الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحزان الدم

فيحاء السامرائي

2013 / 10 / 21
الادب والفن


(أعترف أن ماستقرؤونه الآن في غاية البشاعة، أعتذر لكم، غير أن هناك واقعاً أبشع منه في بلدنا)
1) هل تأخذها؟...
تفتح عينيها ببطئ وهي ممدة على الرصيف، تجيل بالنظر فيما حولها، أوراق تتبعثر في الهواء وسُخام فحمي مغبر، تسمع جلبة، لغط، أنين، سباب، منبهات سيارات اسعاف وشرطة، طقطقة زجاج يتساقط متهشماً...رائحة لحم مشوي وغاز محروق تقرفها وتسود الأجواء فوضى عقب الحادث...تسترجع زمنها، قبل قليل كانت تسير مهمومة في الشارع وحدث ذلك الشيء المرّوع...قربها، تتناثرأحذية وأطراف ورؤوس لمن كانوا بشراً، تتفحص جسدها بعد أن تدفع عنها ذراع لأمرأة هوت على ذراعها...ماهذا؟ ذراع مرصو عليه أساور ذهب منتهياً بيد عامرة بخواتم ذهبية...
قبل أن يطردونها من عملها كـ (فرّاشة)، كانت تسرق كل ما تنساه الطالبات على المغاسل في المرافق الصحية وحتى مناشف صحية وصابون، تبيعها وتشتري بها طعاماُ ودواءً...ينتظرها في البيت زوج معوق، والدة مريضة، أطفال صغار جوعى وهي معيلتهم الوحيدة براتب لايكفي رغيف وجبة واحدة...
وهاهو بجوارها، ذهب يبرق بلمعة ووعود لا تستطيع نزعه من أصابع ومعصم هامد...
تذكر أنها رأت مثله حينما كانت صغيرة، يوم كانت تدخل الى غرفة تغسيل الموتى في المستشفى مكان عمل أبيها، تراه وهو ينفرد بموتاه خلسة ويفتش جيوبهم، يفرّغها من محتوياتها ويستولي على حلي خلاخليل سرقها جنود مقتولين في حرب الكويت، ينزع غنيمتهم من سيقانهم ويناولها لها لتخبئها بين طيّات ثيابها...
تتمعن في دماء قانية تلوّث لمعان المعدن الأصفر ويخفق قلبها...
- هل آخذ ما حباني القدر به دون غيري أم حرام؟ هل حلال أن تموت أم وينام أطفال دون طعام؟ أين رب العالمين ليجيبني؟ هل بإمكانه أن يوقف دموع مندلقة من عيني زوج عاجز ضعيف ويطعم ويكسي صغار لها وينجي عجوز من مرض كي لاأرتكب معصية؟ إلام أنتظر؟ وما أنا فاعلة؟ هل آخذها؟
تلملم أطراف عباءتها وتنهض سائرة بحذر..
- خالة...تعالي...محمد، تعال شوف هاي المرة دتنزف...خالة وين رايحة؟ تعالي احنا مثل ولدج
لاتبالي بصراخ وتحذير مسعفين يهرعون نحوها...يجبرونها على الوقوف، تتمنع وتقاوم وهم يحاولون عنوة فكّ اشتباك أصابع يدين متشبثتين بعباءتها...وحين يفلحون، تسقط منها يد بشرية ناضحة بالدم...
**********
2) عشرة (أوراق)...
يحمل اليوم بيده عشرة أوراق وهو حائر، يلتقط مسحاته ويتجه الى عمله، ورغم أنه كان عامل نظافة يستلم فوق مرتبه أحياناً 3000 من كل بيت، الا أنه بعد إحالته الى التقاعد، وبعد أن طرده من داره وتهجّيره الى بقعة أخرى، صار يستجدي المال...يتفاقم عوزه لمّا تلجأ اليه ابنة أرملة مع سبع أطفال لها، وتلحقها ثانية ريثما يعود زوج مختف...يختار له مكاناً بائناً مقابل جامع ويستجدي، يعرفه كل المصلين ومنهم مختار المحلّة، يجد له عملاً مؤقتاً وكلما تستدعي الضرورة...لايتطلب عمله الجديد مهارة أو مقدرة ماعدا قوة أعصاب وبأس، لا يُعدم هو منهما، وطالما اشتغل في شبابه مهنة أسوء من عمله الحالي، ذلك سر يخفيه عن أقرب الناس اليه، ويوشك أن ينفي ذكراه من باله...
- عمي، شغلتك تنظيف مكان الانفجارات بعد كل مفخخة والعياذ باللـه...
يلمّ بقايا بشرية في أكياس، يزيل بمسحاته ما علق على الجدران من لحومهم، يكنس مكان الفجيعة بمكنسة تصطبغ باللون الأحمر الذي اعتاد عليه من زمن بعيد حينما كان يشتغل كمنظف في أحد السجون...ينظف زنازين عفنة من مخلفّات معتقلين، ملابس مهترئة مقطعة تجفّ عليه دماء، جرادل براز وقيء، أشلاء ضامرة تموت في غفلة من زمن داعر جائر، حتى يسبب له كل ذلك صداعاً يقارعه بقنينة خمر كل ليلة... يكاد اليوم يسأم من خمر ودماء وعمْر وذل وشظف عيش وأفواه في البيت تنتظر قدومه...
عشرة أوراق بيده الآن، يشبع بها بطون جائعة ويتفادى عوز وقهر واستكانة...عشرة أوراق مقابل أن يخفي كيساً أسود يحمله معه الى مكان الانقاض بين ركام أنقاض متكاثر...
- لك مثلها في كل مرّة، العملية سهلة ويسيرة، وما من أحد يكتشف أمرك أو يفتشك...
يستدعونه حينما يحدث انفجار سيارة قريب، يذهب...يحمل كيساً أسود بيد، وباليد الثانية مسحاة لم يأبه بتنظيفها من دماء بائتة، وفي جيبه عشرة أوراق تنزّ دماً جديداً...
*********
3) راحوا...
ليس كل من يطلع للشوارع ويجمع من القمامة ما يمكن جمعه، يمكنه العمل كـ (عتّاكَـ)، وليس كل واحد يجمع قناني فارغة ومواد بلاستيكية أو معدنية وزجاجية، يتمكن من بيع محصوله الى من يعنيه أمر تلك النفايات...حتى تلك (الحرفة) صار لها قوانينها وملوكها ومحترفيها، وأم جاسم ليست واحدة منهم بالتأكيد، ولو كانت غير ذلك لما طردوها وأولادها ومنعوهم من ممارسة ( العتاكَة) في معظم المناطق، أمر اضطرها أن تلجا الى طريقة أخرى للعيش..تنتهز فرصة حصول انفجار سيارات مفخخة وانشغال ناس مسعفين وفضوليين بجرحى ومقتولين، فتدفع صغارها لالتقاط ما يتناثر على الأرض من ممتلكات شخصية للمصابين في الحادث...تلفونات جوّالة، مَحافِظ، قطع حلي ومصوغات، لو تكون محظوظة ذلك اليوم، في حين آخر لا يكون هناك محصول جيد أو تضايقهم قوات الشرطة وتطردهم من مكان الواقعة...
في باكر صباح يوم جمعة، تصحو على انفجار ضخم، يوقظها صوته من نومة بائسة...
- جاسم، عباس، كاظم...يلّة كَعدو، انفجار بالحسينية براس الشارع، يلة يلّة بسرعة...
ينهض الصغار بتثاقل، تحثّهم على الاسراع وتركض قبلهم الى مكان الصوت...جرحى يأنّون وقتلى بأعداد غير معلومة، دخان ينبعث من محرّك بقايا سيارة كانت مركونة قبالة الحسينية...يختلط ناس ناجين وشاتمين وميتين وماريّن منشغلين بما جرى، في جو يدخل وسطه أولاد صغار، يلتقطون ما يجدونه على الأرض ويركضون الى أمهم، يسلّمون ما وجدوه اليها ويعودون الى عملهم...
اليوم غنائمهم كثيرة، تجمعها في قطعة قماش كبيرة وتمضي مسرعة الى البيت، كي تعود مرّة أخرى فيما بعد...
تصل الى دارها حاملة صرتها، وعند باب الدار ، تسمع صوتاً مرعباً...
- يمعودين ابتعدوا عن المكان، هذا انفجار ثاني بنفس المكان ، انفجار مزدوج
تسقط صرتّها من يدها وعباءتها على الأرض، يراها الناس تجري نحو مكان الانفجار صارخة:
- جاســــــــــــــم، عبـــــــــــــاس، كــــــــــــاظم...
***********








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟