الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زحف النمل

فؤاد قنديل

2013 / 10 / 21
الادب والفن


رؤية نقدية
أمير تاج السر روائي سوداني بارز، هو في الأصل طبيب بدأ حياته الأدبية شاعرا وأصدر بالفعل عدة دواوين، وقد عرفته الساحة الثقافية العربية شاعرا قبل أن تقرأ له إبداعاته الروائية. قدم للمكتبة العربية مجموعة مميزة من الروايات التي كانت باكورتها في عام 1988 بعنوان "كرمكول" ثم تبعتها "سماء بلون الياقوت" و"مُهر الصياح" و "أرض السودان " و" مرايا ساحلية " ثم "الحلو والمر" وأصدر بعد ذلك الرواية التي نتوقف عندها في هذه المقالة وهي "زحف النمل " 2008 وجاءت بعدها "توترات قبطي" وأعقبتها "العطر الفرنسي"، ثم "صائد اليرقات" التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2011.
ليس من شك أن الدكتور أمير يعد خليفة الأديب الكبير الطيب صالح ليس بمعني التماثل بينهما في الاتجاه الفني والأسلوب والرؤية، ولكن بمعني أنه يعد الرجل الثاني ذا التأثير في مجال الرواية السودانية، خاصة أنه خلال ما يزيد قليلا عن عشرين عاما استطاع أن يبدع تلك النصوص اللافتة والتي لا تفتقد الانتماء للبيئة السودانية وثراءها الإنساني وإن تمتع بقدرات فنية متجددة تناسب التطلعات الأدبية الحداثية دون إفراط في التجريب ودون انقطاع تام عن خصوصية المناخ الاجتماعي والثقافة السودانية الأصيلة التي يتغلغل فيها، وتجري في عروقه مجري الدم.
تتناول رواية "زحف النمل" قصة حياة المطرب أحمد ذهب الذي ظل مجهولا لسنوات إلي أن التقي شاعرا قديرا ومشهورا يسميه البطل وهو الراوي "دودة القز". عاونه ودعمه بقصائد مسّت شغاف القلوب حتي لفتت إليه الأسماع ودفعت اسمه إلي مصاف الكبار والمشهورين، وتمكن خلال سنوات من أن يحقق بعض أحلامه المادية والاجتماعية بالتوازي مع مكانته المدوية، فقد أقبل محررو الصحافة الفنية من فرط الإعجاب به وذيوع اسمه وأغانيه بين الجماهير علي خلع الألقاب عليه، فمنهم من سماه سلطان الطرب، ومن وصفه بإمبراطور الغناء، ومطرب الملايين وفنان الشعب الأول.
تزوج من "حياة الحسن" وكانت "حياة" هي بيت السعادة له ومصدر الإلهام. لكنه بعد سنوات قليلة أصيب بمرض السكر فلم يعبأ ولم تكن لديه معلومات عن أن السكر وحش يتخفي في عباءات شفافة فتعامل معه باستخفاف، ومضي يمارس حياته كما يهوي وكما اعتاد، منشغلا فقط بصعود سلم المجد بثقة واقتدار.
اكتشف الأطباء إصابته بالفشل الكلوي الذي يتطلب الغسيل ورحلة علاج طويلة لكنها مهما طالت لا تغني عن زراعة كلية. انطلقت المشاعر وتنافست الأقلام في الدعوة إلي حملة واسعة من أجل البحث عن متبرع بكليته لإنقاذ الفنان الكبير الذي كان يشعر كل يوم وكل لحظة بزحف النمل علي كليته وعلي جسده بل وعلي روحه وأحاسيسه..نمل يأكل علي مهل لكن بإصرار..توالت الحملة الداعية للعثور علي كلية شابة لغرسها في أحشاء سلطان الغناء، وحملت الدعوة عنوان "استثمروا في الذهب" أي قدم كلية لأحمد ذهب وسوف تحصل بالتأكيد علي الذهب.
تقدم مئات الآلاف وأجريت غربلة طويلة ودقيقة لكل المتطوعين وتحليلات دمائهم، وانتهت إلي أن شخصا واحدا فقط هو أنسب الجميع وأكثرهم تشابها بالمطرب الشهير، ولو كان للفنان أخ ما كان أفضل من هذا المتطوع واسمه أبوزيد زيتون، وهو شخص مجهول من عائلة مجهولة ومن قرية مجهولة، وبلغت الأنباء ذهب ففرح وأسرع يسأل زيتون عن المقابل فقال له: لا شيء..فقط الثواب من الله.
اقتضي العلاج والتجهيز أن يأتي المتطوع ليعيش في القصر المنيف الذي لا شبيه له في الثراء والرفاهية حيث تنتشر التحف والأثاث الفخيم والتماثيل والنجف واللوحات وأجهزة الموسيقي والتليفزيونات والتليفونات فضلا عن الخدم والطهاة والسكرتارية. جاء زيتون ومعه شخصان من أقاربه لا يستغني عنهما ليعيشوا في القصر مع المطرب وزوجته، وبعد أسبوع تجاوز العدد عشرين قريبا وصديقا ومعاونا من أهل قريته، تعاونوا جميعا بمنتهي الإخلاص في تخريب كل شيء وتلويث الحجرات والممرات والهواء وتحطيم كل ما مستهم أيديهم و قالوا إنه من قبيل السهو .. أدرك الفنان أن زحف النمل لم يكن في كليته فقط وإنما زحف نوع آخر من النمل علي قصره فدمر حياته وأثار الرعب في قلبه وروع كل شيء حتي الحديقة التي تحولت رغم ما يبذل فيها إلي مقلب للقمامة، و كاد الفنان ينهار لولا أن اقترحت زوجته "حياة الحسن" أن يستأجر لهذه الكتيبة شقة أخري لهم واستمرار الإنفاق عليهم، وافق زيتون بعد حوار طويل مرهق بشرط ألا تقل عن القصر في المساحة والأجهزة والخدمات، وقد حقق لهم ذهب مرادهم وانتقلوا غير مأسوف عليهم.
قبل إجراء العملية بيومين طلب أحب صديق لزيتون وأكثر أصدقائه استحقاقا لثقته والمتولي كافة شئونه من المطرب التوقيع علي تعهد بدفع ثمن الكلية وهو ثلاثون ألف دولار، وشراء مزرعة مجهزة بالبقر والأغنام والشجر خارج العاصمة ليتعيش منها زيتون، وكذلك شقة كبيرة باسمه في وسط العاصمة، وبعض المطالب الأخري التي فقد المطرب سمعه قبل أن ينصت إليها..وبعد تفكير طويل وحوار مع زوجته التي أكدت كما كانت تؤكد دائما أن كل شيء يهون والأهم صحته. وافق ذهب علي أمل أن يشفي ويجتهد في العمل حتي يستطيع تلبية كل المطالب.
أجريت العملية ونجحت ليبدأ زحف نوع آخر من النمل متمثلا في المطالبة اليومية بالوفاء بالوعد..كل يوم شخص مختلف من أهل وأصدقاء زيتون يسأل عن حقوق الذي منح الحياة للمطرب، والمطرب يشفي ويتماسك لكنه لا يستطيع الغناء..القلب مهموم والعقل مشغول ومرتبك..النوم هارب والصفاء غائب..الطعام مُر والشراب، ومع ذلك قرر أن يستجدي الغناء في الحفلات كي يحصل علي أية مبالغ يشتري بها ما يريد زيتون، وقد تمكن أن يلبي بعض المطالب، لكن العمل نادر والدخل هزيل، وتمر الأيام والغناء يطرق الأرض والسماوات، لكنه مهمش ويتم تجاهله حيث يبدو المشهد خاليا من اسمه ووجهه، والصحافة تذكر الجميع سواه، لأن الإذاعات والحفلات والأضواء تنكرت له بينما هناك نوع آخر من النمل يزحف بإصرار هو الأصوات المنكرة التي تردد كلمات فجة وتقرقع حولها موسيقي صاخبة وغبية وصادمة للذوق والإحساس.
اتصل بمتعهدي الحفلات وأطلعهم علي حاله، فرقت قلوب بعضهم ونظم أحدهم له حفلا وأنفق علي الدعاية وأقبلت الجماهير متمنية عودة نجمها الذي كم تاقت لفنه الجميل وصعد إلي المسرح وانشرح صدره من حفاوة الاستقبال، وما أن بدأ الغناء حتي قفز إلي المسرح نوع مختلف من النمل..نمل مخصص لحفلات ذهب فقط.. إنهم أهل المتبرع يذكرونه بسرعة سداد الدين المستحق لمن منحه الحياة علي مسمع من الميكروفانات والحضور فيتوتر المطرب ويتبخر اللحن وتضيع الكلمات، وتكرر ذلك حتي في حفلات لم يعلن عنها وفي حفلات أقيمت بعيدا عن العاصمة بل خارج البلاد كلها، حتي اضطر أحمد ذهب فنان الشعب الأول إلي بيع قصره كي يتخلص من النمل الذي يلاحقه حيثما حل أو ذهب، و تنتهي الرواية من تطوافها الإنساني تاركة لنا معطياتها التي تتجاوز كثيرا ما تضمنته صفحاتها.
قدم لنا الروائي القدير أمير تاج السر نصا بديعا يحفل بكل أسباب المتعة التي تستدرجنا برهافة وذكاء نحو عالم شكله فن الرواية الساحر بدءا من فكرة ملهمة تخللت مسيرة حياة إنسان طموح تنطلق مواهبه لصياغة مستقبله المشرق محاولا تطوير فن الغناء ومستنطقا روح الشعب وتاريخه وتراثه، فيتألق لأعوام تطول أو تقصر كنبت نما في أرض خصيبة فترعرع حتي غدا شجرة سامقة تزدهي بخضرتها وتجود بثمارها وظلالها علي مساحة واسعة ثم لا تلبث أن يتسلل إليها النمل الذي تتعدد صوره وألوانه من كائن لكائن.
احتضنت الفكرة عمارة فنية من الشخصيات والأحداث، التي دفعها الكاتب بحذق في مسارات متباينة لتحقيق الهدف المأمول والرسالة..إنها الرحلة بين الطموحات الإنسانية وتحديات الواقع الخشن..الرحلة بين الحياة والموت. بين التألق والذبول..وقد بدت الشخصيات متسقة مع ذواتها وأحلامها..أحمد ذهب. حياة الحسن. دودة القز الشاعر القدير صانع الحرير، وأبو زيد زيتون ذلك المغمور الذي استطاع بالدأب والحقد والابتزاز وانتهاز الفرص أن يمتلك الملايين. زيتون الذي نفذ من ثقب الكلية إلي حياة المطرب قادما بظلامه وأطماعه وقذارته ونهمه وكذبه وكرمه الزائف وجيشه التعس ليعتلي أحد قمم الثراء.
النمل هم في الحقيقة أبطال الرواية..النمل ذلك الكائن الضئيل جدا الذي يمكن أن تمحوه ذرة تراب، لكنه بالإرادة والتضافر مع أخوانه يستطيع أن يحقق في الغالب أحلامه مهما كانت هائلة، وتكشف الرواية عن أن نتائج زحف النمل بشعة ومدمرة، وتذكر من ذلك نموذجين، أحدهما خاص والآخر عام، فالأول يتمثل في تدمير المطرب، والثاني يخص الفن حيث استطاع النمل عبر الجهلة معدومي المواهب والانتهازيين وأد الفن الأصيل والقضاء عليه، وفتح الباب للهزيل والقبيح من الفن الذي يهبط علي يد المتاجرين والغوغائيين، وإنهم ليتصدرون المشهد في بلاد عديدة من أمتنا العربية.
استطاع الكاتب أن يصمم لفكرته بناء محكما وجذابا تتوازن فيه كل القوي والعناصر الفنية بشكل يحافظ علي تماسكه، ولو بطرح تراتبي، قد يعتبره بعض النقاد بناء تقليديا، وربما كان ذلك صحيحا من وجهة النظر العابرة أو الضيقة، لكن الكاتب قدم نصا كالنهر يتخذ طريقه بنعومة وسلاسة وعمق كاشفا بين الحين والحين عما يختزنه من جواهر، وقد زيّنه ودعّمه بمصادر متعددة للجمال والسحر والقدرة علي التأثير، فمن لغة شاعرة قادرة علي التصوير تم اختيار كلماتها بدقة ومهارة، إلي روح تهكمية ساخرة ومحطات جمالية تؤنسها نصوص الأغاني التي بنت مجد البطل حتي بلغ ذروة غير مسبوقة، ثم تشكيل فني رائق ترفده بزخمها فنون شعبية وعادات وأفكار وألفاظ وأسماء تشير إلي خصوصية المكان حيث تدور الأحداث وتتصارع الشخصيات، وتبرز أيضا عبق المكان الأم وهو السودان ملهمة الكاتب الذي أبدع رواية فاتنة تساهم بدور وجداني فريد في مقاومة القبح بشتي صوره








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءة رائعة لرواية رائعة
صلاح الدين سر الختم على ( 2013 / 10 / 21 - 11:02 )
قراءة جيدة ومتعمقة لرواية متمميزة حقا للكاتب السودانى الأبرز حاليا
بانتاجه المتنوع والرفيع في مجال الرواية
أمير تاج السر صاحب بصمة خاصة ومشروع ثقافى كبير
وله قالب فنى أضاف فيه الكثير لتقنية كتابة الرواية
فالبنية عنهد محكمة الصياغة وكل كلمة وجملة وصورة لها وظيفة في بنية الرواية وهو لايعرف الأسراف والحشو الزائد في كتابته
والي ذلك هناك روح ساخرة تتتخلل أعماله فتضفي عليها مسحة فكرية وجمالية رفيعة
ويهتم أمير كثيرا مثل نجيب محفوظ بالتوثيق والرصد للتحولات العميقة التى تجري في عمق المجتمع السودانى فتأتى اعماله عبارة عن مشاهد وصور وشخوص ووقائع منتزعة من الواقع السودانى وخاضعة لعملية نقش وتلميع وإبراز بشكل يجعل الأفكار والايحاءات تتراقص بين سطور روياته كما تتراقص شموع صغيرة في كهف مظلم...أمير تاج السر كاتب مميز حقا

اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي