الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصدد خصخصة الدولة

مجدي الجزولي

2005 / 5 / 31
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


من المعلوم أن إستيلاء الجبهة القومية الإسلامية على السلطة في السودان منتصف عام 1989 قد تزامن مع تغييرات عميقة في النظام الدولي دُشنت بإنهيار المعسكر السوفييتي و سقوط حائط برلين و ما نجم عن ذلك من إنفراد الولايات المتحدة بحق قطع الطريق و ولاية "الرباطة" الدوليين. إبتدر الإسلاميون فترة حكمهم بهجمة دعائية على الغرب و الشرق سجلها لسان حال مجندي الدفاع الشعبي و هم يصرخون (أمريكا روسيا قد دنا عذابها..علي إن لاقيتها ضرابها)، ما تمثل في الوعي الشعبي نفحة متأخرة من عبير التحرر الوطني، سرعان ما اعادت الجماهير تقييمها هراءاً عنترياً.

يستحسن المراقبون الظن بالنظام الحاكم حينما يجزمون بفشل (المشروع الحضاري) و إستعصاء (إعادة صياغة الإنسان السوداني)، إذ ليس المقصود بالضرورة من الأول تحكيم دين الإسلام في الشأن العام أو من الأخير تهذيب الأفراد دينياً، و الغرضان لا يتفقان بطبيعة الحال مع تعددية القوميات السودانية، لكن ليس من شك في أن الشعاران إستجابا دعائياً لرغبات جموع من السودانيين المسلمين الأتقياء و غير الأتقياء، بما للدين من فاعلية في النفس و من دور محوري في تشكيل ضمير الفرد و تصوره عن ذاته و عن الجماعة التي ينتمي إليها، و ذلك في بلاد قليلة الحيلة- ثغر من ثغور الإسلام أو كذلك أراد الإسلاميون تصويرها لساكنيها من أهل الملة.

في وراثتهم للأرض عمد الحاكمون بأمر الله إلى (إعادة صياغة الإنسان السوداني) فعلاً، بما يتعدى كماً و كيفاً الأمر المعروف و النهي عن المنكر، فكان ذروة سنام عملهم تمكين الربحيّة من مفاصل الإجتماع في الشأن العام و الخاص، و ذلك باب واسع في إعادة تشكيل الإنتاج و علاقاته وفقاً لمنطق السوق الرأسمالي؛ القاعدة التي تقوم عليها سلطة الإنقاذ. في السنين الأولى لحكمهم حقق الإسلاميون أكثر إنتصاراتهم جبرة في صراعهم ضد مجموع السودانيين، و ذلك بإلغاء المبدأ القائل بمسؤولية الدولة عن دعم السلع التموينية بما يضمن إطعام المساكين ذوي المسغبة، و تحقيق مجانية القدر الأساس من التعليم و العلاج لمجموع السكان، بما في ذلك من مسؤوليات تنويرية تشمل محو الأمية و تغذية الثقافة الشعبية بروافد علمية تحرر المواطنين من إسار الجهل الذي يورث الفقر و المرض، بجانب المهام الصحية الوقائية لأي دولة راشدة. ربما خالف الإسلاميون الإرادة السياسية قصيرة الأجل للبيت الأبيض لكنهم حتماً إلتزموا فقه واشنطن الإقتصادي في صيغة فاقت مارغريت تاتشر غلظة و رونالد ريغان ثعلبية، ففي غضون سنين معدودات إنسحبت الدولة زاهدة من الإستثمار المباشر في القطاعات الإنتاجية، و من قطاع الخدمات، لتكتفي بالمشاريع الإنشائية اي البنية التحتية من طرق و سدود و إتصالات، و ذلك عماد في عقيدة البنك الدولي القائلة بتخفيض الصرف الحكومي على الخدمات و هجر الدولة للمشاريع الإنتاجية، ليقتصر دورها على تهيئة الظروف اللوجستية و القانونية اللازمة لإستيلاء الشركات الخاصة على مفاصل الإقتصادات الوطنية.

الفرق الجوهري بين الملكية العامة الخاضعة للدولة و بين الملكية الخاصة يكمن في أن الدولة محكومة نسبياً بالرأي العام، أي أن تصرفاتها و قراراتها و نظمها قابلة للديمقراطية و في الإمكان حال تمكنت القوى الشعبية من السيطرة الفعلية على القرار السياسي أن تتمنع على السلب و النهب الرأسمالي، حيث قد تتسع أو تضيق القناة الرابطة بين القواعد الجماهيرية و بين مراكز إتخاذ القرار الإداري و السياسي في قمة الجهاز الحكومي لكن تظل رغم قهر النظام مفتوحة بطريقة أو أخرى، و عليه فإن الملكية العامة عرضة للرقابة الشعبية عبر التقابات و الإتحادات المهنية و الصحافة. أما الشركة الخاصة فهي بحكم التكوين و علاقات الملكية جهاز قسري فاشي تنحدر فيه القرارات في إتجاه مفرد من أعلى إلى أسفل، و مع ضعف التمثيل النقابي أو إنعدامه التام لا يبقى أمام القاعدة العاملة سوى الإذعان لقبضة مجلس الإدارة أو الإنضمام لجيش العاطلين. وفقاً لما سبق يجب التريث قليلاً عند التقييم الموضوعي لما تتمتع به الشركة الخاصة الناجحة من أفضلية نسبية من حيث الأداء و الكفاءة الربحية مقارنة مع مثيلتها العامة، إذ يلزم الأخذ في الإعتبار أن لهذا الظاهر باطناً أحد جوانبه قهر القوى العاملة و الإستبداد بالرأي و القرار الملازم لعلاقات الملكية في المؤسسات الخاصة، من هذه الناحية لا تجد الشركة الخاصة شبيهاً لها إلا في الأنظمة الإجتماعية و السياسية الديكتاتورية، فالجيش مثلاً يعمل أيضاً بكفاءة تامة في معظم الأحيان للسبب نفسه - أي السيادة المطلقة للرئيس على المرؤوس. بإعتمادها الربح هدفاً أوحداً صمداً تنزع الملكية الخاصة الرأسمالية إلى إستبعاد بل تجاوز ما عداه من الإعتبارات و الإلتزامات التي تمليها حقيقة الوجود الإجتماعي، لا ترى في الثروات الطبيعية و البشرية بل و في الكنوز المعنوية و الثقافية للمجتمع سوى وسائل متعددة لتحصيل مزيداً من الربح الذي لا يحبسها عن تحقيقه مانع. هذه الفردانية المطلقة هي صميم في الرسالة الثقافية للرأسمالية؛ من خلالها يتم تشجيع الرغبات الإستهلاكية للجمهور و دونها لا تكتمل سطوة علاقات السوق على مجمل نشاط الأفراد، الذين يتم إعادة صياغة وعيهم بذواتهم عبر تجريدهم من إنسانية التضامن و الوجود المشترك و تحفيزهم على الركض الدائب خلف سراب الإستهلاك، لا يتمايزون إلا بقدر ما يمتلكون إتباعاً لقاعدة (العندو قرش يساوي قرش). ما يتبع ذلك من عمى تجاه المصلحة العامة و الأهداف الكلية للمجتمع و من تفتيت للكيانات الإجتماعية - حتى الأسرة و ما دونها من علاقات بين الأفراد - ملازم بالضرورة لسيطرة الملكية الخاصة الرأسمالية على الإقتصاد و يصح بداهة على الحكم و أهله فرض عين بما بين السلطة و المال من إتصال جدلي.

عادة ما نسمع من أئمة السوق الرأسمالي الدوليين و المحليين النعت الرائج (السوق الحر) و الحرية المزعومة أسطورة عنيدة تفعل فعلها الهدام في الوعي الطبقي للجماهير و تستوجب السؤال التمييزي: الحرية لمن، و لفعل ماذا؟ الشرح المدرسي يقول عدم تدخل الدولة في السوق و آلياته، بينما الممارسة تقول الحرية للشركات لجني أقصى الأرباح، و تدخل السلطة السياسية الهيكلي و القانوني لصالح المستثمرين و ضد المخربين من شاكلة القوى النقابية و السكان المحليين غير المطيعين. تحت هذا العنوان تندرج حزمة متكاملة من الإجراءات، على سبيل المثال لا الحصر: تفكيك القوى النقابية و نزع حقوقها و مكتسباتها عبر سلطة القانون، (إصلاح) قوانين و علاقات العمل لضمان مرونة العمالة، التخفيضات و الإعفاءات الضريبية و الجمركية التفضيلية، تعديل قوانين و علاقات ملكية الأرض، إلغاء الدعم الحكومي للسلع و الخدمات الضرورية، تفكيك و بيع المؤسسات و المشاريع المملوكة للدولة؛ هي بالضبط ما نفذته سلطة الجبهة الإسلامية تنزيلاً لمشروعها الحضاري و تمكيناً لنخبتها الرأسمالية في الأرض.

رغم الكلفة الإجتماعية العالية لسياسات (التكييف الهيكلي) نجحت السلطة لدرجة مقدرة في ترويض القوى الشعبية و إسكات صرخات إحتجاجها المطلبي و السياسي، ليس فقط ببطش السلطان و تفتيت القوى النقابية و إستئلافها لكن إيضا نتيجة غير مباشرة للرسالة الأيديولوجية التي ما انفكت السلطة تعصف بها أذهان الناس عبر ماكينتها الإعلامية و مناهجها التعليمية.

سنداً لغزوة الإقتصاد اجتهدت السلطة ايما اجتهاد في تفكيك النظام التعليمي الحكومي و الأهلي وافر الديمقراطية رغم قصوره في مناحي عديدة كماً و كيفاً، ذلك الذي صنعه السودانيون بمحدود مواردهم مستلهمين تراثهم التضامني في المسيد الجامع فجعلوه مملوكاً و مفتوحاً للناس كل الناس، سواسية كأسنان المشط، حقاً مكتسباً إنتزعوه بنضالهم الشاق من المستعمر و من حكومات (أولاد البلد)، يوارون به سوءة المفرزة الطبقية و يحدون به جورها. بخصخصة التعليم مكنت الجبهة الإسلامية عن قصد و دراية لفرز طبقي حاد، يسخر صراحة من كل إرث سوداني في المساواة و العدالة الإجتماعية، فما بين طبقة دنيا تعتمد على التعليم الحكومي سلماً لصعود بناتها و أبنائها الوظيفي و الإجتماعي، ليسقط بهم في هوة العطالة المنظمة أو يقذف بهم في دورة الهامش الإقتصادي المغلقة و بين طبقة عليا قادرة على ضمان تعليم خاص متميز لذريتها بون شاسع، إمتد شرخه داخل مؤسسات التعليم العالي الحكومية سياسةً منهجيةً تسحب مقاعد الدراسة من (الشطار) الفقراء لتبيعها في سوق (الله أكبر) نظير دولارات الأغنياء.

إستبدال الخزينة العامة بالمال الخاص – أو القوة الشرائية للجمهور مصدراً لتمويل المدارس و الجامعات نتج عنه تحويل التعليم إلى سلعة رأسمالية، و من ثم صار لزاماً على هذه المؤسسات أن تقبل تغييرات جذرية في المفاهيم و الأهداف الهادية لعملها و في وظائفها و نظم إدارتها إنفاذاً لحكمة السوق القائلة: ”الزبون دائماً على حق“. ليس هذا الإنقلاب في علاقات (الملكية) مما يمكن إعتباره محايداً سياسياً، بل يشغل موقعاً محورياً في مجمل مشروع السلطة الحاكمة طبقي الوجهة، به ترمي إلى (تحرير) هذه المؤسسات من نفوذ الجماهير الشعبية و تحويلها إلى ما يماثل الشركات الخاصة، تبحث جاهدة عن الأسواق و الأرباح حفاظاً على بقائها في سوق تشتد فيه المنافسة، و من ثم إلى نزع روحها السياسي القومي الذي طالما لازم في جدل مضني الأصل الطبقي المتواضع لغالب روادها. ما سبق ينطبق على مؤسسات التعليم المملوكة للدولة أما القطاع الخاص التعليمي فهو مندرج بالكلية في وظيفية السوق الرأسمالي، لا تشوب نقاءه الطبقي شائبة بروليتارية إلا ما كان من باب التسويق و الزينة، إستدراراً لبقرة الإمبريالية الحلوب أو رشوة للضميرالشعبي بإسم الأعراق (المهمشة) و الجندر و النابغين و غيرها من صيحات الموضة في بازار المنح و الهبات الدولية البريئة.

على شاكلة التعليم خطت السلطة السياسة خطوات بعيدة في تعميم نمط الشركة الخاصة على الخدمات الصحية، قاصدة تحريرها هي الأخرى من العباءة الجماهيرية، ما منعها من ضلال التسليع الإحصاءات المفزعة التي ترد من أرياف السودان و مدنه هامشاً و مركز. وفق منطق الربحية الصحة عام و خاص و المرض كذلك، عليه فضلت الدولة- الشركة (إستثمار) المال العام في المرض (الخاص)، أول أولوياتها توطين العلاج بالداخل لمن إستطاع إليه سبيلاً و تشييد المستشفيات (الإستثمارية) ذات الخدمات الفندقية، المزودة ليس فقط بمستورد الأجهزة الأحدث بل بمستورد العمالة الأمهر، بينما تضيق القنوات العلاجية الرسمية عن إستيعاب المرضى من (العوام) و لو إتسعت يمنعهم ضيق ذات اليد عما توفره من كثير تقوى و قليل زاد علاجي، أما ما قل ثمنه و كثر نفعه من علاج وقائي و إرشاد صحي و رعاية صحية أولية فبات في ظل حكم الشركات دولة و قطاع من اساطير الأولين، نسمعها و لا نشهدها، أو تبعاً لإستدارة الزمان صار حججاً تسوقها (المنظمات غير الحكومية) بين يدي (المانحين) صادقة و غير صادقة طلباً للدعم، و ما أدراك ما الدعم !

ختام الحديث أنه ما دامت السلطة في السلطة فحتى الأمراض لها طبقات، و لا يجوز أن تحجب (الرطانة) الديمقراطية عن بصيرة الجماهير أن ما أنجزه نظام الجبهة الإسلامية من تفكيك للملكية العامة و فصل للدولة عن الشعب و تسليع للإنسان السوداني لا يستقيم إعوجاجه بتغيير فوقي في النظام السياسي فقط، يحمل إلى كراسي السلطة من إتفقوا على البيع و اختلفوا على القسمة، حاكمين و متمردين و معارضين محترفين.






مايو 2005











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغدة تقلد المشاهير ?? وتكشف عن أجمل صفة بالشب الأردني ????


.. نجمات هوليوود يتألقن في كان • فرانس 24 / FRANCE 24




.. القوات الروسية تسيطر على بلدات في خاركيف وزابوريجيا وتصد هجو


.. صدمة في الجزائر.. العثور على شخص اختفى قبل 30 عاما | #منصات




.. على مدار 78 عاما.. تواريخ القمم العربية وأبرز القرارت الناتج