الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العيد أعلى هذه التلة

محمد الرازقي

2013 / 11 / 5
سيرة ذاتية


لم تتشكل هذه القوافل أو القبائل من صبية وأطفال القرية صدفة على هذه الشعب التي تبدو كشريان يضخ الحياة في هذه التلة الوحيدة أمام الله، وهم محملين بكل أنواع الحلوى والأحلام، فاليوم عيد بكل بساطة، واسأل هذه الكرمة إن كنت فضوليا أكثر عن أبنائها، واسألها كيف تشع خطاهم براءة وعطرا، عطرا قديما بعمر هذا الحلم والذكرى، أو اسألها إن كانوا عن عمد يعتقون العطور هنا كالنبيذ، كي تسقى في الأعياد هكذا قبل أن تقول لهم الشمس في هدوء: صباح الخير.
صوت التكبير والتهليل يساقط على أسماعنا زخات زخات من مصلى بعيد أعلى التلة، ونحن نصعد اليه كسحابة ستقول ما بجوفها من مطر ثم تمضي الى حالها وراء الذاكرة. قط يباعد رجليه الأماميتين ويحني ظهره كأنه يمارس رياضة الصباح، قبل أن يكمل مشيته متبخترا، لا يبالي بأحد ولا بالعيد. هواء خفيف يحرك مشاعر شجر الزيتون المحيط بأرض الكناية.
هل حان موعد صلاة العيد؟
فتبدأ الفرحة كحقنة مخدر تسري ببطئ فينا مع كل خطوة الى المصلى، الى أن نسقط ثملى أمام خطيب المسجد، وقد استظهر الشمس بقبته، متكئ على عكازه الخشبي الأبيض كأننا ما صلينا من قبل وراءه، إنه أشرق مع الشمس الوديعة في عش ذلك الجبل البعيد جهة الشرق، ربما قد يقول فلاح يرتدي اليوم على غير عادته جوارب بيضاء، بيضاء كهذا اليوم، كالحقيقة.
كلام الامام أبيض، طلاء المسجد أبيض، بيضاء فرحتنا، الى أن يمضي العيد خلسة منا، ونحن خاشعين أمام الأضحية، باسم الله نضحي، وتنطلق شقائق النعمان لتقبل الأرض وتعانق المعنى، فتنسى أحمر شفاهها واضحة في أثر القبلة، ولم نسأل أتستحق هذه الأرض دماءنا وفرحتنا.
كل شئ واضح وغامض، حتى المنعطفات الصغيرة في طريقنا الى المصلى لها نصيب من الذكرى، كدرج حنى ظهره الينا كي نصعد الى كلام الله، الله أكبر ولله الحمد، والعيد يحفظ لنا هاهنا اسماءنا أحياء على هذه التلال، كل التلال التي نصبت جبلا كي يحاور باسمها السماء، ويحفظ أسرارها من الضباع ومن الضياع.
بالعيد كنا هنا نؤرخ لميلاد فاجعة أو لموسم حب سنوي، بالأضحى وتقويم فلاحي يراعي الليل فينا واشتهاء ساذج لفاكهة تسمى الخوخ شتاء، أما في الصيف فديك بعرفه المتهادي كشعلة نار، كان يكفي كي نخلد "ثعنصات" على مرأى من البحر، كان يكفي لكي نجتمع بعد الحصاد لنرقص فوق النار: شكرا على سنابل القمح، ولا نعرف من نشكر، أيدينا التي سحرت هذه السفوح قمحا، أم فكرة سقطت في خوذة شاعرة تغني للمزارعين كي يلين قلب الشمس قليلا ويستلين.
قريتي هنا، أو ربما ينطق فرحتي، يقول عائد من المجاز يبحث عن خاطرة في ذكراه الذبيحة، وقد كان مسافرا في الماضي لما وراء وراء الرؤيا، يبحث عن غده بين مخالب الحياة، لقمة يتقاسمها ويكثف من تأويلها كي تسع القبيلة كلها، والأولاد بعدد الحب في السنبلة، الله أكبر والحمد لله والله أكبر، وأيادي الأطفال مضرجة بالحناء، وخجل يمر عليهم يوزع الورد قبلا قبلا على المحيا.
خطبة الامام لم تنطفئ بعد، يطعمها خشبا وكلاما من الفصحى، لكن الجمع المترنح أمام نارها كأنه يقول: تكفينا من كلامه نبرته، أما المعنى فسنجمعه بمناقير أرواحنا نحن من جنان هذه الأرض، رحيقا وحكمة للأجداد وشهدا، فلا تحجب الشمس عنا إمامنا، لا تحجب الشمس عنا.
لا يهم هنا أأول الأعياد نحيا الآن أم آخرها، المهم أن تعثر عما يطربك في القصيدة قبل أن ينتهي الشاعر من القاءه، فالحياة علمتنا على هذه التلال ألا يغرينا وهم البدايات، كما لم نتحطم على تخوم النهايات هناك، فعش يومك كله، وقدم ذبيحتك المليحة الى الله أو لقضيتك الأولى كما تشاء.
وشاء الأطفال الا يتركوا ولا بيتا واحدا وهم يوزعون براءتهم صفحا وتقبيلا، قبل أخاك في الطريق ربما يقول طفلان التقيا صدفة على هذه الطرقات التي تنقشها ضلال شجر الزيتون، فالكل إخوة، كلهم أبناء هذه التربة الحمراء، هذه الحناء الحمراء، وكلهم قدموا للسماء اليوم قصيدة في مدح فاكهة الرمان.
شباب يتقاسمون أفراحهم وحكايات السفر البعيد، كلهم تقمصوا السندباد أو تقمصهم هو ليحكي حكاياته مع الرمال والماء. أما حراس المعبد فينضمون الحوار، ويرتبون الصور واحدة واحدة، وفصول الحكاية. لعلها تكتمل قصة صلب ونسل تشظى وتفشى الى آخر الأرض واللغة.
الله أكبر والحمد لله، ما تزال تصدح في خواطرنا إذ نقول ونحن عائدين من المصلى، قد كان ها هنا شيخ يرش باب الخلود بالحلوى، وهناك حيث غير منزل جلده كانت جدة تقدم لنا قلبها هدية للعيد، ماض ينساب الآن منا إذ نتربص به كيما نلجمه بلغة منسية فينا بلا جدوى، تعالى تعالى نقول إذ نراوده، كيما تقود طيفنا على ألغام هذا الزمن الردئ، تعالى.
ماض يمضي ولا يمضي، كلما غربت ومالت به السماء نحو الأصيل، كلما عاند وعاد ممتطيا شمس الصباح في غده كفارس عائد من المعركة، ها أنا ذا عائد، يقول وهو يهيج بحوافر حصانه وحصاره الأرض حمى وذكرى، فلا تنسى يا ابن امي يردد، لا تنسى زوج حمام يؤنسانك سأم الشتاء، ولا مواويل امرأة كانت تغني للأزهار كي تنام في حقولنا هادئة، لا تنسى صيادا يوزع أسماكه وملحه على الجيران، لا تنسى فلاحا إذا يفاجئك بباقة نعناع يلمعه ويرصعه الندى، لا تنسى.
والنسيان أول الأعداء وآخرهم، نخاف أن ننام ليلة العيد فيغير على قمحنا والذاكرة، فنعلق مواويل العيد وحناءه في أول باب، كي نتعثر بالرؤيا ونحن عائدين من المجاز، ونتذكر: نحن الذين سقينا هذه الأرض الحمراء كجمرة دمنا في العيد إذ نضحي، نحن وحدنا الذين زيناها حناءا وفخرا.
الله أكبر والحمد لله، وأرضنا تموج تحت أقدامنا كما البحر تلالا وصخرا، أما البحر فهادئ ومسطح تماما كوجه مرآة تقلد السماء وتدنيها، وتوزعها على السواحل زبدا وملحا، فالبحر أرض والأرض بحر، ولا فرق بين حقولنا أحصدنا حوتا هنا أم اصطاد الشباك حنطة وفلا، والرزق هنا كحمام يرفرف فجأة على يدي ساحر من لاشئ، لا شئ يوحي هاهنا أن أرضنا سودت جدرانها بكل أهل الأرض، بالافرنج واليونان والرومان وعقبة والاسبان وكل من وطئ الثرى، كلهم مروا من هنا وأرضنا لم تمل بعد من انشاد قصائدها وردا وليمونا.
الله أكبر كبيرا، ويكبر فينا العيد شيئا فشيئا، وطفولة قد تلمحها إن كنت بارعا في التقاط المعنى على المآقي، كل شئ زائل الا الطفل فينا، نداعبه ونصاحبه يوم العيد صباحا على هذه الطرقات المعبدة بالحنين، ونستعطفه ألا دلنا على الطريق لهذه الذكريات التي تمر فوقنا معلقات كالعناقيد على السحب الخفيفة العابرة، عبثا نستعطفه اذ نمد يدنا للثمار المحرمة.
الله أكبر والحمد لله كثيرا، تشتد وتعلو كلما اقتربنا من الحقيقة والمصلى، وكلما خطونا نحو النهاية، ونهاية الخطو هذا الصباح في رسم وردة بيضاء على هذا الاسمنت بثوب ايماننا، كي تنز دعاء وعطرا، وكي تحكي للسماء عن أول الزرع ومن حصدوا، عن أول الحب ومن حفظوا لنا هاهنا أسماءنا شجرا أو حجرا أو قمرا يؤنس مراكبنا التي تغازل في ليلها اليابسة.
باسم الله نضحي ولا نبالي بعدها أأول الأعياد نحيى أم آخرها، فاغنم لنفسك لحظة أو فرحة بأنك كنت هاهنا فرصة ودليلا على الغياب، وللمطلق كنت له هاهنا التجلي، فتجلى الآن لوحدك ثم ارحل رحيلك حيث شئت في المدى، هناك أو هناك لما وراء وراء هذه التلة الوحيدة والحياة، ربما يختم شيخ تقوس هناك في أول الصف على عمره، ويقرأ من حروف الشيخوخة على يديه: إن لم نتعلم فنون الانتصار نحن يا أطفال الزمن الآخير على هذه التلال، فإننا ما تعلمنا الهزيمة أيضا.
فعش ملئ يومك وعيدك كله، ولا تنتصر أو تنهزم على الزمن الردئ، واترك حياتك بين-بين، كطائر يرصعه الريح من عل، والريح قلادته اذ يحلق فوق هذه التلال، وارحل اذا كان رحيلك ضروريا، ففي رحيلك ميلاد للغياب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظاهرة غريبة.. السماء تمطر أسماكا في #إيران #سوشال_سكاي


.. مع تصاعد الهجمات في البحر الأحمر.. تعرف على أبرز موانيه




.. جنود الاحتلال يحتجزون جثمان شهيد من المنزل المستهدف في طولكر


.. غارة إسرائيلية استهدفت منزلا بمنطقة الصفطاوي شمال غزة




.. قائمة طويلة من لاعبين بلا أندية مع اقتراب فترة الانتقالات ال