الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الومضات الخرافية

بديع الآلوسي

2013 / 10 / 14
الادب والفن


هنالك كثيرون لا يصدقون ان حصانا ً عجوزا ًمثلي يمكنه ان يقول لعفراء : نعم ، سأحاول .
وبما أن الأمر جرى على هذه الشاكلة ، فقد كنت سعيدا ً ، حين سمعتها تقول لي :
ـ ان تسرد لهم ما سيحدث ، فهذا الخيار هو أكثر الخيارات إثارة وأكثرها فكاهة .
لقد كنت على قناعة دوما ًمن أنه لا يوجد في الحياة أجمل من رحلة مباركة ، ولكني صراحة ً استغربت كثيرا ً حين سمعت منه ذلك التساؤل المتوتر .
هل سنعود سالمين ؟ ، هذا ما قاله أخوها بعدما أحس أن الطريق هو الهدف.
كنا نمشي بإيقاع رتيب بتلك السفوح والطرقات المؤدية نحو جبل النور ،
يجر عناني شاب اسمر نبيل بعينين تشبهان عيني نمر يقظ .
(عفراء الصائغ) وحدها من كانت تسير خلفي ، بردائها الأخضر الطويل وعصابتها البيضاء التي تقيها حرارة منتصف حزيران ، متذكرة أن هذه الرحلة تشحن حواسها بشجاعة وسلام نادرين .
كانت هي وأخوها يتجاذبان أطراف الحديث لطرد إزعاجات اليأس والإحباط ، يمضيان ويمضيان بإصرار عنيد دون أن يلتفتا إلى الوراء حيث قريتهم التي أطلق عليها أحد الأولياء تسمية ( الخواريق) . ما زالت عفراء لا تعرف أهو الشيطان أم الملاك من حفز في ذهنها هاجس التجربة ، ولكن الفكرة ما كانت لتنضج لو لم يقل لها الدرويش عبارته التي فجرت ذلك الحلم : جبل النور يناديك لتتطهري،
أهالي الخواريق يشبهون آلاف البشر القرويين الذين ينتشرون في عموم المملكة وخارجها ، فهم يضحكون ويسخرون من الأحلام البراقة . نعم ، هم قانعون بقضاء الله وحكمته . كانت عفراء أكثر النساء جرأة ً، وتجيب بصوت واضح : لمن جبل النور ، لنا أم للرب ؟ . عند المساء وحينما يبدأ القمر بالظهور تُعجل بغلق زريبة أبقارها ، وتذهب بلا عجلة من أمرها تتدثر وتروي لأختها حكايات طويلة يختلقها ذهنها ، وأحيانا ً تذرف الدموع وتغط في النوم ، عسى أن تأتيها ومضة خرافية أخرى تطالبها بالتريث او التخلي عن هذه المهمة الصعبة . مع شروق شمس جديدة حكت لأبيها فقط ما يدور في بالها ، بينما هما يسيران في الحقل غير مكترثين بروتين الحياة او الغربان ، لا تعرف لماذا تتذكر كلماته الحاذقة الان :
ـ الومضات الخرافية لرؤية الأراضي المقدسة لا تصدر عن روح خبيثة .
هكذا خففت عن نفسها العذاب ، فجاءها قبل أسبوعين وللمرة الثانية ومضة عذبة وسألها : ماذا تنتظرين ؟ ، وعندما استفاقت تعجبت من تلك الومضات الخرافية التي صارت تلح عليها وتوصيها برؤية جبل النور .
أغمضت عينيها وكادت تتعثر وهي تسمع أخاها يتوقف ليخبرها فجأة :
ـ سنصل بعد أسبوع . هذا ، إذا ما سرنا عشرة كيلومترات في اليوم .
قبل أثنى عشر يوما ً أدركت أن تغييرا ً كبيرا ً في حياتها على وشك الحدوث ، في تلك الليلة كانت مسرورة وهي تتأمل أخاها الذي لم يعد صبيا ً ، لم تتردد أن تبوح له بتفاصيل الومضات التي تهب عليها وتصيبها بالذهول . دنا منها وبهمس قال : حقا ً إنها فكرة مجنونة ، أتعرفين ماذا يعني أن نذهب سيرا ً على الأقدام حتى جبل النور ؟
كانت عفراء عنيدة ، وكانت الكلاب والثور أكثر هياجا ً ، ارتجفت شفتا أخيها وهب واقفا ً وهو يضرب الأرض بعصاه ، حدق بها وقال كلمة واحدة : موافق .
بدا لي أخوها رحيما ً ، توقف وبسخرية قال : هذا الحصان عاثر الحظ ، لكنه بحاجة إلى الماء مثلنا . ورمى عن كاهلي الأحمال والمؤن الضرورية .
تنفست عفراء الصعداء ، وبدأت تردد ذلك الدعاء الذي كانت كل صباح تسمعه من أبيها : ( ربي أسألك فرجا ً لهمومنا ، وفرحة ً لقلوبنا ، ومغفرة ً لذنوبنا ، وتيسيراً لأمورنا ) . في ذلك النهار وبالرغم من التعب لكنها كانت سعيدة برؤية الغزلان المتقافزة ، وبذلك الطائر الأزرق الذي صار ينشد على غصن شجرة الزيتون ، والذي توقف عن التغريد عندما قال أخوها : ـ ليس ثمة وقت أمامنا يجب أن نواصل .

في هذه الرحلة ، ومنذ اليوم الأول أحسست أنها ترتوي وتستلذ بتفاصيل الطبيعة الربانية ، وكأنها تنتصر على حزن سابق . نعم ، لكني أتوقع إنها أدركت كل ذلك متأخرا ً . في الليل كان قلبها يرتجف مخافة ان تأمرها ومضات خرافية جديد بالعودة ، كانت تطيل التأمل بالنجوم ، وتطلب من السماء شيئا ً من الهدوء كي لا تبكي ، لكن الملائكة كانوا يهمسون في أذنها بهمهمات تثير في روحها شعورا ً مفرحا ً .
قبل يومين ، ومع شروق نهارها الحالم ، وقبل ان تفتح حظيرة بقراتها الأربع ، استرعى انتباهها أصوات غريبة ، فقفلت عائدة إلى باحة الدار لتجد صويحباتها الفضوليات ، ولتقول لها أحداهن :
ـ ما الذي تنوين فعله يا مجنونة ؟. نعم سمعتها تقول لها يا ...

تحدثن وثرثرن حول العطف على الأطفال ونفقات المطبخ ومواعيد الزرع ، لكن ما لبث ان عاد بهن مسار الحديث إلى مشكلة السفر التي تخيفهن ، حتى بادرت إحداهن قائلة ً :
ـ أتمنى ان تفكري جيدا ً قبل ان تبيعي البقرة .
وأردفت أخرى :
ـ ستأكلك الذئاب ، قبل أن تصلي الهدف .
لكن عجوزا ً أرملة ً وقفت وسدت منافذ الحديث بقولها :
ـ اذهبي فأنت مأمورة ، أتمنى لكِ سفرا ً ميمونا ً، وفي كل خطوة أجرا ًوثوابا ً .
في اليوم الثاني لحظتُ على ملامحها مشقة الرحلة ، حيث الأرض كانت أكثر وعورة وقسوة ، والدروب بصخورها تعيق حركة خطواتنا ، حتى كاد ذلك أن يكسر حافري .
ما لفت انتباههما أن العصافير فضلت البقاء في الوادي .وأنهما من فوق تلك الربوة العالية لاحت لهما مئذنة القرية ، نعم ، بدأ الوقت يمر ثقيلا ًوهما يحثان الخطى دون أية ضحكة أو مسامرة . فالطريق كان طويلا ً إلى أن وصلا تلك السدرة التي مكثا تحتها بعض الوقت حتى هدأت أشعة الشمس .
كان الأخ صبورا ً ، متقشفا ً حتى بشرب الماء ، وبسخاء يرتجل الكلام ليبرهن لعفراء انه لن يتخلى عنها في أتعس الظروف ، لكنها أحست بقلق ممض ما أن قال لها :
ـ إذا لم تموتي في منتصف الطريق فستكتشفين معنى السعادة .

قبل أشهر ، لم يكن في ذهنها سوى الاهتمام والعناية ببقراتها الأربع ، لكن قبل يومين من سفرها رددت نفسها : ماذا بوسعي أن أفعل ؟ . نعم ، لم يكن أمامها من حل آخر ، خاصة ً وإنها لا تملك المئة والخمسين ريالاً الضرورية للسفر . مما ضاعف من همها ، وأشعرها بألم أسفل بطنها ،

وحين قررت بيع البقرة البلقاء ، ارتجفت يداها وهي تستلم من القصاب ثمنها . وهو يقول لها :
ـ لا أعرف كم تزن ، لكني غدا ً سأعرف ذلك حتما ، لحظة يبارك شيخ القرية نحرها في الصباح الباكر .
لم تجد من يخفف عنها حزنها ، وإذا بأبيها يختصر الكلام ويقول لها كلمات ظلت تؤازرها طوال الرحلة : يا بنيتي ، جبل النور تشفى فيه قروح الروح .

كانا يسيران ساعتين مع بزوغ الفجر، خوفا ً من ضربة شمس محتملة ، وكذلك السير الحثيث عصرا ً لساعات عدة ، وهما يحلمان برؤية الصفاء المشع كالبلور لذلك الجبل , الذي يتوافد إليه الفقراء طلبا ً للتطبب والبركة . قالت عفراء بعد ان لمحت هواجس الضجر تلف بأخيها :
ـ هناك ستنتهي الآلام ، هناك سنتطهر من الذنوب .

في اليوم الثالث قال الأخ : الطريق طويل ، واعتقد أني أضعت الهدف .
كان هذا التصريح كارثيا ً على قلب عفراء ، خاصة ًبعد أن بدأت تحس بحرقة في أسفل قدميها ، اللتين ما أن عرضتهما على أخيها حتى بدأ يبكي وهو يرى القروح تنزف دما ً .
كل ذلك أضطرهما للنزول بحذر إلى الوادي ، في تلك الليلة بدأت عفراء تهذي وتحول في ذهنها الأمل إلى ندم بسبب الحمى ، وبدأت الكوابيس تطاردها ، كانت تظن أن أخاها سيتركها في هذا الوادي المعزول ، هذه التفاصيل أنهكتها لثلاثة ايام ، حينها توقعت انه سيقتلها ، ما ان سمعته يقول قبل أن يهجع إلى فراشه : الموت وحده يحسسنا بالراحة الحقيقية .
بعدها استعادت نشاطها بعض الشيء ، فواصلا التقدم في تلك المنعطفات . السيء في الأمر ، ان أخاها لم يعد قادرا ً على أعانتها لمسافات أضافية ، أحست انه يقوم بكل ذلك مكرها ً ، في الليلة التالية وقبل ان يهجعا قال لها : خروجنا ليس للنزهة ، حاولي ان تتذكري شيئا ً واحدا ً هو جبل النور ، حيث الزهر والشجر والطير .
لكنها طالبته بالرجوع بعد أن رأت القبور التي تتناثر هنا وهناك في دروب الصحراء . تحت شجرة ( الكرزيم ) كانا يختبئان من سطوة الشمس ، يا لها من عزلة ، ما أن خيمت الظلمة على المكان ، حتى أحسا أن روحيهما تتشبثان بأمل جديد .
هما لا يعرفان إن كانا قد غفيا أم أنهما بعد على أعتاب اليقظة ، حينما سمعا عواء ذئب جائع ، أضرما النار لتطرد عنهما الوحشة ، حينها قال لها مبتسما ً : بندقيتي القديمة تكفي للإجهاز عليه .
مع الفجر تأبط ذراعها وغادرا المكان ، ليصلا بعد سويعات إلى تلك القرية الرافلة بسلام نادر ، حيث وجدا الراحة الضرورية ، التي أعادت الطمأنينة لقلبيهما .
في تلك الواحة ، بدأت القروح تندمل ، أحسا بالانتصار عندما قال لهما احد القرويين : لا تنظرا إلى الوراء ، لأنكما ستصلان جبل النور بعد يومين .
غادرنا ذلك الريف الرافل بالهدوء والموسيقى ، كانت عيونهما مصوبة الى ذلك الجبل الذي لم يعد سرابا ً ، بدأ الاثنان يحثان الخطى وهما يرددان دعاء الأب ، ويتبعان خطى الحالمين الذين قرروا الحج الى جبل النور ليتطهروا .
أكثر ما كان يخيف عفراء هو أن تضيع أخاها في ذلك الزحام الذي لفه الغبار ، وهي تمسك بذراع أخيها قالت له : العجاج يذكرني بعودة الأغنام إلى القرية .
أمامهما ثلاث ساعات حتى يصلا إلى تلك الأرض المباركة ، لكن قيظ الشمس ادخلهما في امتحان جديد ، صار مواصلة السير متعذرة بالنسبة إلى أخيها ، حيث لم يتمكن من تحمل الحمى التي داهمته فجأة ً ، مما اضطرها الى أن تمكث معه تحت شجيرات ( الكندول ) ، وعيناها ترنوان بعيدا ً إلى تلك الوديان الخضراء التي تحيط بجبل النور .
أخوها الذي ما عاد بمقدوره أن يستمع لما تقوله اثر تلك الحمى التي أنهكته ، كان يتوسد ركبتها كطفل حالم ، ما أن استفاق من إغفاءته حتى قال لها : اذهبي وواصلي السير مع الحجاج ، يجب أن يصل احدنا إلى الهدف .
ذرفت الدموع ، فهي تعرف أنها غير قادرة لوحدها على مواصلة الرحلة ، وأحست أن التخلي عنه لا يزيدها إلا شعورا ً مضاعفا ً بالذنب .
لم تقو على تحمل أنينه طوال الليل ، ولا هاجس موته بين يديها ، حينها لم تكن تعرف ماذا عليها أن تفعل ، بعد كل ما بذلته لكن أخاها لم يفتح عينيه ، و بصوت يشبه من يصغي إلى حتفه ، قال لها كلاما مفزعا ً:
ـ لا تحزني ، أن راحتي الأبدية ها هنا .
لكنه في اليوم التالي واصل صلواته وعادت الابتسامة الى شفتيه ، كل ذلك كان ذا اثر طيب على نفس عفراء ، التي شمت رائحة الموت الحائم حول أخيها .
الحجاج الطيبون الذين كانوا يقدمون لهم الماء والأكل ، كانوا أيضا يصلون ويثرثرون ويغنون معهم .
في الليل ، كانا يشعران بحلول الفرج القريب ، وهما ينظران إلى تلك النار التي لا تنطفئ من على قمة الجبل .
ما أن وصلا تلك الأرض الطاهرة ، حتى امتزجت صلواتهما بروح المكان ، مما دفع بأخيها الى أن يسجد على الأرض ، وهو يردد بفرح : يا أطهر أرض ، أرضعينا الهداية .
مع ذلك ، فأن أكثر ما أثارنا هو مسجد الفسيفساء ، بباحته النابضة بالحياة ، حيث كانت هنالك أكشاك لبيع البلح الطازج ، ورواة للقصص يشبهون السحرة ، وحواة يداعبون الثعابين ، في ذلك المساء رأينا شيئا ً مذهلا ً ، حين قال درويش حاسر الرأس : أيها العروسان ، هل رأيتما بحياتكما ألعابا ًنارية ؟.
كانت عفراء مندهشة بتلك الصلوات الثملة التي تصعد كهدير نحو السماء ، أما أخوها فكان يتثاءب باحثا عن معنى السعادة بعد شقاء .
يبدو أن هذه الرحلة قد أنهكتهما ، من دون أن يجدا ما يعزيان به نفسيهما سوى ذلك التساؤل الغريب : هل انتصرنا على الشيطان ؟
بعد سبعة أيام قضوها في ربوع جبل النور ، كانا كمن يخوض مغامرة غامضة ، أحسا أنهما أكثر ضعفا ً أمام ذلك العدو المتخيل . مع مغيب الشمس ، أعادا تجهيز حقيبة السفر ، وتأملا تلك الغيمة الجاثمة فوق الجبل التي تشبه امرأة عارية محمولة على هودج .
بدأت الأفكار تلسع عفراء ، كانت أكثر حزنا ً ، أنهار السلام الذي جاءت تطلبه من سيد المكان ، فوخزتها الومضات الخرافية : ماذا تريدين أكثر من كل ذلك ؟ ، لكنها لم تفكر سوى بذلك الإحباط والتساؤل الذي يخدش صفاء اللحظة ، والذي ما أن قالته إلى أخيها حتى سالت الدموع على خديها الذابلتين : هل تطهرت أرواحنا حقا ً ؟
لكن أخاها ذا العينين الشبهتين بعيني نمر يقظ ، تساءل كمن يريد أن يزيل التباسا ً في ذهنه :
ـ لا ادري ، ولكن هل سنعود سالمين ؟

18 /7 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا