الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جان جينيه ..القبر والمدينة

رحمن خضير عباس

2013 / 10 / 21
الادب والفن


جان جينيه ..القبر والمدينة
رحمن خضير عباس حالما وصلت العرائش –وهي مدينة في شمال المغرب – حتى اقترحت على صديقي المغربي (بوسته سعيد ) ان ازور قبر الأديب الفرنسي الكبير جان جينيه . وقد فوجئت بانه يعرف المقبرة ، كما يعرف ادق التفاصيل عن حياة وموت هذا الرجل الذي شغل العالم في القرن المنصرم . جان جينيه لص محترف ، فقد ولد لأمراة اسمها كامبل جينيه ، تخلصت منه ، بعد ان عهدت به الى ملجأ لرعاية اللقطاء ، لأنها كانت غير قادرة على رعاية طفلها وهي تبيع جسدها . ولأنه مجهول الأب فقد استخدم اسم امه . جينيه الذي تلظى في جحيم الفاقة والفقر واليتم والذل في طفولته . انحدر الى القاع ، متسلحا بكراهية للمجتمع الفرنسي مما جعل سيمون دي بوفوار تفسر ذالك على أنّ جينيه كان منبوذا من المجتمع فحاول ان ينتقم من ذالك المجتمع فتوجه الى السرقة . ولااعتقد ان الجنوح الأخلاقي وسلوك جريمة السرقة يعتمد على العامل النفسي فقط ، بل يتخطاه الى عوامل مختلفة ومنها الحرمان أو الفاقة التي منعته من أنْ يتمتع كأقرانه حينما كان صبيا ، فبقي محروما حتى من الحاجات الأساسية في الحياة .يقول في مذكراته " ان مدرس الفرنسية طلب منه ان يقرأ في درس الإنشاء ، فقرأ يصف منزله ، فغرق زملاؤه في القسم من الضحك، وحينما استفسر المعلم عن باعث الضحك فيهم . قالوا له: انهم يضحكون على جان لأنه لقيط ولامنزل لديه ". لقد كان زائرا مزمنا للسجن ، الذي راى فيه " مهربا من الحياة لكي يعود الى جوهرها " وفي اغوار السجن كتب أعظم اعماله الأدبية ومنها روايته الرائعة ( معجزة الوردة ) ، وكأنه يتعرض الى عملية هائلة من الصراع بين الأضداد وعواملها المنتجة ‘وقد تمخض ذالك عن عملية صهر كبيرة انتجت قيما وافكارا افاضها في الكثير من اعماله المسرحية والروائية . وكأنه يقوم بعملية تطهيرية شاملة . حتى انه حاول ان يقلع عن السرقة ، وحينما استشار رفيقه في السجن الكاتب المنحرف ( جوهاندو) بانه يريد ان يتخلى نهائيا عن سلوك اللصوصية ، ولكن الأخير غير قناعته مؤكدا ان الإستمرار في السرقة افضل من احتراف الكتابة !. ولعل كتابه ( يوميات لص ) يلقى اضواءا على الزوايا المعتمة من حياته .كما يكشف جوانب خفية من العلاقة بين الفرد والمجتمع في ظل الأنظمة الرأسمالية . و كان صريحا وصادقا في ذالك ، وكأنه يريد ان يواجه كل عوامل الأنحدار الأخلاقي باسلحتها . مما حدا بسارتر ان يقول عنه " قراءة كتابات جينيه تشبه قضاء ليلة في مبغى "
تقع مقبرة النصارى بمحاذاة البحر .كان علينا ان نجتاز حي القصبة . كتلة من البناء الذي يعود الى بدايات القرن المنصرم .شبكة من الأزقة الملونة ، تحتمي من وهج الشمس باقواس مزخرفة ، تتدلى من جدرانها ونوافذها الورود والنباتات . ازقة ملونة بالأزرق والأبيض . تنزلق باشكال حلزونية باتجاه السوق . سقوفها المقوسة والنوافذ ، توحي لك بالطراز الأندلسي .وكأنك قد انتقلت الى وهج الماضي الجميل للحضارة الأندلسية التي زحفت باتجاه المغرب الأقصى بعد ان طاردها الأسبان . لقد حافظ سكان المدينة على طابعها المعماري القديم - على الأقل في حي القصبة - اما الأحياء الأخرى فقد تسلقها الأهمال ، او البناء الذي لاينتمي الى روح المدينة . رائحة الورد والخضرة التي تطرز جدران الزنق الملونة ، تشيع في الذاكرة هوس العرائشيين الأوائل بمفهوم الحقل ، الذي يشاطر البحر في ان يهب الناس نسغ حياتهم ووسيلة بقائهم . لذالك فلا غرابة ان يطلقوا على البساتين اسم (الجنان) . تلك الجنان التي التهمتها المدينة في توسعها العشوائي . قال لي سعيد : " كان البناء في عهد الأسبان يسمح لأهل المدينة ان يروا البحر من كل الأتجاهات ". زرقة البحر تتسرب في جدران المدينة .ورائحة شواء السردين ينبعث من المطاعم الصغيرة الملاصقة للمرسى . اتجهنا الى منحدر، حيث جنان بوحساينة . كان منزل جان جينيه يتوسط الشارع . ويعلو عليه بحوالي اربع درجات اسمنتية . كانت الوانه الزرقاء قد خبت وتآكلت من رطوبة البحر .عرفنا المنزل عن طريق سيدة من الجيران اشارت اليه " هذا منزل الشاعر النصراني " وكلمة نصراني في شمال افريقيا تعني القومية اكثر مما تعني الدين . كان بين منزله وقبره دقائق وجيزة من الهبوط . قيل : ان جينيه كان يتسكع في المقبرة وهو يتأبط كتبه . يجلس تحت ظل شجرة ليقرا او يكتب . لم ار الشجرة قرب القبر ، قيل لي : ماتت الشجرة بعد موته بعدة سنين ولم يبق منها غير جذرها . قبل استقراره في مدينة العرائش عاش جان جينيه في مدينة طنجة ردحا من الزمن ، وقد كتب عنه الكاتب المغربي محمد شكري ( جينيه في طنجة) مستعرضا يومياته وجملة افكاره وروحه المتسامحة التي تميل الى مساعدة الفقراء والمقهورين من الناس . لم تكن دراسة محمد شكري عن جينيه عميقة ، او تفيد القاريء في فهم شخصية هذا الأديب او فحوى التحولات الفكرية التي تعرضت له شخصيته.
يبدو أنّ العرائش قد راقت لجينيه ،فاتخذ منها ملاذا للتأمل والأسترخاء ، والتقرب الى البساطة والعفوية التي عشقهما منذ طفولته ، بعد ان هاجر من بلده فرنسا وهو متوج بشهرة يحسده عليها كتّاب وادباء كبار . فقد كتب عنه الفيلسوف الوجودي سارتر كتابا مهما مشبعا برؤية فلسفية بعنوان( القديس جينيه . ممثلا وشهيدا ) ورغم انه كان يبرر جنوح جينيه ويعتبره ضحية لقيم عصره المختلة، ولكنه استطاع ان يتخذه مثلا لقيم العبثية في أسمى تجلياتها . كما اعتبره كوكتو اكبركتّاب عصره . وإختارته مؤسسة لاروس عام 1976 كواحد من ادباء فرنسا العظام . وهكذا فقد كان تسكعه في أزقة العرائش ومقاهيها شكلا من االعودة الى النبع ، الى التعايش مع المتعبين والمشاغبين والصيادين والشحاذين ومدمني الخمر والأفيون، التعايش مع الصالحين والطالحين وذوي الدخول المحدودة او الذين يعيشون تحت خطوط الفكر والكفاف . لم يتعايش معهم بصفته منقذا او مصلحا ، ولكنه حاول ان يقترب من ماضيه ويحس بمتعة تأمله . لم يكن ملاكا في تطهره ولكنه لم يكن شيطانا ، فقد عاش كانسان بسيط ، ينفق على نفسه مما تدر عليه مؤلفاته .في بداية ستينات القرن الماضي تحول من شخصية مشاكسة الى انسان يمتليء بالوداعة . فقد هجر اسلوب العبث واللامبالاة الى معانقة الهموم والقضايا الأنسانية التي تقضّ مضاجع عصرنا ، كاهتمامه بقضايا الزنوج والفصل العنصري . اضافة الى انشغاله بالقضية الفلسطينية . لقد كتب عن العمل الفدائي المقاوم . واصبح صديقا للفلسطينيين في مخيماتهم ، وحينما حدثت مجزرة صبرا وشاتلا ، كتب عنها ، وكان ضمن اول وفد صحفي واعلامي يدخل المخيم بعد المجزرة وقد كتب عنها اربعة ايام في شاتيلا ، تحولت الى مسرحية من اخراج فنان مسرحي فرنسي . يقول في كتابه : "حفلة وحشية جرت هناك ، سمر ورقص ونداء وتأوهات " وقال في نفس الموضوع " لقد كان عليّ أنْ أذهب الى شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت ، فالأجساد في الحالتين ليس لديها ما تخفيه " كان الوحيد من كتاب الغرب ومفكريه من كتب عن المجزرة وفضح فيها القاتل ، سواء الذي قام بحفلة القتل الأليمة او من تستر عليها ووفر الظروف الملائمة لحدوثها . كانت كلماته تنزف دما ، حتى جعل العالم يشعر بالعار من هذه الوحشية التي ترتكب ضد البشر الأبرياء . لقد أدان جان جينيه السكين المتوحشة التي ذبحت البشر العزّل. وابرز الى المجتمع الغربي فجيعة المأساة التي مرت بصمت .
كان قبر جينيه يختلف عن القبور المحيطة به . يستلقي على ربوة صغيرة . لايفصله عن البحر سوى سور حجري قديم . تبدو شاهدة القبر بيضاء ناصعة وكأنها قد جُددت مرات لبواعث سياحية ، حيث ان قبره يستقطب الكثير من المثقفين . كتبو على شاهدة القبر ( جان جينيه من 1912 الى 1986 ) قبر بسيط يتخخلله الرمل البحري . يبتعد قليلا عن قبور الجنود الأسبان الذين قتلوا اثناء اداء واجباتهم في تحقيق سياسة جنرالاتهم التوسعية . لكن جينيه الذي اوصى بأن يدفن في العرائش بعد موته ، اراد ان يكون قريبا من اناسه البسطاء الذين اعتزوا به حيّا وميتا ، رغم ما رافق حياته من جدل حول بعض ميوله الشاذة . لقد انصاعت فرنسا لرغبته قبل موته ، مع ان الفرنسيين سوف يعيدون له اعتباره الذي يستحقه ، ولكن جينيه المتمرد على وطنه الأم في حياته ، استمر في هذا التمرد الى الأبد، حينما اوصى ان ينقل جثمانه الى مدينة العرائش .
في ربوة غير بعيدة عن المقبرة ، تستقر ليكسوس أو ( التفاحة الذهبية ) وهو الأسم الفينيقي لمدينة العرائش القديمة ، التي لم يبق منها سوى اطلال لذكرى حضارات كانت تمتد من البحر الى المحيط ، وهاهي مازالت قابعة على الربوة تنتظر من يفك اسرارها من خلال التنقيب . نهر اللوكوس ما زال شاهدا على عمق الحضارات التي مرت على تلك السهوب والربوات ، وقبر جينيه يغرق في الظلمة ليلا بينما تبدو الحياة في الصيف العرائشي غارقة في الأضواء . افواج من الناس يتبضعون او يحتسون القهوة ،او يتسكعون في الطرقات المفتوحة على البحر ، بينما امواج الأطلسي تعانق الصخور .
اوتاوة /كندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال