الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمار للبيع

حمّودة البريني
كاتب

(Brini Hamouda)

2013 / 11 / 5
كتابات ساخرة


حمار للبيع...

هوّ مشهد لازلت أذكره مذ كنت صبيّا : جارنا الذي يقرّع كلبه بالعصا. ولشدّة ما كنت أحضر على هذا الفعل، صار يستهويني، وبتّ من وقتها أكره الكلاب، ولأنّ جارنا كان ينادي كلبه بـ"الخاين"، كنت أراه دوما على صواب، وهو يبرّح كلبه ضربا ومن وقتها صارت الكلمة "خاين" شيئا كبيرا قي ذهني، وأنا الطّفل اليافع.
الكلب، كان يأتي على رزق الجار وقوت عياله، فلم يسلم منه لا دجاجه ولا أرانبه ولا كتاكيته الصّغار..حتّى أنّ مرّة سرق منه أرغفة الخبز وهي لا زالت في الفرن، وقيل في رواية أخرى أنّه فتك بالخبز وهو لا زال عجينة تتخمّر..لذلك اعتبر صاحبنا هذا العمل عدائيّا..من كلبه عليه..وكان يعتبره خيانة وكان يناديه بـ"الخاين".وكنت كلّما سمعت صاحبنا يدور بفناء منزله ضاربا كفّا بكفّ، والغضب يكاد يعصف به، علمت أنّ صاحبنا يبحث عن الخاين وعلمت أنّ شيئا ما، حدث. فأهرع ممنّيا نفسي بمشهد..كان في أحيان كثيرة يعتريه بعض الغموض، لأنّ شيئا غريبا كان يحدث..لم أستطع فكّه إلاّ بعد أن صرت كهلا..فما أن يتمكّن صاحبنا من المسك بالخاين وقد برع في هذه العمليّة وادّخر لها حيلا كثيرة، رغم خفّة الخاين وبراعة الشّيطان الذي يسكنه كما يقول صاحبنا، وما إن يشدّ وثاقه إلى طاولة الحوار، أيّ إلى جذع الشّجرة ويكيل إليه أولى الضّربات بعصاه التي كان قد أحضرها سلفا، سرعان ما يتهاوى الخاين طريحا، رافعا قوائمه الأربعة إلى فوقه، مدلدلا عنقه إلى ورائه، كاتما أنفاسه .و يصير جثّة هامدة تهتزّ لكلّ ضربة عصا إلى أن يضيق حال صاحبنا، فيرخي قبضته ويلقي بعصاه جانبا، مستنكرا مستعيذا، متظاهرا ببعض النّدم والتّقوى، لقد قتل الخاين، لقد قتل حيوانا..إنّه فعل حرام..إنّه لإثم كبير..
وكي لا يتأذّّى الّصغار بهذا المشهد يأمر صاحبنا بفكّ وثاقه وطرحه بعيدا عن الأعين..وما إن تفكّ عقدة الحبل الأولى تحصل المفاجأة..ويحدث ذلك الشّيء الغريب..ينطّ الخاين من مطرحه بارتماءة طويلة..كأنّه يقبض الرّيح أو يسابقها، وهو يشقّ الطّريق كالسّهم، طالبا الخلاء متحفّزا لعضّ كلّ من اعترض سبيله دون ورع.وفي لحظة وجوم و بهتة من جموع الحاضرين، ينطق صاحبنا كمن يدرأ عنه بعض مشاعر الخجل بما سببّه له انخداعه وانطلاء الحيلة عليه: لقد قلت لكم ، انّه "بو سبعة أرواح..الكلب ابن الكلب.." وقد أيّده الحاضرون الذين يذكرون أنّ الخاين فعلها أكثر من مرّة. وهي محاولة منهم لتخفيف مشاعر الخجل عن صاحبنا، دون أن يداروا بعض الضحكات الماكرة.
ويدار حوار عن الكلاب ، عن أصلها وفصلها.. وعن حسبها ونسبها..تماما كما هم البشر.ويذهب بعض الحاضرين إلى أنّ الكلاب، كما عُلم، كريمة في الأصل، والنسب.إذ هيّ تنحدر عن سلالة الذّئاب.والذئب، ذئب.."نظيف" لا يأكل الجيف ولا القمامة ولا يرضى بالبواقي ولا الفتات، ولا يرضى بما تجود به الموائد..يعرق كي يحّصل رزقه وقوت عياله، يعيش مرفوع الرّأس بارز الصّدر، متطلّعا دوما إلى الأمام.أمّا وبعد أن عمّ الجفاف الأرض وضربت المجاعة وشحّ الغذاء وندر،تشتّتت الذّئاب وانقسمت إلى ملل ونحل فمنها من تمسّك بالبريّة والجبل وفاء لأصله الرّفيع..ومنهم من نزل الحاضرة ليعيش على القمامة والتقاط الفتات من حول المنازل والقصور، فصار كلبا وقد انتهى به المقام إلى سرقة العجين ولو من الفرن..وهكذا سمّي بالخاين ، الوضيع.
أمّا عن كراهيّتي للكلب وللكلاب، فإنّي أقدّر أنّ عدم حضور حفل الحوار، ما كان ليجنّبني أمر الاحتفاء بالكلب على تلك الشّاكلة، كما لا يعفيني من الاشتراك في تحمّل الوزر..لأنّ عواء الخاين كان سيتناهى إلى مسامعك ولو لم تره بعينيك.
ويتردّد رجع الصّّدى القادم من البعيد ، البعيد حتّى يمتزج بأصوات كالبكاء ..،كالعويل.وتعاود اللّحظة تشدّك إليها بين أذرع الحاضر لتستفيق، أنت الذي يكاد يفرك عينيه. لتصحى على صوت ينادي:هيّا..إنّه حمار للبيع !..حمار للبيع..؟ ما هذا المشهد؟ رعاة !! حمار ! وسيط ! هل هي سوق الدّواب؟ أين أنا…؟ !أين المشترون؟..أين المشترون؟ لقد حضر الجميع إلاّ المشترين. !!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال