من جديد ، تقول له " بابا محمود " . علاقة محمود بنجوى بسيطة ومتشعبة ، فيها من الحنان وفيها من غيره . نجوى بالنسبة له ، طبقا للمتاح ، أكثر بكثير من علاقة أب بابنته ، أو بابنة زوجته ، كانت تمثل له فيما يبدو جنس النساء رغم طفولتها . ألن تصير امرأة في يوم ما ؟ وهل الأطفال من النساء لسن بنساء؟ سعادة حقيقية تغمره حين تكون صفية خارج البيت لسبب أو لآخر ، ويصبح البيت " الغرفة والصالة " لهما وحدهما ، كأن عزيزا لديه ، يكشف عن مهاراته في الطبخ ، ينزل ليشتري مستلزمات الطبخة دون حسابات ، بسخاء أو بتبذير . لا أعزَّ من نجوى . يشمر ويطلب منها أن تشاركه في المعمعة التي يدخل فيها مختارا ، حلاوة الأكل في إعداده ، في استطعامه وهو قيد الصنع . يلتفان معا حول الأطباق كأنهما جماعة . الأكل يحب اللمة. واللمة ليست بالعدد . في حضرتها أيضا يدندن أغانيه الحبيبة ، في هذه الأحوال تسكن نوجة ، ويهدأ بالها الصغير . على يديه حفظت الكثير من أغاني الست وعبد الوهاب ونازك ، في آواخر رمضان كان ينشد علانية برجاء خاص من المستمعة الذواقة العارفة حتى في حضور صفية ، كان ينشد " هل البدر بدري والأيام بتجري / والله لسه بدري يا شهر الصيام " . هذه الأغنية تؤذيه أذى نادرا ، يكاد يبكي وهو يغني ، ليس لوداع الشهر الكريم ، لكن على كل شهر كريم . يوقن محمود ، رغم استماعه إلى الأغنية آلاف المرات ، أن نور الهدى كل مرة ستفاجئه ، وأن دموعه لن تخيّب الرجاء .
لم يكن محمود هو أول بخت صفية كما نعرف ، تزوجت أولا من " أبو نجوى " ، الذي طلقها بعد سنة واحدة ، ثم سرعان ما طلق الدينا كلها ، وأصبحت سيرته تأتي مشفوعة بـ الله يرحمه . لم تعش نجوى أجواء أب بعيد ، وزوج أم ، أبوها هو المرحوم من البداية.

حدث أن اختار محمود صفية بعد أن راقبها طويلا في المربع الذي يقع فيه عمله ، عند البقال والخضري والمكوجي ، حيث أصحابه وزملاء المربع ، كانت تعمل خادمة ، منذ سنين ، عند أسرة ميسورة بعض الشيء . صفية مشهود لها بحسن الخلق وحسن الطبخ ، هي ليست كبعضهن ، بتعرف ربنا . لمحمود تكييف لغوي لصنعتها : بتساعد ناس طيبين قوي في شغل البيت .
ما الذي شد محمود المعروف عنه الطيبة وضيق الخلق معا ؟ يُشهد لمحمود بالأمانة ، الأمانة المجردة التي ربما تكون بلا أهداف . بطبيعته ما يحبش العوج . مستقيم ، للاستقامة صور متعددة وغريبة . ما الذي شد محمود إلى هذه المرأة متوسطة الجمال؟ نعم ذات قوام ممشوق ، كان محمود يخفض رأسه ليطمئن على جمال ساقيها وحظهما من الامتلاء ، أو إلى مصيره عندما يكون في حضرة هذا الحضن . كان يفعل ذلك من باب السنن لا الفرائض ، إلا أني أعتقد أنها كانت بالنسبة له سننا ملزمة ، ما الذي شد محمود الذي قارب الأربعين ، وعرف عددا لا بأس به من نساء الليل والنهار ؟ ربما يكون إحساسه بتميزها ، صفية تنتمي إلى طبقة أخرى رغم عوزها وضيق ذات يدها ؛ عندها طريقة في الكلام ، عندها أسلوب ، صفية ليست خادمة ، صفية بتساعد ناس طيبين .

الفن أيضا جمع بينهما ، عرف ميلها لقراءة المجلات الفنية كالموعد والشبكة ، وخبر مستواها واطلاعها في ميادين الأغاني والأفلام . نعم عكر صفوه ذات يوم أنها عاشقة مخلصة لفريد الأطرش الذي لم يبلعه أبدا ، إلا أنه قال في نفسه مستلهما ديموقراطية دفينة : ليست مشكلة ، المهم أننا معا في ميدان واحد . صفية ليست مجرد معجبة بفريد ، لفريد صورة في محفظتها الصغيرة ، وصورة أخرى كبيرة معلقة في صالة بيته - بيتهما ، نستطيع أن نقول إن صفيه هي المستهدفة رقم واحد في عقل صناع الأفلام ، أفلام فاتن ومديحة يسري ومريم فخر الدين . تجلس بأدب جم أمام التليفزيون ، أو شاشة السينما ؛ ليتحقق المراد ( فنانون وجمهور ) . ملابس وديكور وعربيات وبيوت ، رجال ونساء وأطفال ، ودكاترة وعيانين ، ظلمة وطيبين، وتمثيل وتمثيل ؛ ليحدث التصديق . صفية – واللهِ - تُصدِّق ، هي لا تحتاج إلى كل هذه الغلبة التي يتسلح به صناع الأفلام . كانت تحسن الظن بهم ، وربما تكمل – كمتفرجة محترفة - ما نقص . دموعها تنزل بسهولة . تحب حكي الأفلام ، محمود يسعده هذا ، ويؤكد له أنه محاط ببركة دعاء الوالدين . يعلي من شأنه العالي أصلا .
ما الذي شد محمود ؟ محمود الزيات صاحب الخط الجميل والأذن الموسيقية والنفسية التي – قطعا - تصلح لغير ما قُدر له . كان قد ترك المدرسة بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية ، يقول تركت المدرسة عشان أشرب سجاير ، عايز أشتغل وأكسب وأشرب سجاير براحتي ، هو يقول ذلك . ثم يكمل قررت أطَّوع في الجيش وذهبت فعلا للاختبار ، لكن أباه مانع بشدة ، وتوسَّل بأعمامه ومعارفه ؛ ليثنوا محمود ، وحدث أن وصلوا معه إلى تسوية : يترك المدرسة ، لكن لا يتطوع في الجيش . عمل محمود ككاتب في شركات كثيرة ، واستقر أخيرا في بنزينة مصر للبترول التي تخضع لشركة قطاع عام ، عمل فيه براتب ثابت ، ومعاش ، وأيضا بقشيش . جرب في بداية عمله أن يلتحق بفريق الغسيل في البنزينة ، حيث البقشيس أكثر ، إلا أنه رآه نوعا من المرمطة لا تليق بمتعلم مثله ، أضف إلى ذلك أن الغسيل عمل نهاري .
إذن اعتبر محمود أن صفية في نفس مستواه العلمي والفكري ، إضافة إلى الهوايات المشتركة . غير أنه بعد سنوات ليست بكثيرة بدأ يمل ، ليست الهوايات المشتركة شرطا كافيا ، وبدا له أنه استهان بمسألة فريد الأطرش تلك ، ولم يعطها حقها من التقييم .لم يحذر ، ولم يحاذر . فريد الأطرش كان علامة لكنه لم يتسلمها ، ما قيمة قوامها الممشوق وصدرها الذي مازال يقدره ، يقدره بمهنية رجل ، " لكنها ليست هي " يقول لنفسه ، كان محمود – تقريبا – يعول كثيرا على مقومات غامضة ، لدى صفية مقومات ما ظهر منها ليس سوى العلامات ، الأدب الجم ، فضلا عن مواهبها في لياليهما ، مواهب سرته وفاجأته. المفاجآت تعطل الملل ، وبها شُبهة أمل ، خصوصا المفاجآت التي لمَّا تأت بعد.
كانت نوجة عجينة واعدة فيما رأى محمود ، ومن جانبه لم يقصر .لم تنقطع مداخلاته التربوية الصادقة . مع الأيام أصبح كمن يلتقي خطيبته في بيت زوجته وحضرتها . صار يحتمل صفية رغم ما أفسده الدهر ؛ أليس واجبا عليه أن يضحي من أجل ابنته ؟! أليست في منزلة ابنته ؟ أليست أعز ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من