الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة الشمر

محمد ناجي عبد علي

2013 / 11 / 4
الادب والفن


ليلة الشمر ...
.................
وقف متفحصاً البناء الذي تعالى يوماً بعد يوم، متقّياً أشعة الشمس بكفه المتغضنة التي جاهد ليوقف ارتعاشها، مبدياً تذمره اليومي المعتاد من ضجيج ومخلفات العمل، مخاطباً أحد العمال بصوت أقرب للآمر منه للرجاء:
- ساعدني لأستريح قليلاً على هذه (الطابوقات).
وقبل أن يستقر في مكانه و بحركة من كفه وتلميح غامض من عينه النصف مغلقة بادر سائلاً:
-كم تبلغ كلفة بناءٍ كهذا ؟.
حاول العامل إظهار فطنته حين طفق يجري بعض الحسابات التي أرفقها بسيل من النصائح لمن يشرع بالبناء، محذراً من بعض أساليب احتيال المقاولين والعمال ومجهزي مواد البناء.
وليقطع على العامل طريق الثرثرة، وليشبع فضوله الذي لن يمهله، ولضخامة المبلغ الذي خلصت إليه حساباته، باغته مستفهماً:
- ومن أين لأبي محمد مثل هذا المبلغ إن كان كما تدعي ؟.
-(على بختك حجي ليش هو دافع فلس من جيبه)!!!.
أيقظته العبارة وكأنها صعقته، أحنى جسده جهة محدثه، وبنبرة جاهد في إخفاء توترها بشيء من التودد قال:
-كيف ذلك لم أسمع ما قلت، عفواً ؟.
- هذه كلها تبرعات حجي!!.
قال العامل عبارته الأخيرة بنبرة متصاعدة ممطوطة،ثم أردف:
-إنها بركات الإمام الحسين،حتى أجورنا نقبضها من(أبو جواد القصاب).
- أبو جواد هذا أل...... لو يعدل في ميزانه قليلاً ويمتنع عن بيع لحم (الفطائس)على عباد الله الغافلين،لكان أجدى له من هذا الرياء والنفاق.
- هل عندك سيجارة يا حاج ؟ .
كأن العبارة لدغته.
-قم أتمم عملك بدل أن توزع النصائح هنا وهناك، اجعل لقمتك حلالاً، يريد سيجارة ابن أل......
(بعدها سيطلب الشاي والله يعلم ماذا بعد.
بركة ،أي بركة تلك التي يمنحها هذا الأّفاق،كأنه صدق بأنه (الحسين) فعلاً،أبو محمد ...... بخت والله بخت... إيه، هذا حال الدنيا...)كأن مرارة كلماته أعطته بعض الحماس.
نهض نافضاً لباسه،لاعناً كل ما يخطر بباله حانقاً على كل شيء، لكن ألم المفاصل أجبره على إبطاء خطوه ،بعدها وكعادته مازح بعض الصبية المتحلقين تحت سقف(موكبهم)الذي صنعوه من الأعمدة الخشبية المغطاة بالأسمال بعبارته المعروفة:
(جاء الشمر)!!.تبعه أغلبهم،و بعد أن أطمئنوا من مقدار ابتعاده بادروا بالهتاف: (هذا الشمر ...... هذا الشمر..) ،بحذر ماكر قلق يستشعره الطرفان برضاً وارتياح مريب، سرعان ما ينقلب على الطرفين إلى سباب وألفاظ نابية، حين يتحمس أحد الصبية ويرميه بحجر أو بكلمة جارحة ،لتنقلب بدورها براءة هتافهم إلى صرخات عدائية لا تنتهي إلا بخروج الأمهات.
تشاغل بالبحث في جيوبه وهو يقترب من دكان غر يمه(أبو محمد) الذي أمتلئ بالمتبضعين متجنباً تحيته،ومن ظلمة دكانه راقب إقبال الناس على محل جاره وتوددهم إليه،وقف وسط أكوام الملابس المستخدمة التي غص بها دكانه وقد خف عليها الإقبال إن لم ينعدم .هبت ريح خفيَِِة أوقدت جمرات كامنة في ثنايا قلبه، راح بعدها يرفس الأكوام بقدميه المتخشبتين وهو ينفث بنيران غضبه من منخريه.أشعره الإعياء بالعطش فتسلل للمقهى كما اللص.
قال عامل المقهى:
- شاي أم حامض يا أبو صابر.
- لا أريد شيئا...
تمنى لو لم يقل الكلمة الأخيرة حين لمح وجه من معارفه!!.
خاطبه أحد الجالسين وهو يعدل في جلسته ليكون مواجها له:
- ها...أبو صابر، شحذت خنجرك للغد؟.
اعتاد على مماحكات من هذا النوع، خاصة في هذه الأيام(كان اليوم هو التاسع من محرم).
- إذا ترغب أن نجربه بك، فأنا على أتم الاستعداد.
ضحك بعض الجالسين ،لكن من يعرف أبو صابر جيداً يوقن انه ليس في صدد المزاح.
شخص آخر، اقترب نحوه، طلب لكليهما شاياً، مزجه بشيء من التودد، قال انه يود طرح سؤال لكنه يخشى أن يسبب إليه بعض الإحراج أو الإزعاج.
كأن حلاوة الشاي عدلت من مزاجه فقال:
- سل ما شئت(هيَ.... خربانة)!.
وبشيء من التردد المصطنع قال:
- ما هو شعورك يا أبو صابر وأنت تجثم على صدر الحسين لتحز رأسه؟
باغته السؤال كما باغت الآخرين،أطبق صمت ثقيل على المكان،تجمد عامل المقهى في مكانه ولم تعد تسمع رنات(استكاناته)،بعض الجالسين احتار بين أن يطلق ضحكة أو تعليقاً أو يصمت بانتظار ما ستؤول إليه الأمور،ثقيلاً أخذ يهبط دخان السجائر فوق الرؤوس الملتوية بانتظار الجواب.
أطرق أبو صابر برأسه وأغمض عينيه،غاص عميقا في مجاهل لم يطأها من قبل:
................... صياح غاضب يتصاعد من حوله، مصحوب بصراخ وعويل،غبار المعركة مال إلى الخمود ،كان رافعا خنجره لأقصى ما يستطيع وكأنه يبقر بطن السماء التي مال لونها إلى لون الدماء،كل حركة توقفت في ساحة المعركة، حبس الجمهور أنفاسه، الكل بانتظار الطعنة الأخيرة ،بحركة يده القابضة على الخنجر، كان سيضع نهاية، ليس لحياة الحسين، بل لآلام وذنوب مئات المتفرجين،إن صراخهم ودموعهم وانفعالهم الشديد الذي قد يتطور إلى حد رميه بالحجارة واللعنات، لا يغير من حقيقة شعوره، وهو ممسك بيديه خيوط هذه الأرواح التي هرئتها الذنوب ولو للحظات،ذلك الشعور الغامض الخفي الممتلئ بالكبرياء، وهو ممسك بلحظة فريدة في الزمان،كان ذلك الشعور، يمنحه الحافز للاستمرار.
انتبه إلى نفسه وما حوله وكأنه أنتفض من سبات عميق،وقف بصلابة تلك الأيام ،نظر إلى من حوله،تفحص الوجوه التي تخفي الهزأ به،مسترجعا مع نفسه نواقصهم وهشاشتهم التي طالما اجتهدوا لإخفائها.
صاح وكأنه في ساحة المعركة:
((لأربعين عاماً وأنا أحمل ذنوبكم على عاتقي))،
منح محدثه نظرة لن ينساها،وأكمل؛
((بخنجري ذاك منحتكم الخلاص،أحبس دموعي عنوة وأنا أستنزل دموعكم،فتتطهر قلوبكم بقسوة قلبي،أتعتقدون أن الأمر هين،بعض طعنات بصدر هذا الأفاق ،الذي صورتموه الحسين ..حقا، بعض طعنات وحز الرأس ليس إلا !!، للأربعين عاما وأنا أحبس دمعي ،حتى أنني ما عدت أذكر إن كنت أمتلك، لكنمع أصلا!!، لأربعين عاما وأنا أقسوا على ق، وأنكمى صار كالحجارة، لأربعين عاما وأنا أذبح، لكنن لو تعلمون حقيقة الذابح والمذبوح، من هو الذابح ومن هو المذبوح؟!!، تتصورون أنكم بمنأى عن الجريم، وأنكمم مجرد حملان ليس إلا!!،تمسحون بابه بالحناء!!))قالها مع حركة تشبيهيه هازئة من كفيه،((أتعتقدون أنه الحسين حقاً؟!! وأنه سيمنحكم بركاته،فتتسابقون بالأموال لتشيدوا له داراً و ربما قصراً!!، حتىا عادت داره القديمة تتسع لحنائكم، حتىى (أبو جواد)القصاب المخمور ليلاً ونهاراً،حل به الأيمان أخيراً،فسارع يدفع أجور العمال، أمن الممكن أن يبلغ بكم النفاق هذا الحد؟!!، لطالما باعكم من بضاعتي المستخدمة على أنها جديدة ،بعد أن يموهها جيداً وهو خبير بهذه الألاعيب،والعجب أن أغلبكم يتفكه بألاعيبه تلك )).
دفع طاولة المقهى الخشبية جانبا وهم بالمغادرة،لكن الصمت الجاثم على المكان ،أغراه بالعودة،فألتف نحوهم:
((أتعلمون ؟ .....................))
ألتفت يميناً ويساراً كأنه في مأزق يود الخروج منه،....(( بعثته ليخطب يد المرأة التي تمنيتها زوجة لي، أتدرون ما فعل؟،... ))أمهلهم قليلاً من الصمت ليفكروا بالإجابة أو ليتهيئوا للقادم ،تأمل وجوه الجالسين،كأنه يتوسلهم أن يصدقوه،.......
((خطبها لنفسه،ثم تزوجها))، ((فمن هو المذبوح الآن))؟!!
تحسس دمعتين تسللتا من محجريه، تملا بهما جيداً بين إصبعيه، وهو يدعكهما بعناية كجوهرتين نادرتين، شعر بخفقان قلبه وكأن الحياة دبت به من جديد.
قال وهو يلتف مغادراً:
-موعدنا الغد،...العاشر من محرم ،في ساحة المعركة،
لم ينم تلك الليلة،فقد أنشغل بشحذ خنجره وتأجيج نار الانتقام في كوامن روحه .
في الصباح،طوقت ساحة المعركة بالجمهور المتأهب للنواح وتعسكر الجيشان كل في مكانه،لكن ما أحدث اللغط والبلبلة ،هو خلو الفرس الدكناء من راكبها المفترض (الشمر)،الذي كان في هذه الأثناء ،جثة تتدلى من حبل مربوطة بسقف الغرفة.

تمت

الكاتب أخي
عمار الناجي
نشر بطلب منه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض