الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في انتظار البرابرة... في وداع البرابرة

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في الأسطورة يقول الشاعر الأثير كافافي: ارتدى الناس أجمل الحلل، تجملوا بالزهور، نصبوا الأقواس احتفاء بمقدم البرابرة، لكن رسولاً من الحدود أبلغ المدن الزاهية، المزدانة بالأقواس، ان البرابرة لن يأتوا. فعاد الكل خائباً بغصة في الحلق: لمن صنعنا ذلك كله إذاً!
في الواقع ارتدى الناس، في جل مدن العراق، أجمل الحلل، تجملوا بالزهور، وخرجوا في تحدٍ جمعي لا مثيل له في وداع البرابرة ذاتهم. في الليل أصلاً، قبل بدء الاقتراع بأثنتي عشرة ساعة، بدأ الاختبار. البرابرة استلوا بنادقهم وراحوا، حيثما وجدوا، يطلقون النار عشوائياً حتى انبلاج الفجر. قبل ذلك رشقوا سكينة المنازل الآمنة بآلاف المنشورات. لا انتظار، ولا خنوع، ولا نكوص أو تقهقر، غاب عنهم لون السماء لفرط ما انحنت الرقاب. فاجأ العراقيون أنفسهم، مثلما فاجأوا العالم. كان خوفهم من عودة التوتاليتارية أكبر بكثير من خشيتهم من مفرقعات الانتحاريين. بعد لأي، تدبر هؤلاء ارسال ثلاثة عشر انتحارياً، أحدهم طفل معوق (منغولي)، أحاطوه بزنّار من المتفجرات، ومزقوا أشلاءه البريئة قرب مركز اقتراع. أطلقوا أيضاً، بعد لأي، خمس قنابل هاون. وفي موضع أو موضعين سددوا النيران على مواقع انتخابية.
الشرطة رجتْ الناخبين التريث ساعتين لاجلاء جثة الانتحاري وجثث ضحاياه، فأصر هؤلاء على البقاء.
منذ عامين والريبة تعصف بي ازاء مآل العراق، أما نهار الأحد، الثلاثين من كانون الثاني (يناير) من العام الخامس من الألفية الثالثة، فقد عبر العراق خط التحريم الأول.
صوّت العراقيون، أولاً، ضد سلفية العصر الحجري التي ترى في حرية الاختيار صنماً من أصنام العصر الحديث. ذلك هو شعار غراب الصحراء بن لادن، وبومته الصغيرة، الزرقاوي.
صوّت العراقيون أيضاً ضد الدولة التوتاليتارية أياً كان لبوسها، معلنين عن تنوعهم، وحقهم في الخلاف والاختلاف مبدأً سامياً.
صوّت العراقيون أيضاً لحقهم في استعادة سيادة العراق بالتماس وسائل سلمية، حضارية، خلافاً لدعاة عودة البعث المخلوع الذين يسترون عريهم بورقة توت «المقاومة». فقد كان واضحاً للعراقيين أن مقاومة الاحتلال سلماً، وبالوسائل السياسية، ممكنة، بل مطلوبة. وكلما أمعن أولئك في العنف، زاد تمسك العراقيين بوسائل السلم السياسي، مدركين بحكمة بسيطة أن الكهرباء، ومضخات الوقود، ثروة وطنية لا رموز لسيطرة أجنبية.
ولعل أهم ما صوّت له العراقيون القطيعة مع الفكر القومي، الذي يصر آخر ممثليه على النطق باسم أمة من دون تفويض، وعلى ازدراء الجموع على أنها «كم»، وعلى أجندة العنف ولا شيء سوى العنف.
التصويت العراقي، بهذا الاصرار، تحت حد السيف، يقارب فعلاً عجائبياً. فهو نقد عملي للثقافة السياسية في العالم العربي التي انشغلت عن موضوعة الديموقراطية، وذهلت عن البنية المؤسساتية للدولة ونواظم عملها، بمواضيع أخرى، لاهيةً، مثلاً، بالوحدة القومية، والتحرر والتنمية، عن دولة القانون، ودولة المؤسسات.
على مدى نصف القرن المنصرم، تحول الفكر القومي إلى التشبع بالفاشية التي تضع الدولة فوق الأمة، والنخبة فوق الجمع، والحزب الواحد فوق الكل، مطبقاً قولة موسوليني الشهيرة: لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة، كل شيء داخل الدولة. هذا الاطلاق الذي نشأ في منعطف أوروبي معروف (الحرب العالمية الأولى ونجاح ثورة البلاشفة) تحول إلى اقنوم مقدس تعيد السلفية انتاجه على مستوى متدن من الفكر، ومستوى أعلى من القسوة.
لعل التصويت العراقي إذا ما ترسخ في أُطر ديموقراطية، وخرج من الاحتلال، المؤقت في كل حال، سيضع نهاية لفكرة الدولة التوتاليتارية، والدولة الأحادية اثنياً وايديولوجياً. لقد قُدمت لنا هذه الدولة على أنها الترياق الشافي لكل العلل، من تحرير فلسطين، إلى توحيد العرب في أمة - دولة، إلى اطلاق التنمية، إلى بلوغ تخوم التقدم الصناعي. ومن نافل القول إنها، بالمنطق التوتاليتاري عينه، انتهت إلى احياء كل نقائض ادعاءاتها. الدولة القطرية، التي يزدريها هذا الفكر، صارت بؤرة الولاء. وأكثر من ذلك، أن سياسات الصهر الاثني، والواحدية السياسية مزقتها أحياناً. وانحدرت الأمة إلى القبيلة والأسرة، وهبطت كل مؤشرات التنمية بإطراد جلي. وما يزال الشعب الفلسطيني يصارع لانتزاع حقه في تحقيق ذاته الوطنية، بعيداً من قعقعة الجيوش العربية التي حولت شعوب المنطقة إلى قطعان باسم حق فلسطين، لكأن عبودية العرب شرط للتحرير!
ثمة يقظة جديدة، بدأت، من بين ما بدأت به، في إعادة الاعتبار للدولة القطرية بوصفها عامل توحيد لخليط سديمي من طوائف وقبائل، وملل ونحل، مما ينتمي إلى عالم ما قبل الدولة القومية. لعل أبرز المفكرين في هذا الشأن البحراني محمد جابر الأنصاري. وثمة يقظة أخرى عملية، ترى في الديموقراطية ضرورة لا ترفاً. ما يزال جيل الستينات القومي الذي تخلى عن فكرة الحريات الديموقراطية، واندمج بالعسكر وروج لانقلاباتهم، يقاوم هذا الانعطاف، قابعاً خلف كليشيهات فارغة أبرزها هذا الشعار الكاريكاتيري: لا انتخابات تحت حراب الاحتلال.
هذا الشعار لا يطبق، بالطبع، على الانتخابات الفلسطينية، التي تجري في ظل الاحتلال، بل على العراق وحده.
ينسى اللاهجون بهذا الإنكار ان المانيا وايطاليا والنمسا واليابان خاضت انتخاباتها في ظل الاحتلال في القرن المنصرم. وينسى هؤلاء أيضاً أن الإدارة الأميركية كانت تتطلع لإدارة العراق بحكم مباشر مدة عامين أو ثلاثة أعوام في أقل تقدير. وبوسع الريّابين العودة إلى محاضر الكونغرس (19 شباط/ فبراير 2003) لتدقيق افادة غروسمان وفايث. ينسى المتشككون أيضاً ان الانتخابات المبكرة كانت مطلباً وطنياً عراقياً فُرض فرضاً بمظاهرات حاشدة أرغمت الإدارة الأميركية على التسريع بمبدأ نقل السيادة (في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003)، وتثبيت موعد الانتخابات من دون تسويف.
ندرك أن الديموقراطية هي أطر وأدوات ومؤسسات لإدارة المجتمعات الحضرية الفائقة التعقيد، وهي بذاتها وسيلة للتوافق والاتفاق، لكنها ليست حلاً للمشاكل والتعقيدات. إنها وسيلة للحلول، وأول هذه الحلول وضع قانون أساسي يتعلم من أخطاء وخطايا الماضي.
أبدى العراقيون، عموماً، انضباطاً مذهلاً في التوجه إلى مراكز الاقتراع في التزام نظام الطوابير، في ابداء ذلك الهدوء وتلك السكينة المسالمة، وبوسعهم أن يتعلموا فن التوافق، والأخذ والعطاء خيراً من السياسيين القدامى والجدد.
لقد شكك جل المعلقين العرب في اجراء الانتخابات بالأمس، وهم يشككون اليوم في القدرة على بناء نظام سياسي جامع، مانع، متوازن. وخالطت هذا التشكيك نزعة ارتياب في الأكثرية الشيعية، طعناً في انتمائها إلى العالم العربي، أو ميلها الديموقراطي، وكذا الحال في الموقف ازاء الكرد. لقد كانت الوطنية العراقية، منذ أن ولدت عام 1920، صناعة سنية - شيعية. ولا يختلف الشيعة عن السنة في وجود تيارات شتى، إسلامية وعلمانية، ليبرالية ومركزية، حضرية وقبلية. وبهذا المعنى فإن تنوع الهويات، الشامل منها والجزئي، حقيقة قائمة في عالم السياسة اليوم. وهذه سمة لا تقتصر على جماعة بعينها في العراق، بل إنها ليست حكراً على العراق وحده، وهي تعبير عن اختلال النظام السياسي، واعتراض على هذا الاختلال. والتوازن وحده كفيل بزوال الهويات الجزئية. بوسعنا الالتفاف إلى الماضي والبكاء على الأطلال، غير أن بوسع المرء أيضاً أن يرنو إلى المستقبل.
على رغم جنون العراقيين، فإنهم اليوم يتجملون بالصبر، وعلى رغم الأوجاع ينتظرون المسرات. ذات مرة قال شاعر شاب: كل أعضائي هادئة عدا العراق. وعلى العرب أن يحترموا الوجع العراقي، وألا يقايضوا هذه الأمة بثفا لة فكر ونظام مهزومين.


2005/02/6









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي