الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط أحزاب الأمم

عفيف رحمة
باحث

2013 / 10 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


بقراءة بسيطة لبرامج الأحزاب العقائدية التي ظهرت في سوريا منذ مطلع القرن العشرين، إسلامية كانت أم قومية و قومية يسارية، نتلمس من رؤيتها وممارساتها السياسية ثلاث مرتكزات ، المشروع الشمولي الموسوم بأمة إفتراضية، عقدة إمتلاك الحقيقة المطلقة، إقصائية الطروحات السياسية وتجاهلها للحقائق المادية للمجتمع.

مشاريع أممية صيغة ذهنياً برؤى ومقولات فلسفية تحاكي واقع إفتراضي مجرد من مكوناته الحقيقية ومناقض بمركباته للهويات التي أنتجتها الأقوام المنتشرة على مساحات جغرافيا هذه الأمم.

لتحقيق هذه المشاريع الأممية إرتكزت مجمل الحركات السياسية على فرضية الحقيقة المطلقة التي تبرر قمعها للتعددية بتجاهلها موضوعية التنوع العرقي والثقافي والديني، فرضية من حيث الفعل تناقض جدلية الحياة وقوانين سيرورتها وتفاعلية الثقافات فيها.

لقد كشفت مختلف الرؤى، الإسلامية، العربية القومية أو السورية الإقليمية، فظاظة أممها التي تعمل من أفرادها سلعة مكررة منتجة في مصنع بشري واحد.

لم يعرف التاريخ أمماً بالمعنى الحقيقي إلا تلك القبلية ما قبل المدينية، أمم القبائل ذات الدم الواحد، أما ما أتت به البرجوازيات الأوروبية بعد الثورة الصناعية من أمم تتمايز بها تعزيزاً لوجودها الطبقي فلم تكن أكثر من أمم سديمية التكوين قدمت بتعاريف وصفية يستحيل قياسها مادياً، سديمية حملت بمكوناتها عوامل تلاشي وجودها المفاهيمي في ظل التجمعات الإجتماعية الإقتصادية المعاصرة.

لم تختلف أمم الحركات السياسية في سورية عن الأمم الأوروبية إلا بشدة سديميتها وتعدد فواعيلها... وحدة الثقافة، وحدة الدين، وحدة اللغة، وحدة التاريخ، وحدة الإرادة ... ولتتجاوز النظرية سديمية الأمة، أجرت الحركات السياسية إسقاطاً لمعالم أمتها بمرآة الممارسة السياسية لتنسخ بها الأبعاد الحقيقية للواقع الإجتماعي والثقافي، ولتحول الحقيقة إلى ظل الحقيقة.

نسخ اللغات المتعددة بلغة الأمة والعقائد والمذاهب والديانات بدين الأمة ومذهبها، إصغار البنى الفكرية والثقافية لفكر وثقافة الأمة ...، هو نسخ قصري للهويات المتعددة بهوية أمة ذهنية لم تسعف الحركات السياسية على تنفيذ مشروعها السياسي بقدر الأزمة الفكرية الأخلاقية والوجودية التي أنتجتها والتي لم تحسن يوماً الخروج منها.

وإذا كان التاريخ شاهداً بالأمس على تهاوي التجربة الأممية للبعث بشقيه السوري والعراقي في محاولة لإحياء أمة العروبة، كما كان شاهداً قبل الأمس على تهاوي التجربة الناصرية في قيادة هذه الأمة، فها هو اليوم يسجل الفشل السياسي والأخلاقي لمشروع الإخوان المسلمين في تأطير أمة الإسلام في دولة.

سقط المشروع الأممي القصري وسقطت معه الحقيقة المطلقة مرتكز الفكر الشمولي، وانكشف نزوع هذه الحركات ومشاريعها الأممية نحو الإقصاء الممنهج للحقائق المادية والتاريخية كوسيلة للبرهان على سلامة النظرية السياسية.

ما هو جدير بالمعرفة أن الدولة العربية الإسلامية التي عرفتها شعوب المنطقة بعيد ظهور الإسلام لم تسعى صراحة لإلغاء الهوية الدينية والعرقية للأقوام التي سيطرت عليها، بإستثناء دولة الخلافة العثمانية التي سعت لكنها فشلت في تحقيق مشروع التتريك الذي فرضته في مراحلها المتقدمة والذي كان أحد أسباب ثورات الرفض والتمرد التي أدت لسقوطها.

وإذا شكلت الخلافة العثمانية مرتكز التضاد بين حركات أممية الإسلام التي تريد إعادة إحياء الخلافة كدولة أمة وحركات أممية العروبة التي نتجت كنقيضها التحرري، الأولى بسلفيتها والثانية بثوريتها، إلا أن كلتاهما إرتكزتا على منهج القمع السياسي والإقصاء الثقافي والديني والعرقي رغم زعمهما حداثة وإنسانية هويتهما الفكرية.

أما ما يثير الدهشة فهو التشابه إلى حد التطابق في حجج الدفاع وسندات الإتهام التي تستثمرها مجمل هذه الحركات في تفنيد وتعليل أسباب تجزئة الامة الغائبة، حيث تجد المؤامرة بمسمياتها واشكالها المختلفة مكاناً متقدماً في تفسير وتفنيد زوالها وتلاشي حضورها التاريخي.

على هذه المساحة، مساحة المؤامرة على الإسلام والمؤامرة على العروبة والمؤامرة على الأمة... والمؤامرات المتبادلة بين هذه الأمميات، تلتقي وتتشارك مجمل الحركات السياسية رغم التباين في جذورها العقائدية، حيث تجد ملتقاها على أرضية الموروث الديني الكامن في الوعي الباطن القائم على ثنائية الوجود، الخير والشر، الولاء والعداء، الوطنية والخيانة.

في ظل هذا الصخب العقائدي انساقت بعض التيارات الماركسية والشيوعية لتتبنى مبدأ الإقصاء السياسي والطبقي كسند لها في تحالفاتها السياسية ولتقفز فوق التاريخ وفوق ماديته، حيث فهمت من حرق المراحل تجاوز قصري وقمعي للطبقات والمكونات الإجتماعية، دون أن تعير أي إهتمام لجوهر نظريتها الثورية وإنسانيتها القائمة على الوعي والإدراك الفكري والمعرفي، الفردي والجمعي.

لم تستفد هذه الحركات السياسية أممية التطلع من الشواهد المعاصرة التي قدمها التاريخ الحديث وما انتجته العلاقات البشرية من دول ومجتمعات جديدة، حيث استطاعت بالديمقراطية المعاصرة أن تجعل من تعددية الهويات الإجتماعية والثقافية والدينية محركاً لبنى وعلاقات إقتصادية وإجتماعية جديدة قائمة على التشاركية الثقافية والمعرفية.

توافقت هذه الحركات بالفرضية وتباينت بمكونات الفرضية وسعة انتشار بيئتها، وكلما اتسعت رقعة الفرضية زادت التناقضات وتعددت عوامل سقوط الأمة. الأمة الإسلامية، الأمة العربية، الامة السورية، مشاريع إفتراضية لم تجد بداً لتعزيز وجودها من قهر الواقع أو إعادة إنتاجه وفق معايير ومقاييس الفرضية بحيث يتوافق مع الرؤية بدل أن تتوافق الرؤية مع الحقيقة، ولا بأس إن اقتضى الأمر التصفية الإثنية والدينية للإبقاء على الهوية التي تتلائم مع مشروعها الإفتراضي.

ظهرت الأمم الأوروبية لتنتهي بمفهوم الدولة المعاصرة الحاضنة لمختلف مكوناتها الفكرية والثقافية، كما سبق أن قدمت الخلافة العربية الإسلامية حالها كدولة لجميع مكوناتها الإجتماعية، وإن انساق السوريون في مطلع القرن العشرين لخلق أممهم السياسية كتقليد للأمم الأوروبية وكرد فعل على إستعمارية الأولى فإنهم اليوم أمام خيار واحد لا بديل عنه وهو بناء الدولة الحديثة بواقعها الإجتماعي والثقافي والديموغرافي كمقدمة اساسية وكشرط لازم لتساهم مستقبلاً في تشكيل تجمع إقتصادي اجتماعي جديد في إطره الإقليمية المعاصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليبيا: ماذا وراء لقاء رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني


.. صفاقس التونسية: ما المسكوت عنه في أزمة الهجرة غير النظامية؟




.. تونس: ما رد فعل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي بعد فتح تحقيق


.. تبون: -لاتنازل ولا مساومة- في ملف الذاكرة مع فرنسا




.. ما حقيقة فيديو لنزوح هائل من رفح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24