الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الثورة وما يقال
الفضل شلق
2013 / 10 / 25ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تطيح الثورة بالتوازنات القائمة، تفتح الباب أمام احتمالات جديدة، تستعاد عن طريقها السياسة، ينخرط الجمهور في السياسة بعد أن غُيّب عنها. بالسياسة يعاد تشكيل الجمهور، يتحول من كمّ مهمل إلى ذات فاعلة. يصير للشعب إرادة. تدخل هذه الإرادة في مواجهة مع السلطة. المواجهة يمكن أن تتراوح بين الحوار والعنف. تحتكر السلطة أدوات العنف، لكن الجمهور يمكن أن يحصل عليها. يفضّل الجمهور أساليب الحوار، لكنّ السلطة تتحايل عليها. لا تسمى ثورة إلا لمجموعة الأعمال والنضالات التي تؤدي إلى إسقاط السلطة. القضاء على رأس السلطة ليس مسألة ثانوية، لكنّه بداية لا بدّ منها. على الثورة أن تدمّر مؤسسات السلطة حتى تكتمل. تدمير مؤسسات السلطة يستوجب قيام مؤسسات أخرى، أو بديلة، وهنا تبدأ الالتباسات، لو أنّ الثورة بدّلت بيروقراطية بأخرى، أو جيشاً بآخر. فالمؤسسة الجديدة لا بدّ من أن تحتوي على عناصر المؤسسة القديمة. ما يبدو استمراراً يمكن أن يكون انقطاعاً. في الاستمرار منافاة مع تعريف الثورة. ربما تغيّرت الأسماء وبقي المضمون واحداً، أو ربّما بقيت الأسماء وتغيرت المضامين. يعتمد الأمر على موازين القوى الحاصلة قبل الثورة وفي خلالها وبعدها. تتغيّر موازين القوى باستمرار. ويأتي التدخّل الخارجي بهذا الاتجاه أو ذاك. كل تدخّل خارجي يضرّ بالطبقات والفئات الاجتماعية المساهمة في الثورة.
ربّما طلب التدخّل الخارجي حاكم يائس، أو ثوار بائسون. لا يستطيع الثوار أن يكونوا ذوي نفس قصير، أو رؤية قصيرة المدى. الحكّام أمرهم مختلف. السلطة تعوّض عمّا فيهم من تفاهة. لا بدّ للحكّام من الاستعانة بالخارج على الداخل، بالخارج الإقليمي أو الإمبريالي الدولي ضدّ قوى الشعب الثائرة. تتدخّل القوى الخارجية سريعاً، وتحاول تحويل الثورة العربية إلى حرب أهلية. ليس ضرورياً أن تنشب الحرب الأهلية في دولة ذات تعدّد إثني أو طائفي ديني. ربّما حدثت في مجتمع موحّد دينياً ومذهبياً وإثنياً. ليس الأمر مهماً لدرجة فائقة. تجد السلطة مع حلفائها الخارجيين الوسائل لتعديل الثورة إلى حرب أهلية. أو على الأقل إلى نزاع على السلطة، ربّما كان النزاع على السلطة حرباً بين طبقات تجد كلّ منها أنّ الدولة وسياساتها والنخب المسيطرة على الدولة، يتنافى وجودها مع الثورة ومتطلباتها، وتحدث الحرب الأهلية بين قوى من ذات المذهب أو الإثنية أو الطائفة. المهم أنّ الحرب الأهلية صراع بين جماعات ذات رؤى مختلفة حول الدولة والسلطة، والخلاف يمكن أن يصدر عن رؤى للمستقبل، وليس فقط يحدث تلقائياً نتيجة الاختلافات الاجتماعية الموجودة. باختصار تسعى قوى الثورة إلى استخدام العناصر التي توحِّد، بينما تسعى قوى الثورة المضادة الداخلية والإقليمية والدولية إلى استخدام العناصر التي تفرِّق. يتضح الأمر بفحص المصطلحات التي تستخدمها قوى الثورة.
الثورة والسياسة:
يخرج الجمهور من القمقم. يفارق الحالة التي كان فيها حين كان القمع يوجب على كل فرد أن يتلطّى من السلطة وأجهزتها، وأن يخترع لنفسه شخصيتين، واحدة يبرز بها أمام الأجهزة مع تبنّي خطاب السلطة، وواحدة مضمرة يعبر فيها عن مشاعره ومواقفه الحقيقية. يؤدي القمع إلى تكسير النفس وتحطيمها، تنسلخ الذات عن النفس؛ يصاب المرء بحالة فصام.
في الحالة الثورية يتوحّد الفرد في السعي لحريته. الحرية هي إزالة حالة الانفصام التي يعاني المرء منها تحت ضغط الأجهزة. يشلح ثياب التخفّي. ينزل إلى الشارع عارياً أمام السلطة. يقدم نفسه كائناً متماسكاً مستعداً لكل الطوارئ. هذا الفرد الذي استعاد اندماجه في نفسه هو الخطر الأكبر على السلطة وحلفائها الداخليين والخارجيين. هذا الفرد لم يعد خائفاً متلطّياً، يمارس التقية كي يتلافى قمع السلطة له. هو في حالة مواجهة. كي يواجه عليه أن يناقش ويحاور مع زملائه في الشارع، ثم أن ينسق معهم. الفرد لا ينزل وحده إلى الساحة العامة، ينزل الأفراد بكثرة. يشكلون المجتمع، بل يعيدون تشكيله. يصير المجتمع في حالة مواجهة مع السلطة. وهذه حالة سياسية عامة. تستعصي على الأمن وأجهزته. عندما تنتشر حالة العصاة من الثوار، لا يمكن أن تحيط قوى الأمن والبلطجية والشبيحة بشعب كامل. أجهزة الأمن مهيأة فقط لحالات موضعية. لا تستطيع مواجهة شعب بكامله، خاصة إذا امتنع الشعب عن استعمال وسائل العنف. تمتلك السلطة وسائل العنف. ويمتلك المجتمع وسائل السياسة. عندما يضطر النظام إلى محاورة الشعب، المجتمع ، أو من يمثله، فإن النظام يكون قد استسلم للسياسة. وإذا لم يستسلم النظام للسياسة وتشنج ورفض التسوية تنتقل المواجهة إلى وسائل غير سياسية، إلى غير الحوار، وتنطرح وسائل العنف من الجهتين.
بالثورة تُستعاد السياسة. السياسة إرادة وتجاوز. يتجاوز المجتمع حالته السابقة وتصير له إرادة. يحاول الشعب فرض إرادته على السلطة. يعتمد الأمر على موازين القوى بين الشعب والسلطة. عندما تحاصَر السلطة، ربما تتشقق، ويحدث انهيارها. لا تنهار سلطة إلا إذا تشققت من الداخل، وانفكت عنها نخبها. يشكل أهل السلطة طبقة في مواجهة طبقات المجتمع. أكثر طبقات المجتمع ثباتاً هي الأكثر فقراً من عمال وفلاحين وعاطلين عن العمل، وأجيال جديدة خارج سوق العمل، وبيروقراطية مضطهدة، وأحياناً بورجوازية لا تجد لها مكاناً في الدورة الاقتصادية. مع انتشار النيوليبرالية، تفقد الطبقة الوسطى موقعها، ويتكاثر أبناؤها من الذين لا يجدون فرص عمل. وفي كل الأحوال يشكل الفقراء، الأكثر فقراً، قاعدة كل ثورة حقيقية. الفقر ينتج عن سياسات السلطة، خاصة السياسات النيوليبرالية التي تؤدي، أينما حلت، إلى توسيع الهوة بين الطبقات وإلى مزيد من إفقار الفقراء ومزيد من غنى الأغنياء، وإلى توسيع دائرة الفقراء، وإلى تقليل عدد الأغنياء. تتوسع قاعدة الثورة بسبب سياسة النظام النيوليبرالية، ويحفر النظام قبره بيده.
يزداد لجوء النظام إلى المؤسسات الدولية للإقراض، وهذه تفرض شروطها. وتطبيق هذه الشروط يؤدي إلى تعميق الحالة التي يُراد الخروج منها. تزداد تناقضات الرأسمالية بفضل النيوليبرالية، تصير الرأسمالية أكثر طفيلية، تضطر إلى زيادة مواردها عن طريق رفع أسعار الموجودات (خاصة العقارات المبنية وغير المبنية)، تضطر إلى وضع الأصول الثابتة (الرأسمال الثابت) قيد التداول، فتزداد بعداً عن الناس. وعندما تبتعد ما فيه الكفاية، تنكسر كل صلة بينها وبين المجتمع، وتنكسر كل علاقة بين الناس والسلطة النيوليبرالية – تصير السلطة مجردة عن المجتمع ومعزولة عنه.
بالثورة تُستعاد السياسة لتشمل كل نواحي الحياة بما في ذلك إعادة الدولة إلى المجتمع. تصير الدولة إطاراً للمجتمع لا مجرد سلطة عليه. بالسياسة يزداد الحصار على النظام. يشتد تدريجاً إلى أن يتحطم من الداخل من أجل السقوط.
بالسياسة يستعيد المجتمع إرادته. يحاول أعداء الثورة اللجوء إلى الانتخابات للقول إنّ هذه ديمقراطية تحقق المطالب. في الانتخابات تصادر الطبقات العليا إرادة الشعب، توهمه أن هذه هي إرادته، تعيد تدجينه، تحشره بدستور لا علاقة له إلا بإعطاء الأولوية لمقولات السلطة الدينية والأيديولوجية من أجل التدجين القانوني للجمهور. مؤسسات القانون ليست من اجل انتشار السياسة بل هي من أجل قمع السياسة: كفى تحركاً جماهيرياً، وليكون الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، من أجل عد الأصوات. ينتج عن الاقتراع جملة من النواب الذين يمثلون طبقاتهم، ويخضعون لإملاءات السلطة، ويستخدمون الانتخابات لإخضاع الجماهير مرة أخرى.
الثورة والثقافة:
في معظم ما قيل عن الثورة العربية، هناك شبح الحداثة والمسألة الثقافية. تُحال المنطقة إلى ثقافتها العربية والإسلامية، ويقال إنه لا ثورة إذا لم تكتسب هذه المنطقة الحداثة عن طريق تجاوزها ثقافتها. يُزاح موقع الثورة من السياسة إلى الثقافة، كي يقال إن ثقافة هذه الجموع "التقليدية" البلهاء، التي هي على غير استعداد للقطع مع تاريخها، والتي هي على غير استعداد لتجاوز ثقافتها، والتي هي على غير استعداد لتقبّل الحداثة، ناهيك بما بعد الحداثة. إذن يُحكم على الثورة بأنها مجرد انتفاضة آنية عابرة، لن تؤدي إلى تغيير كبير؛ ومن هؤلاء من ينحني أمام ضخامة الحدث دون اقتناع منه فيتردد في الحكم بانتظار ما ستؤول إليه النتائج.
يتلخّص شبح الحداثة في اعتبار أن لكل ثقافة "جوهر"؛ الجوهر محدد الأقانيم؛ الأقانيم لا تتغير؛ خلال خمسة آلاف عام من تاريخ هذه المنطقة لم يحدث تغيير أساسي مؤسساتي؛ ويقولون إن كل التغييرات التي حدثت كانت على السطح لا في العمق؛ أو أن تاريخ المنطقة دائري، يعود إلى نقطة البدء مهما كانت ضخامة التحولات؛ لا تحدث ثورة أو انتفاضة إلا وتعود المؤسسات السابقة إلى التحكم بالأمور. وإن كان عن طريق أشخاص جدد؛ هناك فقط تتابع سلالات. تتغير الأسماء والجوهر واحد.
مقابل جوهرة الثقافة، وجعلها هي التاريخ الذي يمكن استنباطه من بضع مقولات (لا استقراؤه من مسارات الأحداث)، هناك الحداثة التي يجب أن تحل قبل أن تستحق هذه الشعوب الثورة، أو قبل أن تستحق أن يقال عن انتفاضتها إنها ثورة. الحداثة هي الفردانية والعقلانية والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وكل ما يأتي من الغرب. الحداثة هي النموذج الغربي في انتقاله إلينا. من الضروري، حسب هذا المنطق، أن يتم تحديث هذه الشعوب قبل أن تستحق الثورة، بالأحرى قبل أن تستحق الحياة !
يغيب عن البال أن ما فعلته أنظمة الاستبداد في خلال العقود الماضية (بالأحرى في خلال القرنين الماضيين) هو التحديث بعينه. يستحيل في ظل الهيمنة والسيطرة الإمبريالية إلا أن يكون التطور المحلّي مرآة للغرب. ما حدث في الماضي القريب هو تحديث هذه المنطقة، لكنه تحديث إمبريالي- استبدادي، من صنع الغرب لا من صنع سكان هذه البلاد. وعندما يأتي دور سكان هذه البلاد لصنع حداثتهم، كما يرونها هم، ينكرون عليهم ذلك، تحت عنوان أن ثقافتهم الموروثة لا تؤهلهم لذلك. هذا هو خطاب الإمبريالية منذ أن اقتحمت بلادنا، لكنه خطاب قطاع هام من النخب الثقافية و(السياسية). ما أُغرم حكام الاستبداد بشيء قدر ما أغرموا بخطاب الحداثة الثقافي. خطاب الحاكم الاستبدادي بأنه خدم بلده على مدى عقود من سني الاستبداد هو خطاب صحيح في أنه خدم الإمبريالية في خطابها التقليدي؛ خدم بلاده في بقائها تحت السيطرة الإمبريالية؛ خدم بلاده في تبعيتها للإمبريالية؛ خدم الإمبريالية في بلاده؛ خدم الرأسمالية كي تبقى مسيطرة على شعبه. الحاكم العربي يعرف تمام المعرفة من خدم.
تقدم الثورة فكرة السياسة على الثقافة، على أن الثورة مرحلة تكثيف الحوار والنشاط السياسيين، في زمن الثورة تتكثف السياسة ويظهر دورها المؤثر في الثقافة وفي كل ما هو موروث عن إيديولوجيات وأفكار. في اللحظة الثورية يبدو واضحاً أولوية السياسة على الثقافة وكيف أن السياسة تتجاوز الثقافة وتقرر مسارها. في اللحظة الثورية تعمل السياسة على الثقافة، لتحول كل ما هو ثقافي إلى عمل سياسي، لتحوّل الثقافة من عمل طويل المدى إلى عمل قصير المدى، بالأحرى إلى عمل توجهه قرارات سياسية قصيرة المدى. في اللحظة السياسية الثورية، تتحكّم القرارات السياسية قصيرة المدى بالتطورات الثقافية طويلة المدى. الثورة وجود بشري إنساني لحظة انفجارها، هي انفجار الوجود البشري، هي بالأحرى انفجار طاقة كامنة في الوجود البشري, تظهر الأيديولوجيا لاحقاً، بعد الثورة، في محاولة لفهمها أو تبريرها أو القضاء عليها.
إن مرحلة الثورة هي مرحلة تكثيف العمل السياسي، وهي مرحلة سيطرة العامل السياسي على العامل الثقافي، سواء كان الديني أو غيره من عناصر الثقافة. في اللحظة الثورية تظهر السياسة لتؤكد إرادة الشعب، الإرادة هي ما يفرض نفسه على الثقافة ويغيّرها. في اللحظة الثورية تأخذ السياسة أولويتها وتقرر الثقافة وتقودها وتُحدث تغييرات جوهرية فيها. تراكمات القرارات الثقافية بواقع سياسي هي التي تتراكم عبر العصور، وهي ما يقرر الثقافة على المدى القصير وعلى المدى البعيد. والعقيدة الدينية، بما هي جزء من الثقافة، تتقرر أولاً وأخيراً، بناءً على السياسة.
نزل الناس في ميدان التحرير، وكانوا إسلاميين وليبراليين، وأحزاباً يسارية ويمينية ووسطية، وناضلوا سياسياً حول موضوع واحد وأساسي هو إسقاط النظام. جمعتهم السياسة على اختلاف مشاريعهم الإيديولوجية. جمعتهم الثورة بدواعي السياسة؛ كانت السياسة هي المقرّر لكل ثقافة من ثقافاتهم في هذه اللحظة التي امتدت إما في ميدان التحرير، وقبله وبعده، وحّدت السياسة الثقافات لمدة معيّنة. السياسة تقرر الثقافة في اللحظة الثورية، وهذا ما حصل في ميدان التحرير. لم تلغ السياسة الثقافة في اللحظة الثورية، لكنها أضافت إليها بتراكمات الإرادات. ولذلك يمكن القول أن الثقافة ليست معطى إلا بمقدار ما هي تراكمات ثقافية محددة في كل ظرف تاريخي. هذا التراكم السياسي الإرادي على المدى الطويل هو الذي يشكل الثقافة، وهو ما يعيد تشكيل الثقافة بما في ذلك عقائد الدين، على المدى القصير أيضاً. ليست الثقافة معطى دينياً إلهياً مهما قال الفقهاء الدينيون في ذلك، بمقدار ما هو تراكم سياسي على مدى العصور. حقيقة أن الدين يحصل على المدى الطويل بتراكمات السياسة، تعني أن الدين معطى إنساني لا إلهي. والذين ينطقون باسم الدين كي يعطوا أنفسهم سلطة معنوية لا يستحقونها على المجتمع، هم في الحقيقة يتكلمون لغة سياسية بتعابير دينية لا أكثر ولا أقل. جميع الأطراف في الثورة تتكلم بلغة سياسية وليس لأي منها سلطة غير ما يقررها الشعب في مساره الثوري، سواء استندت إلى نصوص تأسيسية دينية أم غير ذلك. حتى في استنادها إلى النصوص المقدسة فإن مفاهيم هذه الأطراف الدينية وتعليلاتها وأفهامها تختلف، والاختلاف من طبيعة الأمور، والاختلاف شأن إرادي أي سياسي.
الثورة والدولة:
يصعب الحديث عن مجتمع أو شعب أو أمة دون دولة. لكن هناك شيئاً مشتركاً بين معظم العرب: لم يستطع الاسلام أن يجعل من العرب المسلمين والعرب غير المسلمين أمة. ما هو مشترك بين معظم العرب هو اللغة؛ وهي ما تميزهم عن غير العرب. ليس مصادفة أن الثورة (الثورات) العربية حدثت في كل الأقطار العربية دفعة واحدة، وإن بأشكال مختلفة. ليس هناك سلطة عربية تتصرف إلا وكأن الثورة قد وقعت في بلادها، أو تتصرف لمنع حصولها المؤكد. ليس هناك حاكم عربي واحد لا يعرف أنه مهدد في بلده، وإن الذي يهدده هو شعبه، لا الخطر الآتي من الخارج. الأخطار الخارجية تأتي بعد توقع الثورة أو بعد حدوثها؛ قبل حدوثها أو بعد حدوثها.
هي ثورة الكرامة كما يقولون؛ الكرامة هي الخروج من الفقر، هي تحرير فلسطين، هي الخلاص من التهميش، هي احتلال مكان ما تحت الشمس. الكرامة هي أولاً وأخيراً اعتراف العالم بالعرب كأمة (سواء في دولة واحدة أو عدة دول)، اعتراف العالم بالعرب كوجود حقيقي، كأفراد وكجماعة أو جماعات. الكرامة هي أولاً الخروج من الاستبداد، القضاء على الاستبداد؛ وهي أيضاً مواجهة الإمبريالية، القضاء على الإمبريالية، لأنّ العرب يعرفون أن الاستبداد هو الوجه المحلّي للإمبريالية.
الاستبداد عادة قديمة، والإمبريالية عادة قديمة، لكن لم يحدث في التاريخ أن التقيا كما بعد ازدهار الرأسمالية العالمية في القرن التاسع عشر؛ ولم يحدث أن التقيا ضد أمة بعينها ولغة بعينها وثقافة بعينها، كما ضد العرب.
لا يمكن البرهان على وجود أمة ما قبل وجود الدولة. ما يريده العرب هو دولة تمثل إرادة شعبها، سواء كانت الدولة قطرية أو دولة الأمة. يعرف العرب أن ما من مجتمع يمكن تجسيده، كأفراد وكجماعة، إلا في وجود الدولة. الدولة دائماً ظالمة، دائماً متحيّزة لطبقة ضد أخرى، دائماً تنشأ حولها شبكة مصالح تتآمر على شعبها مادياً ومعنوياً؛ لكن الدولة مركز القرار. يريد العرب القبض على مصيرهم، تقرير مصيرهم؛ لأنهم عندما يقبضون على مصيرهم، وعندما يسيطرون على مقدراتهم، يستعيدون الثقة بالنفس، يستعيدون الكرامة المفقودة، ويخرجون من وقع الهزيمة الكارثي على وعيهم وعلى تقديرهم لذاتهم وعلى تقدير العالم لهم.
هي ثورة كرامة. نعم، لأنها ثورة ضد أنظمة لا كرامة لها. هي ثورة طبقية، لأنها ضد طبقة (أو طبقات) تخلّت عن شعوبها ومجتمعاتها في سبيل رضى الرأسمالية عنها. والرضى حازته بالتخلي عن ثروات بلادها، خاصة النفط. وغير النفط أيضاً؛ عندما نجد بلاداً عربية كانت في منتهى الخصوبة والإنتاجية، وهي الآن تستورد القمح والماشية لإطعام شعوبها؛ لا تختلف بلدان النفط عن بلدان غير النفط في ذلك. أنظمة طفيلية وطبقات طفيلية عاشت على فتات المائدة الذي تركه لها الغرب الرأسمالي. لم يكن لها شرف أن تكون طفيلية على عمل شعبها وإنتاجيته. تعطيل إنتاجية الشعوب العربية، وإغراقها في البطالة، أي منعها من العمل والإنتاج وتهميشها وتهجيرها وإخضاعها، حيث كانت، لأجهزة القمع، هذه هي إشكالية الثورة.
الكرامة ليست مسألة تَرَفيّة، هي تتعلق بفعل كل شيء بفقدان الإنسان المعنى والمغزى في العمل والسعي والشغل. ليس الشرف قيمة بل هو ما يحصل بعد القيمة. القيمة الوحيدة هي العمل، هي في صنع ما يجب أن يصنعه بفخرالإنسان بنفسه عندما يصنع شيئاً. يعتز الإنسان بنفسه عندما يكون صانعاً وخالقاً قيمة، لا عندما يكون تابعاً لها أو مصنوعاً منها. الإنسان الخالق هو وحده الإنسان الشريف. وهذا ما يطلبه العرب. يطلبون أن يكونوا صناعاً لشيء ما، على الأقل صناعاً لمستقبلهم ولمصيرهم. وما ثار العرب من أجله هو أن لا يكونوا مخلوقات تسمى الثروة، ثروة الريع والنفط ثم الاستتباع لما هو خارج عن مصيرهم.
ليس الشرف شرف الأمة، لأننا لا ندري ما هي الأمة؛ ندري أن الأمة هي ما نصنع في دولة. الشرف هو شرف الجماهير التي حُرمت من إمكانية أن تكون جموعاً بشرية قادرة على الفعل، ومستعصية على الاستعباد. لم تقم الجماهير بالثورة من أجل مقولةٍ ما، مهما كانت هذه المقولة جليلة. الأمة مقولة ما دامت لم تتجسَّد في دولة. قامت الجماهير بالثورة من أجل أن يكون لها الحق، لا الحق المعلن والمشاح عنه في الواقع، بل الحق الفعلي والعملي والمتجسد في أن تكون جماعة بشرية فاعلة. ثار الجمهور لأنه أراد أن يكون جمهوراً وحسب؛ الجمهور الحقيقي هو ما يُنسب إليه ما يكون عليه الجمهور. الجمهور هو الذي يتجسد في جمهورية، لا جمهورية العقد الاجتماعي، ولا جمهورية الاضطرار إلى تنظيمٍ ما من أجل تلافي الفوضى، بل الجمهورية التي تتأسس على إنسانية الإنسان وبشرية البشر، الجمهورية التي أساسها أن الأخلاق البشرية هي في الأساس قائمة على الخير، وأن ما يحيل الخير شراً هو السلطة، وهو إمكانية الاستغلال والربح من عمل الآخرين. البشرية أساساً خير، يتحول الخير إلى شر لاحقاً. اللاحق هو تاريخ السيطرة والاستغلال والعبودية المتحولة إلى إقطاعية والإقطاعية المتحولة إلى رأسمالية؛ وكلها يؤدي إلى تحول الإنسان عن إنسانيته.
ما علاقة هذا الهذيان بالثورة العربية؟ الثورة العربية كلها هذيان؛ لأنها شيء يصنعه الجمهور الذي لا يملك من أمره شيئاً في وجه قوى رأسمالية إمبريالية تملك كل شيء. ولأنها هذيان يصعب على النخب العربية المتعقّلة والعارفة والقادرة على معرفة ما يجري في الغرب، يصعب عليها أن تعرف ما يجري في بلادها؛ هذا "الشرق" المستغلق على الإدراك. لأنهم يعرفون ما في الغرب ولا يعرفون ما في الشرق، يصعب عليهم تصديق أن ما يجري في الشرق هو فعل إرادة تنبع من هذه البلاد. هذه البلاد صحراء واسعة، ليس فيها إلا اثنين الشمس والعطش والجوع وأفلام لورانس العربي. لا تنتج شيئاً إلا واحداً يقتل آخر على بئر ماء. لو كان الأمر كذلك لما استطعنا تفسير ظهور الشعراء الصعاليك، ثم الإسلام، ثم خالد بن الوليد، ثم... حتى الآن ليس لدينا تفسير لظهور وتأسيس هذه الحضارة التي تسمى عربية حيناً، إسلامية أحياناً. ليست الإشكالية تراجع المسيحية في هذه المنطقة، بل هي في انتشارها في مناطق أخرى. لو كان الدين ابن بيئته لما ظهرت المسيحية، ولما تراجعت، ولما ظهر الإسلام وانتشر في أماكن أخرى. علينا البحث في الأسباب السياسية للدين، لا في الأسباب الدينية للثقافة. التاريخ مجموعة صدف، والدين واحدة منها؛ وربما لم يكن أكثرها أهمية.
الثورة والمواطنة:
بدل أن تتجه الدولة العربية نحو استيعاب جميع مواطنيها، فعلت العكس تماماً، إذ استبعدت من المواطنية كل من ليس عربياً عربياً في الداخل وكل من هو عربي في الخارج. استبعدت الدولة العربية سكانها الأصليين وحرمتهم من عروبتهم، واستبعدت سكانها الأصليين من عروبتهم، وفي حرمان كل هؤلاء من عروبتهم، فإنها حرمت الدولة العربية نفسها من عروبتها، وصارت غير عربية، صارت مجرد عضو في الجامعة، إلى أن صارت الجامعة العربية عضواً في المجموعة الدولية، أي صارت أداة طيّعة بيد الإمبريالية الأميركية ودون أن تختلف في ذلك مع الأدوات الإمبريالية الأخرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي؛ صارت تصدر بيانات دون أن يقرأها معظم مندوبي الدول العربية ودون الإقرار بها جماعةً. صارت تتقيد بالأوامر الإمبريالية دون حياد، ودون اضطرار لأن تحتال على شعوبها، كما كانت في الماضي.
إن أهم ما في الاستبعاد هو أنه يبدأ باستبعاد البعض مثل "البدون" من مواطنية بلدهم، واستبعاد الكرد العرب من عروبتهم، واستبعاد البربر العرب من عروبتهم، واستبعاد جميع هؤلاء من احتمال أن يصيروا غير عرب إذا أرادوا ذلك؛ لكن الاستبداد انتهى إلى استبعاد الشعب العربي كله من عروبته، ما عادت العروبة أداة تحليل، يمكن البناء عليها في السياسة، بل تعبيراً يستخدمه أصحابه من الجيل القديم، مع اعتبار أن هؤلاء صاروا مجرد موضة قديمة، وصاروا كلاماً لا يؤبه له.
تجاهلت الدولة العربية أنه ليس بالنفط وحده يحيا الإنسان، وأن الإنسان العربي، كما كل إنسان في العالم؛ يحيا بقوة عمله، وان قوة العمل هي القيمة الحقيقية لكل مال ولكل ثروة. هذه الدولة الاستبدادية الجاهلة، عن قصد أو غير قصد، لمشاعر ووجدان شعبها، هي دولة لا بد أن تكون معادية للديمقراطية لأنها معادية لشعبها؛ وهي بما أنها معادية لشعبها سوف تتطلع إلى مكان آخر لإيجاد بديل عن شعبها لاكتساب الشرعية، ولقاء ذلك اضطرت لأن تكون أداة له. والآن عندما تقوم الشعوب العربية بالثورة، جاء دور الحساب. وعلى الأنظمة العربية أن تدفع ثمن ذلك في بقائها أو عدم بقائها. لن يكون الأمر سهلاً. المعروف أن طريق الثورة طويل ومكلف. بسبب هذه المواجهة، تتجه بعض النخب العربية إلى الاعتقاد بأن ما يجري ليس هو الثورة العربية، وأنه ليس مسار الثورة العربية هو ما يقرر مصير المنطقة بل هي حركة المخابرات الأميركية والأجهزة الأميركية الأخرى. فهم الذين بيدهم الأمر، وهم أصحاب القرار؛ إذ، ما يحدث هو مشروع الشرق الأوسط الجديد. يخشى هؤلاء أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يضم دولاً غير عربية (تركية، أفغانستانية، إيرانية، غير ذلك)، وأن مشروع الثورة العربية يقتصر على العرب؛ ويتجاهل هؤلاء مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد (سيان) هو موجّه بالدرجة الأولى ضد عروبة العرب؛ ويتجاهل هؤلاء أن مشروع الشرق الأوسط الجديد الكبير مرفوض بعيون العرب كما هي مرفوضة دولهم بأشكالها الحالية، وكما الحكام هم مرفوضون دون استثناء. إن أولى مهام المثقف الثائر العربي خصوصاً، والثائر العربي عموماً، هو رفض كل مشروع لا يبنى على الاستيعاب: استيعاب كل سكان القطر في القطر، واستيعاب القطر في العروبة لا في مجرد الجامعة العربية. استيعاب العرب الآخرين في القطر لا يستدعي أكثر من فتح الحدود أمام العرب لحرية التنقل ليرقى البشري إلى حرية حركة البضاعة والمال، هذا ليس كسباً للعرب على حساب القطر، بل كسب للقطر على حساب العرب، وهو كسب مشروع. هو الكسب الوحيد الذي يعطي أي قطر عربي شرعيته.
لا يكتسب أي قطر عربي شرعيته إلا من عروبته، العروبة القائمة على الاستيعاب. بغير ذلك يبقى القطر مجرد سلطة ولا يتحول إلى دولة؛ وتتحول السلطة إلى عائلة، والعائلة إلى فرد، والجمهورية إلى وراثية، وتُنهب موارد المجتمع لصالح العائلة، ويُفقر الشعب ويُنهب ويُهاجِر. الدولة غير التنمويّة هي دولة فاقدة العروبة وفاقدة الشرعية. الشرعية لا تكون إلا بالعروبة والتنمية: التنمية لوقف تهميش المجتمع العربي، هي في جعله شريكاً في الدولة، مواطناً لا رعيّة؛ والعروبة للأخذ بالاعتبار مشاعر ووجدان هؤلاء الناس الذين يشكلون غالبية الشعوب العربية، ولا يريدون للدولة العربية سوى سمة العروبة، والذين لا يريدون للأثنيات سوى العروبة مع الحفاظ على أثنياتهم المختلفة وحق الانفصال إذا أرادوا.
في الاستبعاد، استبعدت أنظمة الاستبداد نفسها عن عروبتها، فتخلت عن أي مشروع تنموي للدولة، مما أدى إلى تهميش كل المجتمع وإبعاده عن السياسة.
الثورة والإيديولوجيا:
هي ثورة عربية فورية دون إيديولوجيا. لكن إيديولوجيات الثورات تحصل بعد أن تتم الثورات، وبعد أن يتم تدمير أجهزة الدولة الاستبدادية الأمنية والعسكرية والبيروقراطية القديمة. تدميرها لا يعني إلغاءها، وإحالتها للبطالة عن العمل بل إعادة تأهيلها لتدخل من جديد في دولة العروبة، دولة الاستيعاب والتنمية.
تصنع الثورة الإيديولوجيا الخاصة بها. هذا لا يعني أنه ليس في كل بلد تنظيمات ثورية مختلفة ومتنوعة تخطط وتبني كي تركب موجة الثورة في حالة حصولها. أيتها تستطيع ركب موجة الثورة؟ هذا أمر يعتمد على ظروف الثورة الداخلية وتوازنات القوى الداخلية، وكيفية التعامل في ما بينها. استطاعت الثورة الفرنسية والثورة البولشفية تصفية خصومها بعد الثورة، وبعد أن ركبت السلطة. ولا بد أنه كانت هناك تصفيات تمهيدية قبل الثورة. لكن الإيديولوجيا المنتصرة لا تظهر إلا بعد الثورة، حينها تأكل أبناءها (وأنصارها وحلفاءها السابقين).
تحصل هذه الثورة في زمن كانت الأنظمة قد اعتبرت أنها استطاعت القبض على مجتمعاتها، وعلى تشريد قواها الفاعلة أو ابتلاعها في النظام. ثم شرعت هذه الأنظمة في تطبيق برنامج نيوليبرالي أملته الإمبراطورية ودعاته الأيديولوجيون من البنك الدولي إلى صندوق النقد الدولي إلى منظمة التجارة الدولية إلى المحكمة الدولية إلى الناتو إلى الجامعة العربية، التي رضيت بتحويل دورها من إقليمي إلى دولي، لتغطية قرارات الإمبراطورية،...الخ
ليس ذلك فقط، بل أصبح واضحاً أن هذه الأنظمة العربية لم يعد لديها شيء تقوله أو تفعله سوى الانصياع لإرادة الإمبراطورية وأعوانها وأدواتها. صارت الأنظمة ذاتها أدوات إمبريالية، وحيث يلزم عادت القواعد العسكرية والاحتلالات وشرعت الإمبراطورية في تفكيك دول عربية بعد إخضاع أخرى للعقوبات ورؤساء للمحاكمات (أو التهديد بها).
صارت الإمبراطورية ترسم السياسات العربية الداخلية والخارجية. وحيث لا احتلال يهدد، هناك القيادة المركزية الأميركية تزور وتلوح بالجيوش الرابضة في المنطقة. لم يعد خطاب واحد لحاكم عربي واحد، من أي خلفية أتى، ينم عن استقلالية. صارت التحالفات الإقليمية والعربية والدولية للأنظمة الحاكمة هي الوحيدة التي تخبر شيئاً عن سياسات هذه الدول الخارجية والداخلية. ما عاد للشعوب رأي، ولا أحد من الحكام والنخب يستمع لرأيها. صارت النيوليبرالية قدر هذه الأمة، وصار الخضوع للإمبريالية وسياساتها (تحت عنوان حقوق الإنسان والديمقراطية والحداثة) دين الكثيرين من مثقفي هذه الأمة. لم يعد الحاكم مضطراً لمخاطبة شعبه، لأنه ما عاد محتاجاً إلى شعبه. صارت الجيوش العربية شركات للبناء والأعمال والتطوير من أجل إغناء قادتها. وصارت الجيوش عمالاً عند هؤلاء بأجور تقل عن الحد الأدنى. صار المطلوب لدى الجميع، بما فيهم أهل السلطة، سلطة الفكر وسلطة السياسة، وبالطبع سلطة المال، أن يرضى عنهم موظفو الدرجة الثالثة في مؤسسات المجتمع الدولي. خُصخصت الجيوش، وخُصخصت الأجهزة الأمنية، بعد أن خُصخص كل شيء بما في ذلك النفط. أما تبرير كل ذلك فهو استخدام النوع المناسب من الإسلام: الوهابية في بعض البلدان، والنموذج التركي في بلدان أخرى؛ كأن هذه المنطقة غير قادرة على إنتاج نموذجها. أو كأن نموذجها يمكن أن يكون بغير العروبة؛ بغير إعطاء الاعتبار لمشاعر الناس ووجدانهم ولغتهم. ليست العروبة إيديولوجيا، ليست قومية، وليست قومية مغلقة؛ هي وجود هؤلاء الناس الذين لا يريدون مرجعاً غيرها، في تشكيل الدولة، في التعامل بين الدول العربية، وفي التعاطي مع الدين، وفي التعاطي مع العالم الخارجي. والعروبة كانت هي المستهدفة في كل ذلك. استهداف العروبة، وما أدى إليه من تهميش واستبعاد (وسياسات الدول العربية) هو كان في أساس الثورة العربية. الشرف ليس أن يؤمن الناس بإيديولوجيا تحل مكان أخرى، بل أن يؤخذ وجودهم بعين الاعتبار لدى أنظمة لم تعمل سوى على تعطيلهم ونشر البطالة والهجرة واستقدام الخدم الآسيويين (في الخليج، ولا ضير في ذلك إنسانياً) ليحلوا مكان العرب، وليزيد عددهم عن السكان العرب. الهدف كان تحويل هذه الشعوب العربية إلى سكان أصليين، يصيبهم ما أصاب سكان أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية بعد "اكتشافها". أي بعد هجرة الرجل الأبيض إليها، والذي استخدم مواردها وذهبها وفضّتها لنشر سيطرته على العالم على مدى قرون من السنين. لم يعد المطلوب هو السيطرة وحسب بل ضم مساحة الوطن العربي، هذه المساحة الواسعة التي تشكل 10% من اليابسة، وتحويلها إلى مساحة تخلو من سكانها الأصليين (كما في فلسطين، وأميركا الشمالية، والخليج كما في المستقبل القريب) أو يخضع سكانها للسادة القادمين بعد تقسيم دولها ونقلها من حكم الطغاة إلى حكم مشايخ الفرق الصوفية والفرق الإسلامية والعشائر والقبائل التي تعاد هندستها تحضيراً للمرحلة القادمة. مشروع الشرق الأوسط الجديد مبني على فرضيات التنوع الأثني والديني والقبلي، الخ... ما يُفْرَضُ هو البرنامج الذي يفترض أنه سوف يتحقق.
تحدث الثورة في أكثر مناطق العالم ضعفاً وإنتاجاً (ما عدا النفط، هذا إذا كان النفط إنتاجاً عربياً؛ وهذا أمر مشكوك فيه). تحدث الثورة حين يعاني النظام العالمي من أزمة مالية واقتصادية، أزمة بنيوية، لا خلاص منها إلا بحرب عالمية أو حروب إقليمية ومحلية تشكل بمجملها حرباً عالمية. المنطقة العربية أُهِّلّت لتكون مسرحاً لذلك. وخطاب القرن 19 التحديثي يستخدم الأمن ليكون خطاب الغزاة وخطاب المؤسسات الفكرية والسياسية المحلية التي تستقبلهم. مختصر هذا الخطاب هو أن المنطقة بحاجة إلى رعاية كي يحصل إنقاذها من نفسها. على الغير أن يرسم برامج الحكم وفيها، وأن يضع في مراكز الحكم خريجي مدارس التدريب في أجهزة الجاسوسية الغربية.
الثورة والعالمية:
لا تحدث ثورة في بلد عربي إلا وتتدخل الأنظمة العربية الأخرى، تتدخل هذه الأنظمة لا لتحمي نفسها وحسب، بل لأنها يجب أن تتدخل بناءً على الأوامر الإمبريالية.
لا يعقل أن تلعب إمارة نفطية مدجّجة بالقواعد الأميركية البحرية والبرية هذا الدور، وان يكون أميرها رائداً من رواد الثورة. يمكن أن يكون مديراً من مدراء القوى التي تعمل ضد الثورة؛ هذا هو الأمر الذي يمكن تصديقه. الثورة المضادة العالمية لديها مدراء محليون إقليميون (لا نتحدث هنا عن عملاء؛ للعملاء دور آخر يمارسونه في الخفاء). ينقل هؤلاء العدة الإخبارية (وما أكثر الفضائيات) من بلد إلى آخر.
عند احتلال العراق لم يعد للصحفي الحر مجال للعمل، (كما كان الأمر في فيتنام)، صار المراسل مغروزاً في الوحدات القتالية. في الثورة العربية، نمط جديد من التعامل. هناك الشاهد العيان، الذي يمكن أن يكون في أي مكان، حتى في مركز محطة الإرسال ذاتها، ويحدثنا عما يجري على الأرض. الشهود العيان هو مثل "خبر الواحد" عند الفقهاء، لا يجوز الأخذ به إلا إذا اتفق مع نص. النصوص هنا، على الفضائيات، ليست إلا صوراً متكررة عن حدث واحد؛ الصور نادرة، ولا تقول الكثير؛ الفظاعات التي تحيلها إلينا لا تختلف كثيراً عن الفظاعات التي يرتكبها أصحاب الفضائيات في أقطارهم (بلادهم). ليس التساؤل هنا عن حقيقة الصور، أو عن طغيان الأنظمة، مع عدم الإيمان بقدرة أي نظام على أن يكون غير نظام طغيان الاستبداد والقتل والتشريد؛ التساؤل هنا هو حول انتقائية أصحاب القرار في العالم، الذين لا يشك أحد في قدرتهم على التأثير على أصحاب الفضائيات، إن لم نقل توجيه الأوامر إليهم. لا يشك أحد في الانتقائية. ما نشك فيه هو قدرتنا على ملاءمة الأحداث: بين وعينا والوقائع، وبين الوقائع ذاتها، بحيث صار صعباً علينا ترتيب الوقائع في سياق. يتشوش الوعي لدينا، لكننا نعرف أن السياق لما يجري هو ما تحاول الإمبراطورية أن تمليه وتقرره مسبقاً؛ لكنها تفشل، لأن هناك ثورة، يقوم بها شعب أو شعوب. الشعوب يصعب ضبطها مهما كانت التقنيات. تحاول الإمبراطورية تقصير عمر الثورة؛ تحاول الشعوب إطالة عمر الثورات. في تقصير عمر الثورة إنهاك للشعوب؛ وفي إطالة عمر الثورة إنهاك للإمبريالية. لا بد من فهم الثورة العربية على أنها عالمية الطابع؛ خصمها الأساسي هو الرأسمالية العالمية وما ينتج عنها؛ ما ينتج عنها محلياً هو أنظمة الاستبداد. تعرف الإمبريالية أزمتها، وتعرف الأسباب الاقتصادية لهذه الأزمة، إذ لم تعد قوى المركز الإمبراطوري ذات أولوية في الإنتاج (على ما هناك من فروق بين الإنتاج الصناعي والإنتاج الزراعي؛ فالإمبراطورية بحاجة إلى العالم الآخر صناعياً وليست بحاجة إليه زراعياً، وذلك بعكس ما عودتنا عليه نظريات التبعية على الستينات والسبعينات). أولوية السيطرة الإمبراطورية هي في المال، تصديراً واستيراداً؛ وهي في القوة العسكرية؛ وهي في النفط وتعبيراته الدينية، خاصة في المذهب الوهابي إضافة إلى نمط العيش الذي يؤدي بأصحابه في البلدان العربية النفطية، وغير النفطية (على سبيل المشاكلة) إلى تقليد أعمى للغرب فائق للحدود في تقليده الغرب وانسلاخه عن النمط المعيشي الاستهلاكي الذي يفترض أن يكون وهابياً متقشفاً. تكتشف الطبقات العليا والوسطى السعودية أن في الوهابية ملجأً دينياً يجب الركون إليه، وإيديولوجيا مناسبة في خدمة النظام وسادته الأميركيين خدمة تامة.
فالوهابية في السعودية والإمارات هي إيمان وهابي زائد استهلاكية هائلة لريع النفط الذي لا يتعدى فتات المائدة (على اعتبار أن الجزء الأكبر من عائدات النفط يذهب لخدمة الامبريالية. وهي تتناسب تماماً مع المصالح النفطية، فكل منهما يجعل من نمط الاستهلاك أمراً يباركه الدين والشركات؛ وتشرف عليه الحكومة.
المهم هو أن الإمبراطورية تشن حرباً عالمية أخرى ضد "الإرهاب"، هذه الحرب تهدف بالدرجة الأولى إلى تطويع بقية المسلمين وإلى تدمير العرب، وإعادة تشكيل ما تبقى منهم، لا لصالح النفط وحسب، بل لصالح إسرائيل أيضاً بعد أن كان كارهاً للاثنين معاً. لقد أصبح الغرب محباً لإسرائيل كارهاً للعرب، وعند الغرب يحل العداء للعرب مكان العداء للسامية. لا همّ إذا كان هناك رابط ما بين العرب واليهودية. إلا أن اليهودية وأجهزتها الثقافية والإعلامية انضمت إلى أنظمة التفكير في الغرب لتجعل الغرب محوراً للكره العنصري للعرب. لا عجب في ذلك، فالعرب يشكلون تهديداً للإسلام النفطي وللنفط ذاته، لذلك يتوجب أن يبقى العرب دون ما يؤهلهم للخروج من الوهابية ودون ما يؤهلهم للسيطرة على نفطهم، أو ما تبقى منه. يجب على العرب أن يبقوا في حالة استسلام، وأن لا تتغير حالتهم النفطية إلى ما يشكل خطراً على مصادر أساسية من مصادر الإستراتيجية العالمية. لا شك في أن سيطرة العرب على النفط سيحول النفط إلى أداة تخيف الغرب وتركّعه. لكن ذلك لن يحدث مرة أخرى دون استعادة العرب استقلالهم وقرارهم الحر... وهذا الأمر لن يحدث دون تغييرٍ عربي، دون انتصار الثورة العربية.
لأجل كل ذلك شن الغرب حرب الإرهاب العالمية؛ وهي حرب موجهة أساساً ضد العرب. في هذه الحرب يستخدمون العرب ضد أنفسهم، كما سبق واستخدم الإنجليز الهنود ضد أنفسهم؛ الأكثر من ذلك، دافع الهنود عن الإنجليز في حروب الإنجليز العالمية، وفي الهند. سيكون العراق والبلدان النفطية الأخرى في الجزيرة العربية بالنسبة للإمبراطورية الأميركية، ما كانت عليه الهند بالنسبة للإمبراطورية الأميركية. الفرق هو أن الإنجليز حكموا باسم حقوق الإنسان والليبرالية، بينما الأميركيون يحكمون باسم الشعارات ذاتها مع بعض التغييرات، وأن الإنجليز حافظوا على وحدة الهند، التي لم تنفصل عنها باكستان إلا مع الاستقلال. أما ركيزة السياسة الأميركية في البلدان العربية فهي التقسيم، تقسيم البلدان العربية، لأن ذلك هو الوضع الأفضل الذي يتماشى مع إسرائيل التي تقبض على الكونغرس وعلى أوعية التفكير، أي على عقل ووعي صناع القرار في الولايات المتحدة.
تؤدي الحرب العالمية على الإرهاب إلى اعتبار العرب صنفاً آخر من البشر. هم أصلاً يقومون بأعمال إرهابية، وثورتهم سوف تزيد الأعمال التي تُعتبر إرهابية. كل المطالب العربية التي لا تتفق مع بعض مطالب "مؤسسات المجتمع الدولي" تُصنّف إرهاباً. بناءً عليه يصنّف العرب إرهابيين، إلا الطبقات والحكام المتضامنين معهم.
هي حرب دفاعية من وجهة نظر العرب، وهي حرب هجومية من وجهة نظر الإمبراطورية. للإمبراطورية قواعد في عدة بلدان عربية، وهي قد نزلت بجيوشها لاحتلال وتدمير أقطار عربية؛ وهي تشن بالطائرات التي لا يقودها طيارون الحرب ضد ما يسمّى "القاعدة" في أقطار عربية أخرى؛ وبعض من كان في قيادة القاعدة يقاتلون إلى جانب الإمبراطورية في أشكال أخرى. أقطار عربية استُقبِلَتْ توتراتها بقلق إمبريالي. وأخرى لن يسمح للثورة فيها أن تتم قبل ضمان تدفق النفط والوهابية؛ وأقطار أخرى سحقت باسم الخطر الإيراني.
كل معالم الحرب الوطنية من أجل التحرر القومي، حروب التحرر الوطني التي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية، موجودة في أرجاء الوطن العربي. العرب يخوضون هذه الحرب ضد أنظمتهم وضد الإمبريالية التي تدعمها. إذن، حرب التحرر الوطني العربية تُخاض ضد العدو الخارجي، وهو الإمبراطورية وإسرائيل، وتخاض ضد الإسلام الوهابي الذي يدافع عن تبعية أنظمة النفط وعدائها للثورة العربية. هي حرب داخلية وخارجية في آن معاً. حروب التحرر الوطني لم تكن مضطرة إلا للدفاع ضد سيطرة الإمبراطورية التي كان أتباعها في الداخل ليسوا أكثر من عملاء محليين يرحلون معها.
هذه ثورة اجتماعية - ووطنية في وقت واحد، وهذا ما يجعلها مختلفة عن حروب التحرر الوطني.
لم تفهمها نخبنا الثقافية على أنها كذلك، فلم تستطع الاعتقاد أن هذه الثورة أكثر من انتفاضة، وأقل من ثورة تبلورت لديها القيادات والشعارات والبرامج السياسية. لكنها ثورة حقيقية، ولو لم تتفق معالمها مع مواصفات الثورات الواردة في الكتب، لذلك يتجه الكثيرون من المثقفين المتعلقين بالكتب إلى نفي الثورة من وعيهم بسبب عدم تقيّدها بما كُتب؛ وهذه النخب تُنكر الواقع لأنه لا يتفق مع ما في الكتاب.
لا تحدث الثورات بكبسة زر، هي عمليات اجتماعية تأخذ وقتاً طويلاً في مرحلة التحضير لها وفي مرحلة النضال ضد القوى المهيمنة، وهي بالإضافة إلى ذلك لا تنتج الأفكار التي تشكل الإيديولوجيا الخاصة بها إلا بعد اكتمال الثورة، لذلك فهي تستعصي على فهم الكثيرين من المثقفين والحكام العرب الذين تعوّدوا على الثورات العربية النخبوية (عسكرياً وثقافياً) أن تحدث تلقائياً وفجائية من دون أن تحمل تغييرات حقيقية في طبيعة المجتمع ومؤسساته والمؤسسات الحاكمة وأجهزتها. منذ زمن طويل تظهر أمام المثقفين العرب ثورة من نوع جديد، فهم لا يفقهون. وبما إنها حرب عالمية، فإنهم على غير استعداد لتقبل نتائجها، أعصابهم لا تحملهم على ذلك. ففي حرب عالمية بين قوى العالم المسيطرة (متحداً معها الاستبداد والنفط العربي) لا يجول في البال أن ذوي الأسمال البالية من الفقراء المهمشين قادرون على الانتصار.
الثورة والتحولات الكبرى:
تحدث الثورة العربية في عالم معولم، لكنه عالم يمر بأزمة مالية- اقتصادية خانقة، لم يشهد مثيلاً لها منذ ثمانين عاماً. في هذا العالم المعولم، تدير الإمبريالية العالم، بما فيها نظام الدول العربية. أثبتت الأحداث الأخيرة أن الجامعة العربية واحدة من مؤسسات "المجتمع الدولي" لا المجتمع العربي. إلى أي حد تستطيع، بعد الآن، أن تدير الإمبريالية عالمنا، عالم دولنا؟ وإلى أي حد تستطيع دولنا أن تدير (أو تضبط مجتمعاتها). ألا تعاني هذه الدول المحلية أزمة وجود، إذ أنها عندما تفقد القدرة على ضبط مجتمعاتها تلغى الحاجة إليها؛ لا تحتاجها الإمبريالية، فتحاول أن تستبدلها بغيرها؟
أريق كثير من الحبر في السنين الأخيرة في الكتابة عن العولمة. العولمة هي انتشار الرأسمال (مع الاستغلال) على مدى عالمي، مع قدرة المركز الإمبريالي على إدارة العالم عن طريق الاقتصاد والمال والسياسة ووسائل الحرب. يُدار عن طريق مؤسسات من مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، عن طريق الهيمنة والانتخابات المقررة نتائجها سلفاً، و"منظمات حقوق الإنسان" التي غالباً ما تستهدف البلدان التي تنتقيها الإمبريالية لإسقاطها، والمنظمات الإقليمية، مثل الجامعة العربية، لأخذ قرارات تستهدف أنظمة قررت الإمبريالية مهاجمتها. تستخدم وسائل الهيمنة والسيطرة والإقناع لأتباع المثل "الحسن"، وتستخدم وسائل القوة حين اللزوم، من القصف الجوي، إلى الاحتلال المباشر. الحرب على الإرهاب، حرب دولية معلنة؛ وكل شعب ذي مطلب لا يناسب مصالح الإمبريالية، يمكن أن يُصنّف إرهابياً. الجماعات والأفراد والدول يمكن أن تُصنّف إرهابية. تجمّد حساب وأرصدة لأفراد أو جماعات أو شركات أو رؤساء. تستدعي رؤساء للمحاكمة. المعيار في كل ذلك ليس الجرائم التي ارتكبت بل تلاؤم المستهدفين مع السياسة الإمبريالية ووسائلها أو عدم ملاءمتهم.
يختلف العرب في ما بينهم، حول ما إذا كانت هذه ثورة، وفيما إذا كانت الثورة هي حصيلة حركة الشعب (أو الشعوب) العربي، أو حصيلة مؤامرة أجنبية (إمبريالية). في نظر الكثيرين، أميركا هي كلية القوة (وهؤلاء لا يستطيعون الجواب على السؤال: إذا كانت أميركا كلية القوة، فكيف بقيت الأنظمة غير الديمقراطية؟). سواء كان الأمر هذا أم ذاك، يتوجب علينا الإقرار بأن الفشل الحاصل في المنطقة (أو الثورة العربية بما هي تعبير عن فشل الأنظمة) هو في نظر الشعب العربي، فشل الدولة العربية، الدولة القطرية، التي تدخل في عداد ما يسمى الأنظمة العربية التي تجتمع في إطار ما هو الجامعة العربية.
تعرف الشعوب العربية، أن الدولة العربية هي التي فشلت، وأن الدولة العربية فشلت لأنها لم تستطع أن تستوعب شعبها. ما هو شعب كل دولة عربية؟ هو الشعب العربي، ما من دولة عربية استطاعت أن تمثّل وتستوعب الشعب العربي؛ ما من دولة عربية إلا وكانت بحكم نشأتها وتكوينها في إطار وحماية الإمبريالية، كانت مضطرة إلى استبعاد معظم الشعوب العربية. ما من دولة عربية استطاعت أن تكون عربية. ما من دولة عربية إلا وكانت مضطرة إلى أن تكون غير عربية. ولأنها كانت غير عربية. فإنها استبعدت الأقليات الدينية والأثنية. كانت الدولة القطرية غير عربية، ليس فقط بمعنى التصور عن التسامح الذي عُرف به الفاتحون العرب قديماً، بل بمعنى أن العربي لم يُسمح له أن يكن مواطناً في دولته؛ لم يُسمح له أن يكون شريكاً في الكيان السياسي في مجتمعه؛ لم يُسمح له أن يكون عضواً في مجتمعه؛ وهذا أقسى أنواع عدم التسامح.
ليس في الأمر تخلفاً، أو أن المجتمع ما زال في درجة لا تؤهله الانتقال إلى مستوى أعلى من الحداثة والتقدم. بل الأمر هو أن المجتمع في ظل الإمبريالية تقدم على طريق التخلف. في ظل الحداثة، يسير التخلف والتقدم جنباً إلى جنب، في خطين متوازيين لا يلتقيان؛ لكنهما يسيران باتجاه واحد. التخلف والتقدم، وأحدهما مرآة الآخر. لكن الثورة أمر يقوم به المغلوبون والمتأخرون، بالأحرى، المجبرون على التخلف. الثورة عمل سياسي إرادي جماعي يعبر عن مسار الجماهير في مواجهة السلطة، من أي نوع كانت، عندما تصبح السلطة غير مقبولة. تصبح السلطة غير مقبولة عندما تبالغ في التعنّت. ليس هناك سلطة إلا وهي ظالمة. منحازة لصالح طبقة ضد أخرى. تعنّت السلطة هو ما يؤدي إلى الثورة، هو ما يجعل الجماهير تفلت من عقالها، وتتجاوز نفسها، بل تتجاوز موازين القوى. في الثورة، وفيها فقط، تبرهن الجماهير على أن قوة الشعب أقوى من أية قوى أخرى مهما بلغت من التقدم والتسلح والتعالي.
حتى إشعار آخر، سوف يكون صعباً على الدولة (الدول) العربية أن تقيّد حركة الجماهير. حتى إشعار آخر، سوف تكون حركة الجماهير قيداً على حركة السلطات. حتى إشعار آخر لن تكون سلطات الأقطار العربية قادرة على احتواء حركة الجماهير. لقد ولدت هذه الدول من اجل أن تكون مستوعبات، حاويات، مقيدات لحركة الناس. لا ننسى أن هذه الدول وُلدت في أروقة مؤتمر فرساي، بقرارات إمبريالية، واستمرت كذلك. ليس هناك ما يقنعنا إلا أن الدول العربية التي ما زالت سلطاتها سنداً للاستبداد والاستعباد والاستبعاد، هو الوجه الإقليمي، بالأحرى الوجه المحلي، للإمبريالية العالمية.
إن أزمة الدول العربية مع شعوبها، هي من وجهة نظر الحكومات ومن وجهة نظر الإمبريالية مجرّد أزمة؛ وهي من وجهة نظر الشعوب العربية ثورة. هذه الأزمة هي جزء من أزمة الإمبريالية، أزمة الرأسمالية العالمية. في لحظة الأزمة العالمية انبثقت الثورة العربية، فهل نستطيع الفصل بين الأمرين، أم أننا بحاجة إلى البرهان على السبب والنتيجة؟ حدثت الثورة العربية، وهي تحدث، وسوف تستمر في الحدوث، لأن النظام العالمي في أزمة، ولأن النظام العالمي في تجلياته المحلية (أنظمة الاستبداد) هو أيضاً في أزمة. أزمة النظام العالمي هي ثورة الشعوب العربية.
أخفق الكثيرون من المثقفين العرب، من جهة اليمين كما من جهة اليسار، في فهم الثورة العربية، لا لأنهم عاشوا طويلاً في عزلة عن شعوبهم، بل أيضاً لأنهم عاشوا طويلاً في عزلة عن العالم. الاستبداد يعزل الوعي، إلى أن تتفجر الثورة. الثورة يصنعها الناس؛ نعرف أن كل حاكم عربي سوف يصعب عليه النوم. ربما سوف يسرقون الثورة كما سرقوا الثورات الأخرى في العالم. لكن الثورة لا بد أن تحدث. وهي قد حدثت؛ علينا أن نفهم الأمر ونحلل الأسباب، ونصل إلى استنتاجات.
الاستنتاج الأساسي هو: أن الثورة عمل مهيب جليل، وإن لم يكن دائماً بالتناسق والجمال اللذين تتوخاهما أفئدة المصابين بمنطق "الواقع"!.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. رولكس من الذهب.. ساعة جمال عبد الناصر في مزاد
.. Socialism 2024 rally
.. الشرطة الألمانية تعتدي على متظاهرين مناصرين لغزة
.. مواطنون غاضبون يرشقون بالطين والحجارة ملك إسبانيا فيليب السا
.. زيادة ضريبية غير مسبوقة في موازنة حزب العمال تثير قلق البريط