الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كرسي قماش

سلمى مأمون

2013 / 10 / 21
الادب والفن


كان هرم التقويم ( الرزنامة) جاثياً أعلى طابعة الحاسوب بمكتبي بلامبالاة. وقد بدت صفحاته المصقولة الملونة مطفأة، اكتست بغلالة ناعمة من الغبار. جذبته من موضعه بفضول، كأنني أقول له ( مَن أتى بك؟) ورفعته بين أصابعي كأنني أراه لأول مرة، ومررت فوق غربته منديلا ورقياً رطباً، لاحظت أنني لم أعدّل صفحته منذ شهور. لأنني أنساه معظم الوقت بفضل الهاتف النقال الذي قلّص التساؤل عن اليوم والتاريخ وجفف ولع اقتناء ساعات المعصم والأهم بالنسبة لي أنه رحَمني ووفّر عليّ كلفة الكاميرا والراديو والمنبِّه وغيرها من الاكسسوارات. لا ألتفت لوجود التقويم إلا حين يزدحم مكتبي واضطر لطرحه جنباً ليفسح لكثبان الورق حيزاً. لكنني غبت مدة طويلة عن طاولتي وعدت فكانت خاوية وفسيحة بقدر غير مألوف. فعثرت عليه وتعارفنا، وتصالحنا، وطويتُ صفحاته المنقضية وضبطته كما ينبغي.
دققت النظر إلى أكتوبر وبرزت بين الأرقام دائرتين حمراوين؛ كحدقتين متأججتين. لم تكن نظرتهما عادية ولا مطمئنة. حاصرتني فأغمضت جفوني واستدعيت حكاية مسارين افترقا منذ خمسة عشر عاماً بدون أن ينفصلا، رغم تعطل أحدهما تاركاً الآخر صاعداً يسابق ضعفه ليكون. بلى انقشعت دائرته وتبقت دائرة حمراء على التقويم. تتراقص، تركض، تهذي وتحنّ إلى كل ما لم يتاح لنا أن نحياه أو نفسره. لكنني لا أتأسى، بل اكتفي بالخلاصة، فقد تعلّمت مما عايشته إبّان( معاشِه) المرير ألاّ أرى ( معاشي) الداني حادثة مرعبة و( أتجرّس)! لا. لم يمت أحد أو يتم نفيه لمجرد بلوغه التقاعد، المشكلة في المرايا التي ستبهر عيونه بشرور البيئة، وقد يخذله محيطه قبل صحته. وقد يتهامسون: هل مازال فلان يعيش؟ لماذا؟ عشتها( تعسفياً) في مطلع العمر، وتعلمت درسي: تقاعد تقاعد، وأيه يعني؟ رفعت كتفيّ بلامبالاة وأعدت التقويم إلى مكانه، وخطرت لي مقولة أهلنا عن التهيؤ للمعاش بـ "كُرسي القماش".

كرسي القماش لا ينتمي للبيئة المحلية. لعله طراز من الأثاث موروث من حقبة الاستعمار، فقد ارتبط ببيوت( الأفندية) أي الموظفين حتى بدايات النصف الثاني من القرن الماضي. بلى، كرسي القماش أتذكره جيداً، بل أراه أمامي الآن: بقوائمه الخشبية الخفيفة، المسطحة كالمساطر، وجسده المكون من قطعة طولية، من قماش سميك أشبه بقماش الخيام، مقلم بألوان زاهية؛ برتقالي، أحمر، أخضر وأصفر. كل ما يتطلبه الأمر أن نثبت القوائم على الأرض فتنبسط القماشة كقوس مقعر مشدودة أطرافه العليا على القائم الخلفي بمسمارين، والأطراف السفلى بنفس الطريقة. كرسي رشيق سهل النقل والاستعمال. لقد كانوا سابقاً اكثر من كرسي ببيتنا، وكنا أطفالا نحب لعبته، فننصبه ونتبادل التكور بداخله ويفشل أصغرنا في الحفاظ على الكرسي ثابتا حين يجلس بداخله، فينطبق عليه ويجعله يبدو كحيوان بداخل شَرَك ثم يتدحرج منه وسط صيحاتنا وضحكنا. كان مصير أحد تلك الكراسي، من بعد أن أُهمل وجف الغراء أن تفككت أوصاله، وأُلقي به في ركن مهجور، لكنني في زمن ما منحته عمراً جديداً، سمّوها عملية( إعادة تدوير) لأنني صنّعت من قماشته حقيبة مدرسية لها أياد من الصوف البرتقالي الزاهي على شكل ضفائر مثبتة بطول جانبيها. كانت حقيبة ملفتة أثارت غيرة وتساؤلات زميلات الدراسة ( شنطتك حلوة، من أين لكِ بها)؟ قلت مازحة:( جلبتها أختي من القاهرة)! وصدقنني المسكينات!!!!!

لماذا ربط المواطن السوداني في تلك السنين، "كرسي القماش" بمرحلة التقاعد؟ ببساطة: لا علم لي. ولست أدري مَن أو ماهي الضرورة لنقل ذلك الطراز من الكراسي إلى السودان؟ هل هي الصدفة؟ فأنا لم أعثر عليه سوى في عدد محدود من البيوت أثناء طفولتي. كما أننا شعب لم تسمح له تقاليده المحافظة آنذاك ثم قوانينه لاحقاً وحتى الآن، بالسباحة والاسترخاء على الشواطئ بالمقاييس والثياب المتعارف عليها عالمياً. لماذا كرسي القماش؟ هل لأنه مريح يحاكي وضعية الجسد كيفما كانت، ويسمح القماش بالتهوية في بيئة حارة وجافة معظم أيام السنة؟ هل كان صيغة أخرى مشابهة لسرير( الهاموك) الذي يُصنع من الحبال ويعلق بين جذعي شجرتين في شواطيء جزر المحيطات، فيجعل الإنسان يحس بالاسترخاء أم هو مجرد طرفة؟ مؤسف أن" المعاشي" لا يملك أدنى فكرة عن استغلال المتبقي من عمره في عمل منتج أو أي نشاط يشعره بأهمية وجوده. فمن أحيل للتقاعد بلغة الواقع يعني أنه قد ألغيت صلاحيته. وليس أمامه من خيارات كنشاط حيوي سوى حضور مجالس العزاء والمناسبات السعيدة أو التنقل بين الرقاد وكرسي القماش. قلة من الناس تستطيع العثور على ما يستوعب طاقتها بعد تلك المرحلة. فيكون التقاعد في ظروف هذا المجتمع مرحلة الموت البطيء بانتظار إعلان الموت الرسمي. ومن يكترث بتوظيف طاقات الأشخاص بعد التقاعد في حين يعاني الشباب الخريجون الجدد من البطالة؟! تلك هموم رفيعة تشغل المجتمعات المتقدمة وتشكل مضماراً للتنافس بينها على المرتبة الأولى للاعتناء بحياة الانسان وتثمين قيمته في جميع مراحل حياته.

ما عاد الناس الآن هنا يعرفون كرسي القماش ولا يذكرون تلك المقولة الساخرة. رحل كرسي القماش و( ناسه)، ولحقت به( كراسي الخيزران) التي كانت ببراندتنا الطويلة، و أطقم الجلوس( الأسيوطي) الخشبية، التي تجهز لها الوسائد المربعة المحشوة قطناً وتخاط لها كسوة من قماش الكريتون المصري ذو الأرضية المائلة الى لون التراب مطبوعاً بباقات الزهور الملونة، التي اعتدت أن أراها ببيوت خالاتي وعمتي وجدتي وأيضاً كانت مستخدمة بمكاتب نظار المدارس. وكانت هنالك أيضا أطقم البامبو بكراسيها الشبيهة( بكراسي الاسترخاء) التي يقتنيها الاثرياء. حتى دخلنا العصر الحديدي، فبدأ تصنيع كراسي بدون أياد من مواسير الحديد، مضفورة بحبال البلاستيك الملون حتى اندثرت الصنعة وجئنا إلى إنشاء ورش متخصصة بل مصانع محلية لمشغولات الحديد لكامل الأثاثات المنزلية، وليست الكراسي فحسب. وأخذت تملأ البيوت تصميمات أسِرّة وكنبات وخزانات ملابس ومطابخ، وأطقم بمساند من رغاوي البلاستيك ( الإسفنج) مكسوة بالقطيفة أو الوبر الاصطناعي كجلود الخراف و هكذا، هذا إلى حين انتشار آفة اسمها أثاثات البلاستيك. فقد دخلت في بعض البيوت السعيدة كعنصر جانبي ولكنها في البعض الآخر عنصر أساسي. لا جدال في أن كراسي ومناضد البلاستيك عملية، فهي خفيفة ومتعددة الألوان والتصاميم والأهم من كل ذلك أنها زهيدة الأثمان في بلاد مأزومة مسمومة بالفقر، لهذا يمكننا التغاضي مؤقتاً عن جانب الذوق والرقي و.... و.....و....

لقد كان أول من نقل الينا كراسي ومناضد البلاستيك هم أهلنا العائدون من ليبيا في التسعينات، حيث شهدنا لها( أسواقا ليبية) بأطراف العاصمة شملت إضافة إلى الكراسي والمناضد كافة التجهيزات المنزلية مصنّعة من البلاستيك؛ حافظات المياه وحافظات الأطعمة ووحدات التخزين المختلفة والخيام وفرشات للأرض، وغيرها. ثم ما لبثت أن صارت تُصنّع محلياً، وأخيراً، هي اليوم الأوسع انتشاراً في كل مكان؛ في المطاعم والمقاهي الشعبية والمناسبات الاجتماعية؛ كراسي متعددة الألون والأحجام والمقاسات، بأيادي أو بدونها، عالية أو منخفضة. ظاهرة تشهد على زمن بلاستيكي شكلا ومضموناً!

يبدو أن الكرسي القماش كان البديل الوحيد المريح وبنفس الوقت التعويض عن الجلوس خلف منضدة المكتب؛ عنده يتناول شاي الصباح، والإفطار وما يليه من شاي أو قهوة، وينعم بالغفوة( التعسيلة) في جوفه الطيع، الذي يطوي هيكل الانسان في وضع جنيني، حتى تتقد الشمس وينتقل منه إلى سريره. وتتحول الحياة إلى حلقة مفرغة لا تطاق.
ما عدا هو، هو بالذات تمرد ولم يذو بداخل كرسي قماش. فحينما آن أوان جلوسه عليه، كنا وعوامل البيئة قد خرّبنا بالكامل تلك الكراسي وأعدنا تدويرها ثم جرى التخلص من أشلائها. لم يفكر أن يأتي بغيرها. فقد كانت إرادته مثقاب أفرغ اطارات الزمن الذي أصدر حكمه القاسي عليه بإنهاء الصلاحية، فهو أرفع قامة وأشد حيوية وحباً لقيمة العمل والنظام والانضباط، كان أقوى من أن يستسلم ويدفن نفسه بين قوائم خشبية وشريط قماش مقلم وبين سرير بائس. كان بطبعه يمقت التبطل ويستحث الكل على الهمّة والنشاط. أصَرّ أن يعمل من جديد. وقد فعل. فقد أسعفه سجله النظيف فنال وظيفة محترمة، واظب عليها خير من الشباب في مقتبل حياتهم العملية. خدَم وطنه بتجرّد ولم يحصد المكاسب المُحِطة لاسمه. وبين العمل والرقاد كان يعود إلى البيت فيرعى شجيراته المزهرة التي كانت تؤطر براندته المتواضعة ويستغل ما لا يخطر ببال أحد من مواعين مهملة ليستزرع المزيد من الشتول ويضفي حضور الطبيعة على أيامه الناضبة: الريحان، والفل، واللانتانا وغيرها. كان يقاوم إلغاء صلاحيته بعناد عظيم. ينحني على أزرار ثوبه يعيد وصلها بنفسه. أصرّ على أن يجلب الأغراض المعيشية بنفسه من السوق. أصر على ألاّ يلقي بالعبء على أحد رغم تناقص قواه. فقد ربّى نفسه معتمداً على ذاته بإباء، فأصرّ على الفاعلية حتى هوى فلزم الفراش مُكرهاً. جلس قليلا على كرسي حديد فوق مساند الإسفنج حتى رحل؛ متواضعاً معدماً إلا من سجل مشرّف باق، ودم مقيم بعروق الأجيال وسارح بالذكريات الحية.....

سأكتفي بالصور و أتمون بحذاء قماش!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/