الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم قُتلت كارولينا

خيري حمدان

2013 / 10 / 27
الادب والفن


يومَ قُتلتْ كارولينا
خيري حمدان
استغرب الكثيرون إصرار باهر مصطفى "أبو محمود" التوجّه إلى بولندا للاستثمار هناك وقد تجاوز عمره الثمانين عامًا. بدا الرجل في الآنة الأخيرة صامتًا شارد الفكر ومهمومًا، لم يكن وحيدًا بالمعنى الواسع لهذا المفهوم فمن حوله الكثير من الأحفاد والأبناء، زوجته قضت قبل عقد من الزمان ورفض الارتباط بأخرى وكرّس حياته لتنمية أعمال البناء، وتوسيع نفوذه في شمال البلاد وجنوبها. جمع باهر ثروة كبيرة خلال سنوات عمره الطويلة ولم يكن بحاجة لمزيد من المال أو الأملاك وبخاصة في أوروبا، الأمر الذي أدهش أقرباءه وأصدقاءه وزملاءه في قطاع البناء.

- بولندا يا أبا محمود وفي هذا العمر يا رجل. أخبرنا إذا كان الأمر يستحقّ مثل هذه المغامرة والسفر والغربة والبهدلة، دعنا نشاركك في هذه المبادرة. لم تبدُ على وجه الرجل سوى شبح ابتسامة وكان يهزّ رأسه مؤكّدًا بأنّ القرار شخصيّ للغاية. أمضى السيد باهر وقتًا طويلا بالتحرّي والتحقيق ومراسلة وكالة الاستثمارات البولندية حتّى تمكّن من شراء أصول مصنع قديم لا يستحقّ نصف المبلغ الذي قدّمه ليصبح مالكه الجديد، ورفض الرجل المسنّ كذلك تعريف المقرّبين به بتفاصيل هذه الصفقة غير المجدية على كافّة المقاييس. قلّة من المقرّبين كانوا يعرفون بتفاصيل العلاقة التاريخية التي تربطه بهذا البلد. والقلّة هذه اقتصرت على صديق واحد نجى من غواية الموت حتّى اللحظة.
- إذًا، قرّرت أخيرًا يا باهر أن تحسم هذا الأمر بعد مضيّ نصف قرن يا صاحبي. قال علي السلامات ثمّ أتبع ذلك برشفة كبيرة من كوب الشاي السيلاني المعطّر أمامه. افعلها قبل أن ينقضي العمر وإذا احتجت لأيّ دعم فأنا على أتمّ الاستعداد للقدوم معك إلى وارسو.

- لا، هذه قضية شخصية، أشكرك على أيّة حال. أحتاج للتوحّد مع ذاتي لأنهي قصّة قديمة لم تتركني وشأني طِوال هذا العمر. استعدت الكثير من مفردات البولندية وأعرف الطريق للمصنع وصحّتي تسمح لي بمغامرة صغيرة قادرة على وضع النقاط على الكثير من الجمل التائهة في كتاب الحياة. أضاف قائلا: أنا الآن صاحب مصنع قديم آيل للانهيار في بلد مثير للجدل في منطقة "جليازوفا فوليا"، بالقرب من المعرض ومسقط رأس الموسيقار فريدريك شوبن. منطقة نائية تبعد قرابة خمسون كيلومترًا عن العاصمة وارسو، معدمة ويصعب الوصول إليها بواسطة شركة النقل الوطنية زارزاد، وشبه مهجورة لا تصلح للاستثمار أو للزراعة، ولولا معرض شوبن لما أثارت اهتمام أحد ولا حتّى أبناء المنطقة ذاتها. طلب باهر من حارس المصنع بأن يصبح سائقه الخاص ومرافقته خلال تجواله في المرحلة الأولى من تواجده هناك. قال لصاحبه بأن الأمر لن يطول به في وارسو وسرعان ما يعود.

تعرّف باهر بصعوبة على أوساط مصنعه الجديد القديم الذي كان يستورد منه قطع غيار العديد من أجهزة الإنتاج الصناعية قبل قرابة نصف قرن. بقي لديه عدد قليل من العاملين والحارس، جميعهم بلا استثناء لم يتوقعوا خيرًا، وكانوا على ثقة من بيعه لكافّة الأجهزة والمنتجات القليلة المتواجدة في الساحة الأمامية للمصنع، ومغادرة البلاد بعد تحقيق بعض الأرباح. لكنّ باهر وخلافًا لما كانوا يتوقعون وقّع على سند صرف مالي كبير يكفي لدفع كافّة مستحقات الموظفين المجمّدة منذ أشهر، ثمّ طلب منهم الذهاب إلى بيوتهم في إجازة مدفوعة لمدّة أسبوع دون الحارس، الذي سيبقى برفقته طوال تواجده في بولندا.

-"جين دوبرو" قال باهر مصطفى للحارس بالبولندية وتعني "صباح الخير"، وطلب مرافقته لتناول بعض الطعام في المطعم القريب. تبادلا بعد ذلك أطراف الحديث بالقدر الذي يسمح به قاموس باهر البولندي المتواضع ومضى بعد ذلك كلّ في طريقه.

-------

- كاري، أصبحت الأوضاع خطرة، الحرب كما ترين أخذت بعدًا عالميًا والطريق إلى الشرق مدمّرًا ومقطوعًا. نظر باهر إلي كارولينا تشيشكوفسكا بحنان بالغ، كانت تحبّ أن يناديها باسم الدلال "كاري"، قبّلته بعنف وكانت تخشى خسارته في خضمّ المعارك. تعرّف باهر إليها مصادفة بالقرب من معهد اللغات الشرقية. كانت كارينا تدرس آداب اللغة العربية وقطعت شوطًا كبيرًا في دراستها قبل اندلاع الحرب الكونية. سمعته يتحدّث العربية مع أحد المعارف في وسط المدينة، انتظرته لبعض الوقت ثمّ استأذنته للحديث والسؤال عن بعض المفردات المختلفة التي تعذّر عليها الوصول إلى معانيها الدقيقة في القواميس المتخصّصة. دعته بعد ذلك لتناول الشاي والفطائر في أحد المقاهي القريبة. هكذا توطّدت بينهما علاقة حميمة ثمّ فاجأتهما الحرب الكبرى، وغالبًا ما كانا يلتقيان قبل مغيب الشمس بقليل بعد أن فقد باهر الأمل بالعودة إلى الوطن. كانا يجدان كذلك متّسعًا من الوقت للضحك بالرغم من انهمار القنابل والتدمير المحكم لمعظم أنحاء بولندا وخاصّة فوق العاصمة وارسو. في إحدى صباحات شهر مارس من العام 1940 بدأت حملة اعتقالات روسية واسعة، وكان على كاري الاختفاء عن الأنظار خوفًا من التنكيل والموت بعد أن اندلعت إشاعات عديدة تفيد قيام أعضاء المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية السوفييتية بحملة إعدامات كبيرة، طالت الكثير من نخبة الشعب البولندي وبخاصة الضباط والمثقين وحتى الجنرالات وعدد من اللاجئين. عدا عن ذلك كان من الصعب الاختباء من القنابل والصواريخ العمياء التي لا تفرّق بين الأجناس وتحصد كلّ لحظة مئات الأرواح.

هربا ليس بعيدًا عن وارسو وسرعان ما اشتدّت وطأة القتال ثانية، في الأثناء كانت كارولينا قلقة جدًا على أبيها البروفيسور الجامعي الذي اختفى عن الأنظار. سمعت بأنّه يتواجد في أحد المعتقلات ليس بعيدًا عن الحدود الروسية، وأصرّت كارولينا على معرفة مصير أبيها وطلبت من باهر مرافقتها إلى مدينة غدانسك بالقرب من مراكز المعتقلات الجماعية، وكانت تلك المدينة وكامل شمال بولندا خاضعًا لسيطرة القوات الروسية. لكنّ باهر كان يدرك جيدًا بأنّ رغبتها تعدّ ضربًا من المستحيل، غدانسك تقع في شمال البلاد بالقرب من بحر الأدرياتيك ويصعب قطع كلّ هذه المسافة في ظلّ الحرب المشتعلة، عدا عن مئات الحواجز العسكرية والجوع الشديد الذي كان يخيّم على البلاد.

- نحن بالكاد نجد كسرة خبز ومياه نظيفة يا كاري، كيف تريدين الذهاب إلى آخر الدنيا، القطارات شبه متوقّفة ومن الصعب العثور على وسيلة نقل أخرى سوى العربات العسكرية والدبابات، هذا مستحيل. لن نتمكن من قطع خمسين كيلو متر في اليوم الواحد. قال باهر وقد بدت علامات الضيق على وجهه.
- وأبي يا باخر؟ "يصعب عليها لفظ حرف الهاء، وأحيانًا كانت تناديه باختصار "باخي".
- إذا كُتب له ولرفاقه النجاة فلا بدّ أنّه سيعود، توكّلي على الله يا عزيزتي. الحرب مطحنة لا ترحم ولكن هناك دائمًا مكانٌ للرحمة والأمل. سالت دموعٌ ساخنة على وجنتيها وأراحت برأسها على كتفه ثمّ سرعان ما غفت من شدّة التعب والقلق.

-------

- بروفيسور تشيشكوف، أنت تحاضر في جامعة وارسو في قسم الفلسفة، ما رأيك بموقف بولندا من الحرب الكونية؟
- أعتقد إنّ بلادي وقعت ضحية اتفاقيات دولية لا تصبّ في مصلحتها، وبولندا اليوم غير قادرة على تحديد مصيرها بنفسها. بولندا وقعت كذلك ضحية لموقعها الجغرافي، أجاب البروفيسور بهدوء.
- لكنّك لم تُجب على السؤال يا بروفيسور. لم يجرؤ تشيشكوف على النظر في عينيّ ميخائيل عضو المفوضية الشعبية السوفييتية، ولم يطل بهم الأمر طويلا بعد ذلك. سجّل ميخائيل البيانات المطلوبة، الاسم الأول واسم العائلة ومكان وتاريخ الولادة، ثمّ كتب ملاحظة بين قوسين "كاتين" قبل أن يختم الوثيقة ويقدّمها للعريف المنتظر عند مدخل الثكنة العسكرية. بعد ساعات من الانتظار، قُدّم الحساء والخبز الجاف لبضعة آلاف من المعتقلين البولنديين، قبل أن تبدأ الحافلات بنقلهم إلى غابة كاتين. هناك، أخذت القوات السوفييتة الخاصة بتفريغ الحافلات الواحدة تلو الأخرى. اقتادوا قرابة خمسين شخصًا برفقة البروفيسور شيشكوف إلى مركز عسكري صغير. لاحظ البروفيسور بأنّ جميع الذين دخلوا إلى المركز لم يخرجوا، في الوقت ذاته استمرّت العربات العسكرية تهدر معلنة مغادرة المكان من الجهة الخلفية إلى قلب الغابة.

- شيشكوف بافلوفسكي، بروفيسور محاضر في جامعة وارسو. نظر الجنرال السوفييتي إلى البروفيسور مستفسرًا، هزّ البروفيسور رأسه موافقًا. ختم الجنرال الوثيقة وأشار للنقيب الواقف من خلفه، الذي سارع باقتياد الخبير في علوم الفلسفة إلى حجرة صغيرة في الخلف، وما أن دلف إلى داخلها حتّى أدرك ما ينتظره، كانت الدماء متجمعة في زوايا الغرفة العفنة ورائحة الموت تملأ المكان، عاجله النقيب برصاصة في مؤخرة الرأس، كاد البروفيسور أن يقع على الأرض، لكن جنديًا آخر يقف قبالته تلقّى الجثة بين يديه وكانت الدماء تشخر متدفقة من الجرح العميق بعد أن قطعت الرصاصة النخاع الشوكي والشرايين المغذّية للدماغ. مرّت لحظات قصيرة ثمّ تخلّص الرجلان من الجثة من خلال كوّة صغيرة في أسفل الغرفة مزوّدة بشريط مائل متحرّك لإسقاط الجثة إلى الخارج، ليقوم آخرون بنقل الجثث المتراكمة في حافلات قديمة إلى القبور الجماعية الجاهزة لطمرها في غابة كاتين.

-------

- كيف عرفتِ بأنّه قد قُتل؟ سألها محاولا تهدئتها وإبعاد طيف الخوف وحمّى الفزع عن روحها، لكنّ سؤاله لم يجد جوابًا. قضيا الليالي التالية ليس بعيدًا عن بيت شوبن، وكانا يمضيان الصباحات والمساءات في أحد المنازل الريفية المهجورة. تمكّن من إقناعها بعبثية مغادرة المدينة لكنّه فشل بمسح آثار الحزن عن تضاريس وجهها. ذات صباح فقد باهر أثرها، كانت قد غادرت المنزل إلى جهة ما في محيط تلك المنطقة، وكان يعرف بأنّه من المستحيل أن تنجو من المخاطر التي ترصد كلّ حركة في الأنحاء. هرع يبحث عنها بحذر، سار بمحاذاة الجدران والأشجار لإبعاد الشبهات عنه خاصّة وأنّه يحمل وثائقَ أجنبية، كيف يمكن أن يقنع القوات الروسية بحسن نواياه، وفي أفضل الأحوال كان سيغادر إلى الجبهة الشمالية ليقاتل ضمن القوات السوفييتية في معارك لا ناقة له فيها ولا جمل، كي ينجو من الإعدام في إحدى ضواحي وارسو في تلك اللحظة.

طلب أبو محمود من عامل الجرّافة بالحفر في ساحة المصنع، يمكنه بالطبع أن يفعل ما يحلو له ما دام المصنع قد أصبح ملكه. هنا في هذه الساحة وقبل ما يزيد على نصف قرن شاهدها للمرّة الأخيرة، كان الجنود يحيطون بها فرحين بغنيمتهم الشابّة، إنّها الحرب وكلّ شيء مشروع. خلعوا ملابسها واغتصبوها ثمّ صوبوا فوّهات بنادقهم إلى جسدها البضّ، تكفي رصاصة واحدة لقتلها لكنّهم أفرغوا عشرات الرصاصات في جسدها ليدفنوها بعد ذلك في الساحة. مضت الجرّافة تحفر وتحفر دون العثور على شيء. مال إليه حارس المصنع وسائقه الخاص في نهاية يوم العمل وقال، لقد حفرنا نصف بولندا بحثًا عن القتلى يا سيدي. لن تجد سوى ذكرياتك وهواجسك القديمة في هذا المكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير