الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجه الخفي لدُور النشر والتوزيع

حمودة إسماعيلي

2013 / 10 / 21
العولمة وتطورات العالم المعاصر


دون كلمات أو كتابة أو كتب لم يكن ليوجد شيء اسمه تاريخ، ولم يكن ليوجد مبدأ الإنسانية
¤ هرمان هسه

لفهم عملية النشر والطباعة بالعالم العربي، وتقديم أفضل صورة عنها، دعنا كلانا نتخيل ونفترض : "أنني أنا وأنتَ أو أنتِ صديقان يعرفان بعضهما جيدا، نشعر ببعض الفراغ. فقلت لك :
ـ لما لا نقوم بشيء مثير حتى نتخلص من الملل والفراغ ؟
أجبت : ـ أنا معك هل لديك اقتراح ؟
ـ اجل، لنقم بإنشاء دار نشر !
ـ فكرة مذهلة، هيّا بنا .."

هكذا هو النشر العربي، لا وجود لمؤسسة نشر إنما "ناشر يتعاون مع شريك"، شخص يقوم هو وزوجته أو ابنه/ابنته أو أخيه أو جاره أو صديقه، باكتراء شقة أو "كاراج" أو محل بقالة فارغ، ثم يشترون مكتبا و ثلاثة كراسي وآلة طباعة. بالبداية يقتنون بعض الكتب القديمة فيُعيدون نشرها كإعلان متواضع للدار، ثم يبدأ افتتاح العروض أمام الراغبين بنشر مؤلفاتهم.

توضع شروط النشر (منقولة أو مترجمة من دار نشر معروفة)، لكن يضيفون إليها جملة أو جملتين تفيد أن الدار لها هدف ورسالة هي : مساعدة الشباب ونشر الثقافة بمرونة. الشرط الوحيد هو تعاون الكاتب ماديا (بتقاسم نصف التكاليف) نظرا لأن الدار ببدايتها وأُسِّسَت خصيصا لتقف بجانب من لا يستطيعون إيصال صوتهم المكتوب أو من يلاقون الإجحاف من الإعلام أو المؤسسات الثقافية الأخرى، كذلك ضد شوفينية رابطات واتحادات الكتاب (التي تُحوّل الكاتب لبقرة ناطقة !).

ولنَعُد لتخيلاتنا : "بدأت تنكب علينا الكتب، لهذا سنقتسم أنا وإياك الكتاب أنت تقرأ نصفه وأنا أقرأ نصفه. وسيتم التعاون كالتالي : ـ انظر، لقد وَصلَنا كتاب من 200 صفحة، سأقرأ أنا 100 وأنت ال100 الباقية، وسننهي قراءته بغضون أسبوعين.
ـ أنا لا أعرف القراءة
ـ تباً ! سنكتفي بقراءة الفهرس وبعد أسبوع نخبر الكاتب أننا نوافق على نشر كتابه بتقاسم الأرباح ونطلب منه 1000 دولار
ـ 1000 دولار !! لماذا ؟ هل سنصنع طائرة ؟!
ـ إفهمني، سنأخد ال1000 دولار نطبع بنصفها 500 نسخة ونقتسم معه أرباحها فيما بعد، وبهذا سنقتسم معه المبلغ الذي سيدفع والأرباح التي سيجنيها
ـ مذهل، سنضرب عصفورين بحجر من عند الكاتب.. لكن ماذا لو تنازل عن حصته من الأرباح مقابل الطبع أو رفض دفع المبلغ ؟
ـ سنرفض كتابه طبعا
ـ لكن ماذا لو كان كتابا مفيدا ؟
ـ تبا لك أيها الغبي، ما يهمنا هو نجاح مشروعنا وليس نجاح الكاتب، هل تريد إنجاح الكاتب على حساب إفشال مشروعنا
ـ معك حق
ـ سنقبل فقط الكتاب المشهورين لخدمة التسويق
ـ لكنهم لا يدفعون التكاليف
ـ لاتهتم، سننفق من المبلغ الذي يدفعه لنا الكاتب المبتديء (1000 دولار).. هذا النوع متلهف ليرى كتابه منشورا بالمعارض والمكتبات انه سر نجاحنا، ثق بي.
ـ أنا أثق بك، هيا للعمل..

المثال المُتخيَّل يبدو كوميديا، نظرا لأنه يعكس واقع النشر العربي، إن أغلب دور النشر العربية لا تمتلك ادراة مؤسسية (مدير، لجنة قراءة، مصممين، مطبعة، محرر أدبي، مراسلين، ومنتج وموزعين)، إنما شخص يملك دكانا كما سبق وأشرنا تساعده زوجته أو بعض اصدقائه (وهم لجنة القراءة)، أما هو فيقوم بدور المحرر والمصصم (إن كان يفهم قليلا بالفوتوشوب ـ أو يكتري شخصا ليضع تصاميم له الأغلفة) ويقوم بالرد على البريد والإيميلات (رغم أنه يحاول أن يمثل عدة أدوار كأنه فريق لإيهام الزبناء !)، ويتفق مع دار طباعة على تخفيض السعر لأنه زبون سيقوم بطبع كميات كبيرة. أما التوزيع فيقوم به كأي كاتب يوزع أعماله بنفسه.

يشتكي الكثير من الكُتّاب (الغير معروفين بالأخص) أنهم يتعرضون للنصب من قبل دور النشر عفواً "سمسار النشر". ما لا يعيه هؤلاء الكُتّاب أن النصاب يلزمه ذكاء (الذي يفتقده الناشر)، زيادة على أن النصاب يختار ضحاياه وليس الضحايا من هم يقومون باختياره كما بالنسبة للناشر، لأن نسبة قليلة من ذكاء الضحية كافية لإفشال مخطط النصب. أما بالنسبة لعمليات النصب التي تقع للكُتّاب فهي من النوع الذي يمكن أن نسميه "نصب تلقائي" الذي لا يتعمده الناشر. كيف ؟

إن المخطط الذي يضعه الناشر ـ بطباعة كتابك وتسيير مشروعه ( بنفس الوقت) انطلاقا من أموالك ـ لا ينجح دائما، فقد يحدث ما لم يتوقعه ويفشل المخطط ويضيع المال، فلا يستطيع أن يعيده لك ويعجز عن طبع كتابك، لدى فإن الحل الوحيد هو المماطلة والتسويف حتى تمل وتتغاضى عن الأمر (رغم أنه قد يدمر أحلامك ويدفعك للحقد على الكتابة !) . لأن النصاب لا يكشف هويته، أما المعني هنا فليس فقط أن هويته معروفة بل حتى أن مشروعه يصبح معرضا للخطر، فإن كان النصاب يختار التعامل مع الأغبياء أو المغفلين، فالناشر يتعامل مع كُتّاب، ما يعني أن مقال واحدا عن الحادثة كافٍ لتشويه اسمه وتدمير المشروع. فأي نصاب هذا إن لم يكن أغبى نصاب على وجه الأرض ؟! . إن المشكل لايكمن في الاحتيال على الكتّاب، بل في المشروع الذي يبدو أكبر منه، المشروع الذي يحتاج لإدارة و"رأسمال" ضخم. وليس وجه حديدي لا يخجل، تختلط عليه الحسابات.

لكن لماذا تختار مثل هذه النوعية مشاريع النشر والطباعة، بدل فتح محلات للوجبات الخفيفة ؟

إن الناشر كاتب فاشل، شخص كان يحلم أن يصبح كاتبا لكنه فشل إما لانعدام الموهبة التي تفر منه، أو بسبب ظروف ما. يظل متشبّتا بحلمه لاشعوريا، لكن بسبب الصدمة فإن التعويض يخلق هدفا أسمى وأكبر، لدى فإنه يتجاوز حلم الكاتب، لحلم من يقف أمام أحلام الكتّاب، الذي يقرر أي كاتب بامكانه أن يتابع حلمه و أي كاتب سيتم اجهاض حلمه. انه الناشر إله الثقافة والكتب (كما يظن).
يمكن تشبيه الموقف بشخص فشل في التقرب من الله، فتخيل نفسه (نتيجة الصدمة) أنه صار الله نفسه، الآن أصبح بامكانه أن يختار من سيدخل جنته و من سيطرد منها. فبحسب شدة الصدمة يتجاوز حلم الإنسان الواقع "المعقول" نحو الخيال "اللامعقول" (لينقلب الخيال لواقع).
وما يؤكد ما نحاول تبيانه، هي شكاوي بعض الكُتّاب من أن بعض الناشرين يحاولون إذلالهم، هذا عادي نظرا لأنهم يرون أنفسهم آلهة ربما !! .

لا يعاني الكُتّاب الغربيين من مشاكل من مثل هذا النوع، إن هاجس الكاتب الغربي (الفرنسي والإنجليزي والألماني والأمريكي الخ) هو رد فعل القراء (فقد تجاوز النشر والتسويق والتوزيع وماسواه مما لازال يتخبط فيه النشر العربي)، حتى أن الروائية فرجينيا وولف التي انتحرت نتيجة ازمات نفسية (بطريقة احدى بطلات رواياتها)، قد وضّح زوجها وأختها أن أزماتها النفسية كانت نتيجة خوفها من النقد أو الإهمال الذي قد تتعرض له من طرف النقاد والقراء، حتى أن زوجها قال أن هاجسها وخوفها من هذا الأمر لا يمكن تخيله.
كافكا أشهر الروائيين العالميين، سبب شهرته صديقه الذي سرق مخطوطاته وقام بنشرها (أوصاه كافكا أن يقوم بإتلاف أعماله أو حرقها، لكن صديقه الملحن "ماكس برود" نكث بوعده وقام بنشرها).
داروين وكتابه الثوري، نُشِر بإلحاح الباحث هكسلي الذي كان يزوره بصفة مستمرة، لكي يحثه على انهائه ليتكلف هو بالباقي نظرا لتلهفه بإسقاط الكنيسة.

لنحاول أن نتخيل هذه النماذج وهي تسعى للنشر بالدور العربية :

فيرجينيا وولف : لن تنتحر بل ستصبح قاتلة، لأن العدوان الذي كان موجها لذاتها (التي تراها تافهة لا تستطيع ادهاش القراء) سيتوجه نحو الناشر الذي وقف عقبة امام العمل ليصل للجمهور، ستقتله وتذهب لتسبح بالبحيرة بدل أن تغرق نفسها فيها، فاللوم لا يعود عليها بل على الناشر النصاب (من منظورها).
كافكا : كان سيرتب عملية سرقة (حتى يسهل الأمر على صديقه)، بل ربما حث صديقه على القيام بها "على الله" ينشر كتبه بدون تكاليف وانتظار ومساومات ووجع رأس عن طريق ذلك الصديق.
داروين : كان الناشر "ضيق الأفق" هو الذي سيحرق الكتاب وكاتبه، بدل أن تنفذ جميع النّسخ باليوم الأول، فأصل الأنواع نفذ من السوق باليوم الأول من خروجه.

هذا هو الفرق بين النشر/الناشر المثقف الذي يخجل من اقتراح نشر 500 أو 1000 نسخة على الكتاب لأنها إهانة، وبين التاجر العربي الذي يشعر بالملل ويعاني من اضطرابات نفسية يعوضها على حساب "الفن المقدس".

يكفي أن يلقي الواحد نظرة على النشر الغربي والكميات التي تطبع بها الكتب حتى يجهش بالبكاء (ربما لأنهم من اكتشفوا الطباعة، التي رفضها العرب باعتبارها آلة كافرة صنعها الكفار، ولم تطأ أرضهم المقدسة إلا بعد تاريخ). لهذا تجد بعض الكتاب العرب من هاجروا للدراسة بمدينة الأنوار، يفضلون كتابة كتبهم بالفرنسية بدل كتابتها بالعربية (رغم علمهم أن كتبهم لا تلقى رواجا وإقبالا بمثل كتب أبناء البلد، إلا أنه على الأقل ستقلى اهتمام واعتناء وفرصة الانتشار).

عندما تعجز الأنواع عن التكيف فإنها تنقرض، هذا ما سيحدث لدور النشر التي لازالت تستهلك الأفكار البدائية بعملية النشر، ولا تدرك أن الكتاب الالكتروني قلب الموازين، وصارت الثقافة مجانية مع التكنولوجيا الحديثة، أغلى وأندر الكتب يحصل عليها الإنسان بكبسة زر (وليس بالمعرض السنوي الذي يلزم انتظاره دورة شمسية)، حتى النشر (لمن لايهدف للربح) فصار بإمكان الكاتب أن يرى كتابه منشورا بعد دقيقتين من إنهائه.

هناك طبعا دور ترفض ادخال الكاتب بعملية الإنفاق على العمل، غير أنها لا تبحث إلا عن التسويق (الأسماء المعروفة) أو أنها تشترط توجهات معينة، حتى أنها تتدخل في محتوى الكتاب بالحذف والتغيير والتعديل وما سواه حتى يلائم توجاهتها الفكرية، مقابل منح الكاتب نسبة أرباح لا تتجاوز 10 أو 20 بالمئة.

أفضل طريقة لجعل دور النشر تتهافت على كتابك، وبطبعه في أقل من 24 ساعة مع تنازلها بكافة الأرباح لصالحك. هي أن تكتب كتابا تمدح فيه أميرا خليجيا. لأنها تعلم أنه ما إن يصل لمسامعه حتى يتبرع على الناشر بمنحة سخية، هذا إن لم يتم ترشيح الكتاب للفوز بجائزة قيّمة يتقاسمها الناشر مع الكاتب ! .

أما عن التبرير بأن سبب هذا كله يعود للقاريء العربي الذي لا يقرأ (كسبب لكساد الكتب)، فعقلية الناشر التقليدية هي التي تعاني من الكساد. تكفي(للإجابة عن هذه النقطة) زيارة إحدى المواقع، حتى ترى نسب تحميل الكتب. فغالبا ما يتم خلط العقلية بنسب القراءة لتفسير أسباب التخلف. فالإشكال لا يتعلق بقلة القراءة أو كثرتها بل بنوع الكتب المرِّوجة للأفكار ونسبة انتشارها بالسوق وأثمنتها مقارنة بدخل المستهلك العربي (دون الحديث عن الاحتكار الأيديولوجي للساحة الثقافية الاستهلاكية، كإعادة انتاج نفس العقلية واستهلاك نفس النمط الفكري).

إنه من الخطأ اعتقاد أن شهرة الكُتّاب والشعراء العرب خلال السنين الفارطة كانت عن طريق النشر، لأن ما ساهم حقاً في انتشارهم هي مواقفهم السياسية بالوقوف ضد الأنظمة و ضد الحرب، أو بتعرضهم للسجن والمحاكمات نتيجة التعبير عن آرائهم (بكتاباتهم)، الأمر الذي جذب تغطية الإعلام. هناك من وجدوا في الموقف حصانا يركبونه لضمان تسويق أسماء دكاكينهم، بتبني إعادة نشر أعمال تلك الشخصيات نظرا لأنها أسهل طريقة للترويج وجذب الزبناء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران: ما الترتيبات المقررة في حال شغور منصب الرئيس؟


.. نبض فرنسا: كاليدونيا الجديدة، موقع استراتيجي يثير اهتمام الق




.. إيران: كيف تجري عمليات البحث عن مروحية الرئيس وكم يصمد الإنس


.. نبض أوروبا: كيف تؤثر الحرب في أوكرانيا وغزة على حملة الانتخا




.. WSJ: عدد قتلى الرهائن الإسرائيليين لدى حماس أعلى بكثير مما ه