الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آه يا بلدي

آلان كيكاني

2013 / 11 / 4
الادب والفن


ليس البشر فحسب، وإنما البهائم هي الأخرى تحن إلى أوطانها إن هي هجرت عنها وعاشت في بيئة مختلفة عن بيئتها الأم، وهي سرعان ما تنتهز الفرصة للعودة إلى ديارها التي نشأت وترعرعت فيها، وهناك أمثلة كثيرة عن دوابّ وطيور وأسماك تهاجر آلاف الأميال لأداء مهمة ما، كأن تنشد جواً ملائماً لها في فصل ما، أو تبحث عن طعامٍ معين في مكان ما، أو أن ترتحل بغية التكاثر، إلا أنها ما إن تنتهي مهمتها حتى تسرع في العودة إلى موطنها الأصلي. والحنين إلى الوطن لا يقتصر على عالم الحيوان، لو جاز لنا اعتبار الإنسان أحد أنواع الحيوانات، وإنما يتعداه إلى عالم النبات، فالأشجار تأبى العيش إلا في تربتها التي زرعت فيها، وسرعان ما تصفرُّ أوراقها وتذبل عندما تُقتلع وتُزرع في تربة غريبة. وبما أن الله وإلى جانب الغريزة أكرم بني البشر بنعمة العقل والعاطفة كان وقع الغربة أكثر إيلاماً عليه من باقي الكائنات.
لا يمكن للمرء أن يهنأ بحضن دافئ مثل حضن أمه ولا أن يمشي على تراب مثل تراب وطنه ولا حتى أن يتغمد بثرى أجمل من ثرى آبائه وأجداده، ومهما لاقى الإنسان من ضروب السعادة والرفاهية في الغربة فإن عينيه، أبداً، في العودة إلى وطنه، وقلبه دائماً معلق بحب هذا الوطن. ومن هذا الحب وهذا الحنين إلى الوطن نشاً أدب رائع ذو ألم لذيذ وتكونت قصص وروايات وأشعار جميلة كتبها أشخاص أضناهم البعد عن الوطن وأثقل كاهلهم.
وإذ نعيش نحن السوريون هذه الأيام ألم الغربة بمنتهى درجاته فإننا نستحضر كثيراً قصص المهجرين والمهاجرين بل ونعيش هذه القصص عملياً على أرض الواقع وفي قلب كل منا الشاعر اللبناني رشيد أيوب وهو يشدو قائلاً وقد أثقل عليه ألم الفراق عن أهله ووطنه:
يا ثلج قد هيجت أشجاني .......... ذكرتني أهلي وأوطاني
بالله قل عني لجيراني ........... مازال يرعى حرمة العهد
يا ثلج قد ذكرتني أمي .......... أيام تقضي الليل في همي
مشغوفة وتحار في ضمي ......... تحنو عليّ مخافة البرد
يا ثلج قد ذكرتني الوادي .......... منتصباً لغديره الشادي
كم قد جلست بحضنه الهادي ........ فكأنني في جنة الخلد
وفي قلب كل سوري الشاعر الحمصي نسيب عريضة وهو يغرد معبراً عن عمق الألم ومرارة الغربة قائلاً:
يا دهر قد طال البعاد عن الوطنْ
هل عودة ترجى وقد فات الظعنْ
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفنْ
بل وفي داخل كل سوري ذلك الأعرابي البسيط خليف. ولمن لا يعرف قصة خليف، فإنه كان شاباً بسيطاً يعيش في إحدى القرى النائية في الريف السوري لا يملك من الدنيا سوى بضع عنزات يرعاها ليقتات من لبنها ويعود الليل لينام على فراش من القش في دار مبنية من الطين تلعب فيها الفئران والصراصير. وقد وقع مرة على أذن خليف نبأ سفر بعض شباب القرية إلى لبنان وعودتهم بجيوب دافئة وسيارات فارهة فأثار ذلك انتباهه، وفي أحد الأيام سمع خليف أن جماعة من أبناء القرية عادت للتو من لبنان فقصدهم يعسّ عليهم وقد انبرى الشباب يتحدثون عن الوجوه الحسنة والشوارع النظيفة والأطعمة الشهية والبيوت الاسمنتية المجهزة بالكهرباء وصنابير المياه في بيروت، فتفكر خليف وقال لنفسه ولماذا لا أكون واحداً من هؤلاء وأنا أكثرهم قوةً وشباباً وجمالاً؟
وفي بيروت اختار خليف لنفسه عربة كبيرة يدفعها في شوارع أحد الأحياء الراقية ويشتري مواد خردة وأدوات كهربائية عتيقة ليبيعها في الأحياء الفقيرة بأرباح ملفتة، ولم يكن الرجل يعلم وهو يذرع شوارع الحي الراقي أن هناك عيوناً تغض الطرف عن ثوبه المهلهل المرفوّ من عدة جهات وحذائه البلاستيكي المرتوق بخيوط من الخيش، بل هي ترقب طوله الفارع وعضلاته المفتولة وقامته الممشوقة وتعشق عينيه السوداوين وشعره الكثيف وتهيم بقوته وعنفوانه، ففي أحد الأيام وبينما كان يدفع عربته مثل ثور يسفد أنثاه، عنّت له خادمة أحد البيوت لتقول له أن سيدتها تريد أن تتحدث إليه، تفاجأ خليف في البداية وتمنّع وتثاقل وتظاهر بعدم الاهتمام إلا أن عقله الباطن كان يبحث عن مثل هذه الفرصة منذ أن وطئت أقدامه أرض بيروت، وخضع في النهاية لميوله المبطنة وصعد أدراج البناية خلف الخادمة حتى التقى بصاحبة الدعوة، وإذ بها صبية فائقة الجمال، ووحيدة لا أخوة لها ولا أخوات، وتعيش مع أمها في بيت فاره بعد أن توفي أبوها وترك لها قناطير من الأموال.
انتهى اليوم الأول بتناول خليف كأساً من الشاي مع العائلة أما الثاني فقد طال اللقاء فيه حتى شمل الغداء. وما هي إلا أيام حتى كان خليف من ساكني البيت وعريساً، وقد بدأت عملية تأهيله على حياته الجديدة فاشترت له عروسته ألبسة قشيبة، وأحذية فاخرة، وربطات عنق أنيقة، ورافقته إلى أفخم صالونات الحلاقة والتجميل الرجالية، وعلمته فنون الأيتيكيت، وكيف يتعامل معها كإمرأة محترمة أمام الناس، وكيف يسحب لها الكرسي ويجلسها في المطاعم والمقاهي الفخمة، وكيف يفتح لها الباب ويدعها تدخل أولاً عندما يدخلان باباً، ودربته على قيادة السيارة، وأركبته أكثر أنواع السيارات فخامة. ومختصر القول أنها حولته خلال ستة أشهر من راعٍ للماعز إلى أميرٍ ومن خليف إلى ميشيل ومن ثم إلى ميشو.
وعاش ميشو حياة الملوك وهو يتنقّلُ مع زوجته من دولة إلى دولة بقصد الاستجمام، ومن منزل إلى آخر لقتل الروتين والملل. إلا أنه بدا كثير التفكير في عامه الرابع وهو يردد بين الحين والآخر قائلاً: آه يا قسرين، وآه يا قسرين. ظنت الزوجته في البداية أن العبارة التي يرددها ميشو على الدوام ما هي إلا أوراد دينية أو استغفار يكرره ميشو للتقرب إلى الله، إلا أنها في النهاية رأت أنه لا بد من السؤال، فسألت، وكان جواب ميشو هو أن قسرين هي قريته، وهو يحنُّ إليها ويجد أنساً في ترديد اسمها. وعندما أدركت الزوجة الأمر اقترحت على ميشو أن يقوم الأثنان بزيارة لقريته، ووافق ميشو. وكانت الزوجة على يقين أن القرية التي يشتاقها ميشو ويردد اسمها ليلاً ونهاراً، وهو يعيش عيشة الملوك في لبنان، لا بد وأن تكون روضة من رياض الجنة.
في عصر اليوم التالي وصلا إلى القرية وأركن خليف السيارة أمام باب بيته وأيقظ زوجته التي كانت قد خلدت إلى نوم عميق بعد أن اجتازت السيارة حلب بقليل، نزلت الزوجة من السيارة ونظرت حولها ورأت ما لم تره في حياتها: بيوت طينية متناثرة على صحراء قاحلة جرداء، لا شجرة تلوح في الأفق، ولا سيارة تدب على الأرض، ولا زرع يبدو على مد البصر، ولا حتى غيمة تسبح في السماء. نظرتْ إلى إحدى الجهات فرأت زوبعة ضعيفة تحمل معها بضعة أكياس نايلون والكثير من الغبار، ولم تر أي مظهر من مظاهر الحياة سوى وجود كلبة هزيلة جرباء، تستفيء بظل دار خليف، وتصارع بضع ذبابات تحوم حولها. التفتت إلى شريكها وقالت:
أهذه هي قسرين؟
فقال لها خليف: نعم
فقالت: أعطني مفتاح السيارة من فضلك.
فوضع خليف المفتاح في يدها، فركبت وانطلقت كالبرق وسط العجاج تاركة خلفها خليف، والذي بدوره بات يراقب الغبار المتطاير من عجلات السيارة دون أن تبدو عليه أي شعور بالأسف على فراقها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد