الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتفاضة (نسخة منقحة)

رافع الصفار

2013 / 10 / 31
الادب والفن


كان ذلك في أحد أيام آذار الدافئة. خرجتُ إلى باب المشهد أبحث عن بطاريات لجهاز الراديو الصغير، وسيلة اإتصالنا الوحيدة بالعالم الخارجي، وخافض حرارة لإبنتي التي ظلت تتلظى في لهيب الحمى طوال ساعات الليل الطويل. أفرغت جيوبي من أجل الإثنين وبضعة برتقالات ذابلة شددت زوجتي عليها كي تصنع منها عصيرا للطفلة المريضة.
ليلة أمس لم أنم أيضا، في الواقع لم أعد أنام ليلا منذ بدأت حرب الطائرات اللعينة، فأنتظرها حتى تأتي عند الفجر وتنهي قصفها الذي قد يكون بعيدا فأصغي لأصوات الإنفجارات المتتالية محاولا تحديد بعدها وموقعها، وقد يكون قريبا فتتعلق أنفاسي بهزات البيت وجدرانه والشبابيك والزجاج، فتتشنج عضلات رقبتي، وأغمض عيني في إنتظار أن تسقط القذيفة التالية فوق سقف المنزل، حتى يطبق السكون على الأشياء ثانية، فأرتخي وأنا أزفر فزعي تدريجيا لأدخل في اللحظات التالية في إغفاءة قلقة متقطعة.
صرت لا أنام في الليل حتى بعد أن توقف القصف وأعلنت الهدنة وإنتهت الحرب. ما عدت أعرف طريقي إلى عتمة الهدوء، إلا بعد أن تنقضي ساعات الليل الطويل ويأتي الفجر فأغفو قليلا لأصحو بعدها مفزوعا على صوت ما في الخارج.
حالما تحل الظلمة أشعل الشموع وأقوم بتوزيعها في أرجاء البيت، واحدة في الحمام وأخرى في المطبخ وثالثة في الكيليدور، ثم أضيء الفانوس وأضعه على طاولة في ركن من غرفة الجلوس، حيث أباشر بعدها بإعداد الخبز للعشاء. أضع طاسة البناء المعدنية، والتي إشتريتها لهذا الغرض، بالمقلوب على صوبة علاء الدين وأتركها حتى تسخن تماما. وتجلب إبنتي ذات السنوات الست العجين من المطبخ والمعد سلفا من طحين بطاقة التموين الذي يحتوي على كل ما يخطر في البال من الغرائب والعجائب إلا الطحين كما يقول البعض متهكما. وأقرفص على ركبتي قبالة الصوبة وتجلس إبنتي قبالتي تراقبني بإعجاب، وأبدأ بفتح قطع العجين، التي أمسك بها بين أصابعي، على هيئة أقراص دائما ما تأتي مشوهة الأطراف، رغم الجهد الذي أبذله والبراعة التي أبديها كي تكون دائرية دون جدوى.
ليلة أمس سكت الراديو فجأة فإنقطع تواصلي بالعالم، ولم أسمع شيئا من أخبار الدنيا. جربت أن أعيد الحياة إلى البطاريات المنهكة المبعَّجة بكل الوسائل والأساليب البدائية الممكنة والمبتكرة حديثا وقديما لكن جهاز الراديو رفض الكلام والتزم الصمت بإصرار وعناد غريبين. لم يبق أمامي من بدائل في إستهلاك ساعات الليل سوى القراءة والإسترسال في مسلسل الأحلام.
لكني وأثناء إعدادي للخبز إنتبهت إلى أن طفلتي لم تكن على ما يرام. كانت محمرة الوجه نزقة وتتأوه. سألتها ماذا بها، فأجابتني وهي تسعل:
- راسي يوجعني.
وعندما وضعت كفي على جبينها وجدتها تغلي كالفرن. صرخت بالأم وقد طار صوابي:
_ هل لدينا خافض حرارة؟
خرجتْ من المطبخ، وعند بابه أجابتني قائلة:
- طلبت منك أكثر من مرة أن تشتري خافض حرارة، لكنك لم تكن تأبه.
لم أرد عليها، لأنني أعرف مسبقا ماذا ستكون النتيجة، كما أن الوضع لم يكن يحتمل أية مشاحنات أو مصادمات. فكلانا متعب تماما، بعد ما يقرب من شهرين من الحصار داخل بوتقة الفزع والرعب والجنون، فالتفت إلى طفلتي كي أتدبر أمرها. وبدلا من التواصل مع صفحات (العامل البشري)*، فتحت صفحة الألم في جسد إبنتي كي أمتص وجعها عبر كمادات الماء البارد. ولم التفت لأحد غيرها. بقيت مكرَّسا لها عقلا وقلبا وجسداً طوال ساعات الليل حتى إنبلاج الفجر. تسربت مني قواي وهدني الإعياء وأنا أواصل دون كلل تغيير الكمادات، فوضعت رأسي إلى جانب رأسها المتوجع على المخدة الصغيرة وإستسلمت صاغرا مقهورا للنوم.
حالما وضعت البرتقالات الذابلة والبطاريات وخافض الحرارة في كيس واحد تهيأت للعودة سريعا إلى البيت من أجل أن تأخذ إبنتي الدواء، والتي تركتها معصوبة الرأس تنظر حولها بعينين كسيرتين، لعلها تستعيد سريعا شيئا من توقدها وحيويتها.
كنت واقفا تحت جدارية القائد التي تتصدر مدخل حديقة الجبل أتلفت حولي أبحث عن وسيلة نقل يمكن أن تأخذني إلى البيت عندما توقف زيل عسكري قريبا مني وهبط منه جندي. تحرك الزيل مبتعدا، وظل الجندي في موضعه يتلفت حوله. ملابسه العسكرية بقايا أسمال ممزقة. حاسر الرأس، منفوش الشعر، طويل اللحية، وجهه مسود ومبقع. وكان حافيا، وقدماه متورمتان. وعندما تقدم خطوتين على الرصيف نحوي، مشى على جانبي القدمين كالأفحج.
كنا متقابلين، وخلفي ينتصب قائدنا المنصور بكل جبروته ملوحا للجمع الذي راح يتحلق حولنا. كنت أنظر إليه مذهولا، والفجيعة تتكور لتمسك بقلبي وتعتصره. ولم يكن ينظر إلى شيء محدد. كان ضائعا. دنا منه أحد الشباب يريد أن يسنده، فدفعه بذراعه، ثم صاح بصوت أشبه بالحشرجة:
- لم أسقط بعد كي تسندني. ألا ترى بأنني ما أزال واقفا.
صرخت امرأة تتلفع بالسواد، وكان صراخها بكاء:
- لن تسقط، لا والله لن تسقط. إبن الملحة لن يسقط.
رفع الجندي رأسه فالتقت عيناه الكليلتين بوجه قائده المنصور. عندها تشنجت قسمات وجهه وصرخ منتفضا وهو ينبش الهواء بذراعيه:
- أسقطوه، أسقطوه. لا تدعوه هناك. أسقطوا المجرم. أسقطوا المجرم.
سرت همهمات مكتومة بين الرؤوس التي اكتظت حولنا، وما عدت أرى سوى وجوها تغلي وتزفر غضبا. عاد الجندي ليصرخ ثانية وهو يقذف ذراعه بوجه قائده:
- أسقطوه. لا تتركوه واقفا، أسقطوه قبل يأتي عليكم جميعا.
عندها صاح أحدهم بصوت مرتعش متوجس كأنه يزيح جبلا عن صدره:
- يسقط.....
وجاء الصدى أصواتا راحت تخرج من الأفواه خائفة خافتة.
- يسقط، يسقط، يسقط...
أخذ الصوت يتناغم ويعلو. وأطلقت المرأة المتلفعة بالسواد زغرودة، فتعالى الصراخ.
- يسقط المجرم، يسقط الطاغية.
عندها إنطلقت الزغاريد من كل مكان كأنها أسراب حمام تخفق فوق رؤوس الرجال، وارتفعت الأذرع تضرب في الهواء، وتحول الحشد إلى بحر يموج.
- يسقط المجرم، يسقط الطاغية...
وظهرت في الأفق بيارق حمراء وسوداء وخضراء تخفق في الفضاء.
- الله اكبر، الله أكبر، الموت للطاغية...
وانطلق الرصاص يلعلع في الهواء...و...ليرسم ثقوبا سوداء في وجه القائد المنصور. صرتُ جزءا من البحر المتلاطم كأني موجة فيه تعلو وتهبط مع الآخرين، فإندفعت أطلق صوتي ورأسي وذراعيَّ وكيس الدواء عاليا في الفضاء....

أبو ظبي 22 / 03 / 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال