الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبرة التاريخية للغزو الأمريكي للعراق

سمير إسماعيل

2005 / 5 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


لا يمكن فهم حقيقة ومغزى الأحداث التاريخية الكبرى إلا بعد فترة من الزمن، أي حالما تهدأ العاصفة وتبدأ معالم الحطام أو البراعم الناشئة بينها. وفي كل الأحوال لا يمكن لهذه الصيغة الأدبية أن تفصح اكثر مما كشفت عنه الأحداث المتعلقة بالغزو الأمريكي للعراق والنتائج المترتبة عليه في مختلف الميادين والمجالات والمستويات.
فقد كان الغزو الأمريكي للعراق فعلا "تاريخيا" هائلا وضع وسوف يضع الكثير من القضايا النظرية والسياسية على جدول الأعمال أمام العالم العربي لعقود قادمة.
فالغزو الأمريكي للعراق لم يكن قضية داخلية للعراق فحسب . بل جسد في ذاته دراما العالم العربي المعاصر. بمعنى مهمة الابتداء من "الصفر" بعد قرن من النضال الوطني والقومي. وبغض النظر عن الغطاء الذي جرى تحته هذا الغزو والنتائج المترتبة عليه، فان مما لا شك فيه هو طبيعة الأزمة الشديدة التي لفت العراق ( والعالم العربي) ومهدت لامكانية الغزو والاحتلال وشرعنة بداياته الأولى (ما قبل الغزو) ومساعدته لاحقا من قبل اغلب الدول العربية والسكوت عليه لاحقا والاحتجاج "الخجول" عليه في مجال الدعاية والإعلام. وهي ظواهر تشير بمجموعها إلى أزمة العالم العربي المعاصر وانحطاطه المادي والمعنوي. وهو انحطاط متنوع المستويات والأحجام. لكنه يشير عموما إلى وجود خلل جوهري في مختلف المستويات، سوف اركز على ثلاث منها وهي القومي والسياسي والفكري.
فقد كشفت أحداث غزو العراق والنتائج المترتبة عليه في المستوى القومي على جملة النواقص الكبرى، التي كانت وما تزال تشكل أحد المصادر الكبرى لاستمرار الانحطاط المادي والمعنوي ، ومن ثم إمكانية "الغزو الخارجي". ومن بين أهم هذه النواقص انعدام أو فقدان الوحدة الداخلية بين دول العالم العربي. وهو مؤشر يكشف عن طبيعة الخلل ولحد ما الزيف فيما يسمى بالتنسيق العربي وتوحيد جهوده المشتركة. وقد وجد ذلك انعكاسه في النقص الثاني المتمم له ألا وهو انعدام التنسيق الإيجابي الفعال بين دول العالم العربي بصدد مواجهة الأخطار أو التحديات الخارجية. بمعنى اضمحلال الحس المشترك والمصالح الجوهرية المشتركة. وهي نتيجة وجدت انعكاسها العملي في ضعف جامعة الدولة العربية وفقدان آلية تنسيقها العملي لسياسات الدول العربية بالمعنى الاستراتيجي والتكتيكي. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن جامعة الدول هي إحدى اقدم المنظمات الدولية الكبرى في العالم المعاصر، من هنا يتضح حجم الفضيحة القائمة في شللها التاريخي وها مشيتها بالمعنى القومي والسياسي. وهي نتيجة ترتبط بدورها بالخلل القائم في تباين واختلاف وتضاد الرؤية السياسية للدول العربية بصدد "القضايا القومية الكبرى". وهو اختلاف وتباين وتضاد يعبر عن تنوع أنظمتها السياسية وتاريخ تطورها المعاصر، لكنه يشير بالمعنى القومي إلى أنها جميعا لم ترتق إلى مصاف الفكرة القومية العربية. وهو ضعف وجد انعكاسه في كافة المستويات (الحكومية والاجتماعية). مما يعني استفحال وتنامي التجزئة العربية على مستوى الواقع والفكر والنفسية. ومن ثم تصاعد أولوية القطري على العربي العام. وإذا كان لهذه الظاهرة، بوصفها إحدى النتائج المترتبة على ضعف العالم العربي وعدم قدرته بعد على حل إشكالية الوحدة العربية بأي شكل كان من أشكالها، بما في ذلك أكثرها تدنيا وبدائية، فان غزو العراق قد عمق هذا الخلل، أو كشف عن أبعاده السحيقة من خلال ظهور تضاد القطري والقومي في اغلب الجوانب. أما النتيجة الطبيعية لهذا الخلل فهو ظهور ضعف أو انعدام "النظام العربي" إلى السطح بوصفه واقعا وليس فرضية أو مؤامرة خارجية وما شابه ذلك. وإذا كان من الممكن الحديث عن "نظام عربي" فهو مجرد دعوى فردية أو جزئية أو دعائية أو قطرية بحتة . غير أن أحداث العراق والغزو الأمريكي له كشف عن تهرؤ هذا "النظام" على المستوى القومي. ومن ثم بين بصورة لا تقبل الجدل عن انعدام أية رؤية استراتيجية علمية عربية فيما يتعلق بأولويات العلاقات الدولية (الخارجية).
أما في المستوى السياسي (العملي) فقد كشف الغزو الأمريكي للعراق عن جملة نواقص كبرى وتشوه في مختلف مستويات حياته السياسية. ويمكن اعتبار الخلل جوهري في بنية الدولة هو أكثرها واكبرها خطورة. إذ فيه تكمن مقدمات "الغزو الخارجي". فمن المعلوم تاريخيا، إن الغزو الخارجي يبدء داخليا. بمعنى تراكم المقدمات والأسباب الفاعلة في مجال نخر المجتمع والأمة. وليس هناك من وحدة للأمة والمجتمع بدون الدولة. فهي أداة وضمانة الوحدة الاجتماعية والقومية. بل يمكننا القول، بان قوة الأمة والمجتمع مقرونة بقوة الدولة، وبالعكس أيضا. وهي وحدة متداخلة ومترابطة ترتقي إلى مصاف البديهية. إلا أن تجربة العراق والنتائج المترتبة عليها تكشف عن أن النخب السياسية والأحزاب لم ترتق بعد حتى إلى إدراك هذا المبدأ الذي اخذ يصبح من بديهيات العلم السياسي المعاصر. أما الضعف المكمل للخلل الشامل في بنية الدولة، فهو ضعف المجتمع المدني. إذ لا يمكن بناء دولة قوية وقومية بالمعنى السليم للكلمة دون مجتمع مدني يناسبها. فهو المصدر الذي يمد الدولة بقواها الاجتماعية الحية. وبدون هذه السلسلة المترابطة بين الدولة والمجتمع المدني يصبح من الصعب الحديث عن وجود وتأثير ثقافة وطنية وقومية قادرة على توحيد القوى الاجتماعية وقت الشدائد والدفاع عن النفس. ولعل أحداث العراق وسقوط بغداد يكشف أولا وقبل كل شئ عن انفراط حلقات هذه السلسلة الضرورية. وهو انفراط يشير بدوره إلى خلل جوهري آخر ألا وهو تشوه الرؤية الاجتماعية والأخلاقية عند النخب السياسية والمجتمع، عند السلطة والمعارضة. وذلك لان التشوه العام في بنية الدولة والسلطة والثقافة يؤدي إلى تشوه الرؤية السياسية ومن ثم جعل الجميع فريسة سهلة للقوى الأجنبية. وهو تشوه يستتبعه بالضرورة تصدع الفكرة الوطنية. ومن ثم الهبوط بها إلى مستويات متدنية في الوعي الاجتماعي والسياسي. وهو هبوط عادة ما يتخذ الصيغة العرقية أو الدينية الطائفية أو الجهوية أو مخلف تركيباتها. بمعنى الرجوع إلى زمن ما قبل الدولة. مع ما يترتب على ذلك من هبوط إلى معالم ما قبل الدولة. وهو هبوط يعجز عن تقديم أية بدائل واقعية وعقلانية للمشاكل المستفحلة. على العكس انه يبدأ بتعميقها وإعادة إنتاجها بصورة مخربة. مع ما يترتب على ذلك من تخبط في الرؤية السياسية عند الأغلبية. ومن ثم تعمق مكونات الخلل وتحولها إلى أزمة منظومية يدفع المجتمع وأجياله اللاحقة، والدولة ومؤسساتها ثمنها الباهظ لعقود طويلة.
أما في المستوى الفكري، فقد كشف الغزو الأمريكي للعراق عن ثلاث مظاهر كبرى لطبيعة الخلل الفكري. بمعنى نماذجه الكبرى التي كانت ما تزال تفعل باتجاه نخر الدولة العربية والمجتمع والثقافة ومن ثم اضعاف مناعتهم الذاتية. وبالتالي تحويل البلدان العربية إلى فريسة سهلة. وهي حالة لا تخص العالم العربي بقدر ما تخص كل منطقة وبلد. إلا أن خصوصيتها في العالم العربي برزت بصورة نموذجية في العراق والغزو الأمريكي له. ولعل أهم هذه المظاهر الكبرى هي أولا استفحال مختلف أشكال الرؤية اللاعقلانية والأصولية المتخلفة في الدفاع عن الفكرة القومية والوطنية. فقد دمرت الصدامية كل أشكال الرؤية العقلانية في بناء الدولة والمجتمع والثقافة والعلاقة بالطبيعة والإنسان والثروة. أما النتيجة فهي الاغتراب الشامل والتام والمطلق بين السلطة والمجتمع. أما الخلل الثاني فيقوم في تصدع الفكرة القومية والوطنية واحترابهما. وذلك لان تجربة العراق (وليس العراق فقط) تشير بوضوح إلى أن غياب العقلانية السياسية وسيادة مختلف أشكال اللاعقلانية تؤدي بالضرورة إلى إفراغ الفكرة القومية والوطنية من مضمونها الاجتماعي والإنساني. وتحولها بالتالي إلى كرات لا يجمعها شئ سوى قدرتها على التدحرج بين سيقان من هو اكثر قدرة على الجري والمهارة! وفيما لو وضعنا هذه الصيغة الأدبية بمعايير الرؤية السياسية فإننا نتوصل إلى واقع أفول الفكرة القومية التوتاليتارية وهزالة خطابها العام والخاص. وقد تكون هذه الحصيلة هي الأكثر إثارة فيما يتعلق بالجانب السياسي للفكرة القومية، أي سقوط نموذجها التوتاليتاري (الراديكالي).
إن الأحداث المقدمة للغزو الأمريكي للعراق والنتائج المترتبة عليه، وآفاق تطور العراق والمنطقة يقع ضمن أولويات الاستفادة من هذه العبرة المريرة ضرورة:
1. القضاء على النظام التوتاليتاري (نظام الحزب الواحد والأيديولوجية الواحدة )وإرساء أسس النظام الديمقراطي السياسي والاجتماعي عبر عملية إصلاحية منظومية (شاملة) من اجل بناء مقدمات الدولة الشرعية
2. تداول السلطة السياسية بطرق سلمية وشرعية
3. تطوبر المجتمع المدني ومؤسساته
4. التنمية العقلانية الشاملة
5. العدالة الاجتماعية
6. أولوية التربية والتعليم والصحة
7. الثقافة العقلانية والإنسانية

إن هذه الحصيلة النظرية والعلمية هي الوحيدة القادرة على مواجهة حالة الانحطاط المادي والمعنوي الذي يواجهه العالم العربي على مستوى الدولة والمجتمع والثقافة، وفي كافة مستوياته. بعبارة أخرى أن البدائل والخيارات ليست متنوعة، بل محدودة للغاية. وهي محصورة بثنائية خطرة أما الانحدار صوب الهاوية أو المرور مرة أخرى بالتجربة العراقية أو الخروج منها بطريقة تحفظ للدولة والمجتمع حريته الفعلية وتطوره المستديم. وهي حالة مرتبطة بصورة عضوية بالموقف من حقيقة الاستفادة الفعلية من عبرة الغزو الأمريكي للعراق.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأثير مقتل رئيسي على المشهد السياسي في إيران| المسائية


.. محاكمة غيابية بفرنسا لمسؤولين بالنظام السوري بتهمة ارتكاب جر




.. الخطوط السعودية تعلن عن شراء 105 طائرات من إيرباص في أكبر -ص


.. مقتل 7 فلسطينيين في عملية للجيش الإسرائيلي بجنين| #الظهيرة




.. واشنطن: عدد من الدول والجهات قدمت عشرات الأطنان من المساعدات