الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول -الجماهير-..

شاهين السّافي

2013 / 10 / 31
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تُنْسَبُ إلى "نايف حواتمه"، الأمين العامّ -ربّما مدى الحياة- للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، طرائف كثيرة في مسيرته السّياسيّة، أستحضر منها الآن حادثة طريفة تتمثّل في كونه أعلن ذات يوم على رؤوس الأشهاد موعدا لثورة الفلاّحين الظافرة.

ظلّ "نايف حواتمه" ورفاقه ينتظرون اليوم الموعود. إلاّ أنه كان يوما عاديّا كسائر الأيّام لا ثورة فيه ولا هم يحزنون. وباعتبار أن شخصيّة "حواتمه" هي شخصيّة طريفة، بإمكاني الجزم أنّه مازال إلى هذه اللّحظة، جالسا في مكتبه المزدان بصور كلّ الثوريّين، ينتظر هبّة الجماهير. وهو يتقن جيّدا فنّ الإنتظار وله إبداعات في هذا الفنّ سيذكرها التّاريخ في ركن ما على الهامش لا محالة.

أتذكّر هذه الحادثة الطّريفة -وبغضّ النّظر عن مدى صحّتها- أتذكّرها لأنّي سئمت البكائيّات التي صار الإستماع إليها خبزا يوميّا، والمؤسف أنّها باتت تصدر عن أشخاص هم من الرّاسخين في النّضال والذين يفترض أن يكونوا محصّنين جيّدا أمام مثل هذه البكائيّات العجفاء التي تنتشر في الجسد الكفاحيّ كالسّرطان فَتَشُلُّهُ رويدا رويدا عن الحركة إلى أن ينتهي به المطاف في هوّة سحيقة من اللاّمبالاة والعدميّة والإستسلام والقبول بالأمر الواقع.

ترتكز هذه البكائيّات على فكرة جرداء خالية من كل روح كفاحيّة وهي أن "الجماهير" هي أصل الدّاء لأنها "جاهلة" و"غير قادرة على التفاعل مع النّخب التي تحمل لواء الدفاع عن مطالبها"، وشيئا فشيئا سيتحوّل الأمر إلى القول "إن الجماهير لن تفهم أبدا ولن تعرف مطلقا أين مصلحتها ومع من تخوض صراعها وضد من"، لِيَصِلَ الأمر -وهذا مثبت في تاريخ الحركات السياسية- إلى الحسم في شأنها والقول "إن الجماهير ليست جديرة بنضالنا وبانحيازنا إليها".

لِنَعُدْ إلى الحادثة التي انطلقنا منها، ولْنَطْرَحْ الأسئلة التّالية:
هل يعقل أن يُعْلَنَ على رؤوس الأشهاد موعد للثورة؟
دعنا من هذه الجزئية، فلها حديث يطول.
هل من الطبيعيّ أن يُعْلَنَ عن تحرّك نضاليّ ما دون سابق إعداد وبشكل محكم؟
وهل من السّليم أن يُقَدَّمَ للــ"جماهير" موعد ما لتحرّك نضالي ما بهذه الطريقة الفوقيّة؟
وهل "الجماهير" قطيع نسوقه لأنّنا، بكلّ بساطة، نخب تعرف الشّاردة والواردة؟

ليست "الجماهير" هي الجاهلة، وإنّ الجاهل هو من يعتقد ذلك، وقد قدّمت جماهير شعبنا دروسا في الكفاح الوطني والطّبقي على مرّ تاريخها، وهي دروس لا يمكن أن يُفِيدَ منها من تَسَرْطَنَتْ فيه خُمَيْرَةُ الوهن. صحيح أنّها لا تمتلك -غالبا- وعيا مكتملا يؤهّلها لفهم كلّ تفاصيل ما يدور حولها، ولكنّها تُجَرِّبُ وتَتَعَلّمُ وتُطوّر وعيها وإن بنسق بطيء. وتبقى المشكلة -كلّ المشكلة- في نخبٍ تمتلك المعرفة وبأدقّ تفاصيلها أحيانا، وتزعم أنّها ثوريّة الوجهة وكفاحيّة المهجة، ولكنّها لا توظّف معرفتها توظيفا راقيا يرتقي بوعي الجماهير، وإنّما تتمترسُ خلف مسلكيّة إنعزاليّة، فلا نظفر من ثوريّتها وكفاحيّتها غير الغثاء الأحوى. يقول "ماو تسي تونغ": "الجماهير هم الأبطال الحقيقيون، أما نحن فنبدو في كثير من الحالات سذّجا نثير الضّحك.. بدون هذا الفهم يستحيل علينا تحصيل أبسط المعارف"

لن تكون معلّما للجماهير مادمت تنظر إليها من عليائك، ولن تستطيع التأثير فيها ولو قيد أنملة مادمت غير ملتحم بها ولا تخوض تجربة النّضال معها وبشكل يوميّ وبلا هوادة ضدّ أعدائها وطنيّا وطبقيّا، وبصورة أدقّ وأوضح، لن تكون معلّما لها إن لم تكنْ تلميذا نجيبا في مدرستها العامرة بالتّجارب والمعارف، ولن تكون معلّما لها كذلك إن أنت لم تُوَفَّقْ في جعلها تحسّ أنّها فعلا معلّمك الأوّل وأنّك تلميذها الذي لا يتردّد في النّهل من معينها الذى لا ينضب.

لا يمكن أن يكون طريق الكفاح مفروشا بالورود، إنّه طريق صعب وشائك وطويل الأمد، ينطلق من "الجماهير" انحيازا وتثويرا، وينتهي إلى "الجماهير" تحقيقا لحلمها في التحرّر والإنعتاق من كلّ نير. قد يحمل البعض أكثر الأفكار ثوريّة وأكثر النّظريات علميّة ولكنّ ذلك لا يكفي لتلتفّ "الجماهير" حولهم، بل إنّ ذلك يصبح من قبيل الفكاهة إن لم يتخلّصوا من مسلكيّتهم الإنعزاليّة. ثمّ إنّهم إن فشلوا في اختراق "الجماهير" وتنزيل ما يحملونه من فكر منزلة الممارسة العمليّة، فإنّ العيب يكمن في ذواتهم وليس في "الجماهير" ولا في الفكر الثوريّ، وإنّ كل محاولة لتقزيم "الجماهير" والنّيل من هيبتها ومكانتها في الفكر الثوريّ هو في الآن ذاته نيل من روعة هذا الفكر وانحراف صريح لا جدال فيه عن طريقه.

إنّ الجماهير هي أساس الفعل ومنطلقه، وإنّ كسب ثقتها هو من أوكد المهامّ التي يطرحها الثوريّ على نفسه كلّ لحظة، وإنْ هو لم يُوَفَّقْ في نيلها بسرعة فَعَلَيْهِ ألاّ ييأس مطلقا، فربّما أخطأ الطّريق في الولوج إلى وجدانها وما عليه إلاّ أن يعيد الكرّة تلو الكرّة ممتشقا سلاح الصّبر والأناة والإيمان العميق بجدوى ما يفعله إن لم يكن عاجلا فآجلا. وإنه إنْ تَوَفَّقَ في كسب ثقتها، حينها فقط يمكنه أن ينطلق في المعركة ضدّ أعداء الجماهير، مع الجماهير، ملتحفا راية النّصر القادم لا محالة.

إن الثوري شعلة متّقدة من الحماس، لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتّى يصل إلى مبتغاه: مبتغى الجماهير، أو يهلك دونه وهو حامل راية الكفاح وهو يحاول. وإنّ الإستسلام لهذه البكائيّات الممجوجة لن يجدي نفعا، بل إنّه بداية النّهاية لمسيرة كفاح، وخنجر يُشْهَرُ إستعادا لطعن الثّورة طعنة الغدر الموجعة، وإنّ الأجدى للثوريّ والأجدر به أن يضع فكره وممارسته على محكّ النّقد بعد كلّ إخفاق، وأن يطرح على نفسه سؤال "ما العمل؟" لتلافي ذلك مستقبلا، بدلا عن الإستسلام لهكذا بكائيّات.

إن السّعي إلى اختراق "الجماهير" وكسب ثقتها وبناء تجربة كفاحيّة معها ومن خلالها، هو الطّريق القويم وإن كان الأعسر، وإنّه الطّريق الوحيد الذي يجنّب الثوريّ مغبّة الوقوع في مطبّات "حواتمة" و"البكائيّات الهائمة" التي تضرّ ولا تنفع. يقول "ماو تسي تونغ": "الحصن الحديديّ الحقيقيّ هم الجماهير الذين يؤيّدون الثّورة بصدق وإخلاص، حصن لا يمكن لأيّة قوة أن تحطّمه على الإطلاق."

وإنّه بهذه الطّريقة لن يُعْلِنَ عن موعدِ ثورة، في عزف منفرد، ثم يبقى منتظرا اندلاعها، وإنّما سَيُفَاجِئ أعداء الثّورة بموعدها وباندلاعها الدّافق المنهمر كالشّلاّل من كلّ حدب وصوب، تصنعها جماهير هادرةٌ منتفضةٌ، كما رجل واحد، واعيةٌ تمام الوعي أنّها "لنْ تَخْسر غير أغلالها".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حركات يسارية وطلابية ألمانية تنظم مسيرة في برلين ضد حرب إسرا


.. الحضارة والبربرية - د. موفق محادين.




.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو


.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza




.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع