الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتشرد

رفيف الشيخلي

2013 / 10 / 8
الادب والفن


يسكن العراء كي لا يخسر حريته... يحبذ المبيت في أي زقاق تصل إليه قدماه، عوض منزل يحجر على عفويته و تناقضاته... لكنه أيضا مستعد لإعطاء حياته ثمنا للدفاع عمن يحترمون إنسانيته ويتفهمون تشرده... تعلمت كل ذلك من صديقي المتشرد "حسن"...
كان ذلك في سن المراهقة. وكنت ككل الناس و خصوصا المراهقات أخاف منه و أتجنبه. كان يسكن شوارع و أزقة الحي الذي أسكن فيه... يبيع الورد نهارا ليشتري بالمال خمرا لليله... و ككل المتشردين، كان دائم الغضب و مشاكساً. لا يكف عن المشاجرات و الصراخ و السب و الشتم...
قصتي معه لها بدايتان: الأولى- كنت مع أبي في الحي، و كنت أسبقه ببضع خطوات. فجأة وقف "حسن" أمامي وقدم لي وردة. طبعا تحولت إلى صنم لا أجرؤ على أي تصرف!. في تلك اللحظة، تقدم أبي و قال: "خذيها منه و اشكريه". بمجرد أن فعلت، أكمل "حسن" طريقه دون أن يأخذ ثمن وردته... جعلني ذلك أتخلص من خوفي منه. لم أعد أعبر إلى الجهة الأخرى إن صادفته، و اختفت نظراتي التي كنت أحتمي بها منه... إلى أن توجهت ذات يوم لأشتري بعض الفواكه الجافة من الحي.. و جاء "حسن" و طلب سيجارة. إلا أن البائع نظر إليه بكل غضب و استهزاء، ثم قال له صارخا: "اغرب عن وجهي، لن أبيعك ما تريد !" حاول "حسن" أن يعيد طلبه. لكن البائع كرر: "اذهب و إلا..." فابتعد مسافة حوالي مترين. وقف وعلى وجهه علامات غضب و إحساس بالذل و الحزن. ثم انتبه إلى أني انظر إليه. (و انتبه أيضا أني حزينة لأجله). ففتح كفه التي كان يقبض بها على درهمين و قال لي: "أنا أملك المال، لم لا يعاملني كأي زبون؟"، في تلك اللحظة، و بدون أي تفكير، و بشكل تلقائي جدا، توجهت إليه، أخذت من كفه النقود، و اشتريت له ما يريد. فتح فاه! لكنه لم يتفوه بأي حرف، نظر إلي بعينين حاول جاهدا أن يمنع الدموع من السقوط منهما. فهمت أنه يشكرني، وعدت إلى منزلي. وكانت هذه البداية الثانية للقصة...
صرت كلما صادفته أحييه ضاحكة و أنا أردد "أهلا حسن"، و كان هو ينظر إلي بابتسامة خفية.. كان كما المارد السحري، لا أعرف ولا أفهم كيف يظهر أمامي في الأوقات و الظروف التي أحس بها بنوع من الضيق أو الانزعاج. حين أتعرض لتحرش أو سوء فهم، و كأن بداخله جرساً ينبهه إلى ذلك. أذكرمرة أني كنت عائدة الى الدار، ومررت بالقرب من أحد بارات الحي، في تلك اللحظة، خرج رجل يبدو أنه ثمل جدا، رجل بكامل أناقته، حاول أن يكلمني. و عندما تجاهلته و أكملت طريقي، حاول أن يمسك بذراعي كي أتوقف، في تلك الثانية بالضبط، ظهر المارد، بكل الشر و الغضب الذي يملكه، جرني إلى قربه و قال للرجل: "اتركها و اذهب". لكن الرجل حاول أن يبدو شجاعاً ولا يخاف، فاعترض طريقي مرة أخرى، فما كان من "حسن" إلا أن، كما السحرة،لا أدري من أين أخرج قنينة خمر و أمسكها من عنقها و ضربها في الحائط، ثم لوح بها أمام وجه الرجل الذي فر راكضا. لكن، الأغرب، أنه وقف أمامي مرة، و سألني: "ما بك؟" استغربت جدا سؤاله، لأني فعلا كنت أشعر بحزن. أجبته بألا شيء يذكر. تمعن في وجهي ثم أردف: "أحيانا نحتاج للمتشرد !" ...
إلا أن صديقي هذا لم يكن يقبل مني أي نوع من المساعدة، لمحته مرة يستجدي، ذهبت وأعطيته القليل من النقود. لكنه رفض أخذها ! و عندما ألححت عليه، أخذها و ذهب مسرعا ليشتري قطعة شوكولا قدمها لي و هو يردد: "لا تكرري ذلك ثانية"... مع ان الذكرى الغريبة و المؤثرة فعلا و التي بقيت عالقة في ذاكرتي بشكل لامع، هي حين مررت بالزقاق، و كان هو يتبادل السباب والشتائم مع رجل، رجل أنيق ببدلة و ربطة عنق. لكن "حسن" سكت و كف عن السباب بمجرد أن لمحني. طبعا بقي الرجل يزيد من حدة كلماته السوقية والبذيئة... و حسن ساكت ! ثم أشار إلي بأصبعه، و هو يوجه كلامه للرجل: "أنتظر فقط أن تمر هذه الفتاة، لا أريد التلفظ بهذه الكلمات أمامها"...
ومع أن للقصة بدايتين، الا أن نهايتها واحدة. مات "حسن" بعد ذلك بحوالي سنتين، مات بسبب الإدمان على الخمر. وقبل أن يعرف اني تعلمت منه كيف أكون صديقة للمتشردين و المشردين، لم يعلم أني صادقت كل متشردي الحي من بعده، إحياء لذكراه... بل إني أصبحت مثله متشردة.غير أن الفرق بيني و بينه، أن لي منزلا و ملابسي أقل اتساخا و... لكني أعي أن التشرد يتيح لي العيش بكل حرية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي