الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراما الحزن في نصوص خالدة خليل

حسب الله يحيى

2013 / 11 / 7
الادب والفن


( 1 )
ان تقرأ نصوصا لأول مرة ، وتكتشف انها نصوص غير عادية ، وان صاحبها يمتلك ادواته بوعي ونباهة ودراية تامة ، تجد نفسك وكأنك تكتشف قارة جديدة ... فكيف سيكون الامر عندما يتبين ان هذه القارة تحمل اسم مبدعة لم تقرأ لها من قبل ، خاصة وان الاعمال الابداعية التي تكتبها المرأة في العراق شحيحة بالمبدعات باستثناء اقلام راسخة راحت تنافس المبدعين ، بل وتتجاوز اكثرهم ؟
خالدة خليل : تكتب النقد ولها في هذا الجنس الادبي كتاب بعنوان ( تفكيك النص – مقاربات دلالية في نصوص منتخبة ) ولها في الرواية ( اشرعة الهراء ) وفي الشعر ( شرنقة الحمى ) * ويهمنا هنا تناول المنجزين الابداعيين الآخرين سوية ، نظراً للوشائج والومضات والاهتمامات المشتركة بينهما .. والاهم من ذلك ، الفعل الدرامي العميق الحزن الذي يشد اواصر العملين – الروائي والشعري – القائم بينهما .
ففي رواية (اشرعة الهراء ) لا نقرأ نصا روائيا تقليديا قائما على التمهيد والذروة والختام ، وليس بوسعنا تقديم خلاصة حكائية ( حدوته للمحتوى، وانما نقرأ تداعيات شعرية ونثرية معاً ، حتى لنجد الكاتبة تندفع بنحت لغة حية فيها المفردة الشعرية والجملة النثرية وما بينهما تنشأ حياة قلقة ، مرة ينتابها الحزن الدرامي الذي يصوغ دلالات في غاية الكثافة وعمق الايجاز الدال والمحوي معا ، ذلك ان خالدة خليل ، لا تريد ان تخلد اسمها تحت جملة نثرية سائبة فيها الكثير من الاطناب ...وهو ما يطبع معظم النصوص النثرية وحتى الشعرية والنقدية كذلك .
ان الرواية تنساب بطريقة فذة ، من النادر ان نجدها الا في اعمال يمتلك اصحابها القدرة الفائقة على بلاغة الايجاز ، ذلك ان الايجاز قد ينم احيانا عن عجز في التعبير عن المعاني الداخلية وسرد الاحداث ، فيما نجد خالدة خليل مقتصدة ايما اقتصاد مع ايصال ما تريد ايصاله للمتلقي .
( دعاني الى مائدة حلم ، كنا تقاسمنا عليها رغيف سنوات المرارة والضياع ) بهذه العبارة الموجزة الحية تبدأ ( اشرعة الهراء ) وهوالامر تنبهنا فيه منذ البداية الى اننا نقرأ نصا روائيا يحمل معه لغته وايحاءاته ودلالاته الخاصة به ..
وتمضي الجمل اللاحقة : ( هو يبحث عن انفلات ازرار من جسد الحضارة ، بينما ابحث انا عن غيمة لترقيع عودة الحزن المنسكب من ابريق اختلاف ) .
وتقود الروائية هذا الاختلاف لوحدها ، صوتها هو الاعلى ، بينما نجد خفوتا لدى الصوت الاخر ، حتى لنجدها تأخذ من الاخر ( حضارته ) وتضمها الى نفسها وتولد منها شرارات وابعاداً ورؤى جديدة لتنسج من هذا الحزن الدال بينها وبين الاخر .. الدراما التي تعمق هذا الاحساس الدفين بالحزن .. ولا تأبه للذين ( يحرضون ( بو ) على قتل ( شهرزاد ) التي تسلل الى حجرتها القمر ) .
انها ( ما زالت تلك الحسناء التي تقضي ساعاتها امام مرآة صدئة لتعلن للضوء المشتت استسلامها ، ما زالت ( ام حواسم ) بعثرت خطى شمس ربيعية كانت تبحث عن كاهن يفك السلاسل بتعويذة جبلين ) .
وقد تبدو صفة ( ام حواسم ) هنا دخيلة على اجواء امرأة مسكونة بالحزن ، لا بالهيمنة على حقوق واموال الآخرين .. كما هومألوف في تسمية وفعل ( ام حواسم ) .
ان المرأة هنا تتوقف عند الميثولوجيا الشعبية ، علها تفلح في فك ازمتها الحادة وفي ايجاد سبل تنقذها من الوحدة التي تعاني منها .
وهذا الحال يضعها امام نفسها لتكتب شعرا :
( انا كل انثى / غمس في مكحلتها الزمن ابرة غدر / ثورة للحزن انا / لن يقمع دمعها رحيل الانوثة عني ) .
وترى في ( ام حواسم ) انجابا ولمرات على ( بابل وآشور وبانيبال وقادسيتيها آلاف الجنود المهزومين ، فيما كانت الداية تمطر فوق رؤوس الجياع رائحة حلوى في كل مرة ) وهو ما تريد ان تبوح به عن جرائم السلطة السابقة وقصف مدينة حلبجة ورمي سكانها بالقنابل السامة التي تحمل رائحة الحلوى او الفاكهة ( التفاح ) على نحو ادق ..
ولأن خالدة خليل ... شاعرة ، فانها ترى ان الامطار ( تهطل على الليل المسكون بأصوات وصفير وظلال تبدو كأشباح هاربة من نافذة مخيلتي ، وهي تمد اصابع اغتيال لتقتل النوم في عيني وتفرش اسراري كلها على وسادة سئمت غيابك عنها .. هل انا في حلم ؟ )
( هطول المطر على غير المألوف لا تمطر على الارض والاشجار والجبال ، بل على الليل بل ما يحمله من وحشة .. تمتد فيها الاصابع لاغتيالها ، من دون ان تعلم صاحبة هذه المشاعر كلها ، ان كانت تعيش الواقع ام انها تحلم ) .
ان الحلم والواقع هنا صنوان لا يتجردان عن الحالة التي تطبع حياة الواقع الروائي المدون هنا ، بل ان الروائية تستثمرهما معا .. امعانا في ايصال الفعل الدرامي القائم بين الواقع والحلم .. حتى انها تتوسل الكلمات لئلا تفلت منها:
( وانت يا كلمات لاتهربي من اصابعي / بل كفراشات لوعتي / تعالي لن تحترق اجنحتك / لن تبعثر رفيفها / زوبعة جنوني / تعالي لترشي فضاءاتي / ببريق الوان ) .
ان الكلمات ..هي المنقذ لعالم الشخصية الروائية المحورية ، بوصفها الدالة الاهم والبوح الاساس لوجودها في عالم مليء بالازمات والمحن .. وهي السبيل لوصولها الى فضاءات ملونة ترتجيها وتمني نفسها بها .. خاصة وانها كما تقول : ( لم اذق من بحار المعاني غير معنى واحد لصيق بالهزيمة والحصار والجوع والخوف والعدو وراء السلام ..)
انها حذرة ، والفوبيا تلاحقها ، والغربة والوحشة تشكل عالم قلقها ومحنتها .. ( لقد ارضعوني يوم ولدت الصمت ) والصمت هنا بمعنى القمع ومصادرة الرأي والكتمان بوصفه يشكل ما يسمى ( ذهب الصمت ) وهو ذهب زائف لا يراد منه سوى ( الطاعة ) بمعناها الخاضع والجامد والساكن والساكت والخائف ..
من هنا وجدنا الروائية :( في رئة الشعر سأسكب انيني / وفي صمت الكلمات اسافر / في علامات السكون التي اورثتني اياها ، سأصيب عيني بصمم غريب كي لا اراني في مرآة ) .
انها تنتمي الى عالم صوت نادية مصطفى وهي تشدو بأغنيتها ( سلامات ) كما اوردت ذلك في ص39 .
وبهذه ( السلامات ) التي جاءت في اوج الحروب والغربة معا ، فاكتسبت شهرتها بوصفها من اكثر الاغاني التي خاطبت الوجع الانساني في لحظاته الحادة والمأساوية .
ان خالدة خليل ، تكتسب في هذه الرواية ، ملامح حقيقية لكاتبة وضعت اللبنة الاولى ، والبذرة البكر لعمل يحمل معه شهادة نجاحه وامتيازه وغناه الحقيقي وهو يجتهد في انتقاء اسلوبه ومعالجته لمضمون يوجعنا ويتواصل معنا كل يوم ..
* اشرعة الهراء / رواية : خالدة خليل / دار شمس – القاهرة 2009
( 2 )
في ( شرنقة الحمى )* – المجموعة الشعرية لخالدة خليل ، تبدأ بنداء : ( يا حزني .. ) لنتبين بعدئذ ان هذا الحزن يمتد الى جميع قصائد هذه المجموعة التي تضج بالدراما الحزينة / مما يجعلها ثقيلة على براءة شاعرة تنحت من الصخر كلمة موحية ، ومن الدم زنبقة ، ومن الشجرة ثمرة .
انها ( قادمة ريح الحمى انتبهي يا اوراق العمر / ثمة طائش يستهدف السطور / طائش اسميه الزمن / ويسمونه ما يشاءون / تدثري ايتها الاوراق /تدثري / بضوئي )
حمى الشاعرة / حمى ابداعية ، محاصرة بحدائق اللغة من جهة والحزن الثقيل الذي ينحت من اللغة شحناته المعبرة وفاعليته الاثيرة ، حتى لنجد الشاعرة خالدة خليل تتنفس الكلمات بوصفها عالمها كله .
انها لمفاجأة ان نقرأ قصيدة تحمل كل هذه الهموم والاحزان والمشاغل التي تتمكن على وفق ضغوطها ، ان تنقل الحياة من رمادها ، الى وهجها المضيء :
( زمني طوفان قش / يهدد في فنجان مجنون / فيما تنقر غربان صمتي / سنابل اغتراب )
بهذا الاحساس الشفاف والدال ، تكتب خالدة خليل قصائدها ، لتعبر عن عطاء يجسد ما يعتمل في حياة الشاعرة ، وينقلنا معها الى حيث ترى وتتأمل وتفكر ..
انها تصف واقعها وعالمها ومعطياتها كالآتي :
( لست ملاكا / يا شرنقة الحمى / بل / انا / امرأة / من / نااااااااااار )
ومثل هذا التقطيع للكلمات .. بل للكلمة الواحدة ، وجدناه في روايتها السابقة ( اشرعة الهراء ) مثلما وجدناه هنا في ( شرنقة الحمى ) .
ولا نجد في هذا التقطيع ملأً لنقاء الورقة ، ولا تقليداً لقصائد مترقة سبقتها ، بل هو ضرورة شعرية تمليها حاجة التعبير عن احساس داخلي ، وهدف طيب وانيق وجميل في ايصال المعنى والشعور به من قبل القارئ النابه الذي يحترم ارادة القراءة التي تبحث عنه متعة ذهنية راقية .. وهو ما حرصت الشاعرة على تقديمه في هذا العمل الشعري الذي يحمل معه عناية فائقة في اختيار كل مفردة لتكون في مكانها وزمانها وحضورها بين المفردات الاخر .
ان كلمة ( يحتضر ) عندما تكتبها الشاعرة خالدة خليل بهذه الصيغة : ( ي / ح / ت / ض / رررررز ) تجعلنا نتبين حرقة الاحتضار ومرارته وما يشكله من ثقل علينا وعلى من حولنا ..
من هنا نتبين ان الشاعرة ، تنشد قصائدها ، بهدف نقل احزانها ... حتى تلتحم وتنصهر هذه الاحزان بوجودها الذي نشترك فيه جميعا ، من دون ان نتقاطع مع سوانا من المهمومين والمثقلين بالحزن ..
تقول خالدة خليل : ( لا املك غير عيدان / كبريتها فاسد / ربما ابيعها عند ارصفة عجز / او اقايض بها حزنا بحزن )
هنا تأكيد لما ذهبنا اليه .. حيث لا ملك لعيدان ، ولا كبريت يشعل ، فيما الارصفة معدة للعجزة ، والحزن للمقايضة ..!
سواد يلاحق القصيدة ، ويلتم بها ، حتى يقاض حزنها .. بحزن مماثل او يتجاوزه .. لا ندري ، لكن الاحساس بقتامة الروح ، تأخذ بنا وتنشد الينا ، حتى لتنال من وجودنا ، وتحول هذا الوجود الى عدم ...
وتقول خالدة خليل في قصيدة لاحقة :
( يوما .. / سأحرق اوراق الصبر كلها / وانثر رمادها في فراغ الغياب ) .
وهذا اليوم قد لا يأتي ، ذلك ان الصبر معتق وطويل ، ومن الصعب التخلص منه والعيش في الغياب .. هذا الغياب الذي يلقي بظلاله علينا ، ويأخذ منا افراحنا ويحاصرنا بما لا نهدف ولا نريد ولا نحيا .. حتى لنجد انفسنا في ضائقة من امرنا .. حتى نتلاشى .
وتقول الشاعرة ايضا :
( اشرعة للمساء / تمخر امواج ذاكرتي / والى مملكة حزن اخرى / تاخذني وتبددني مثل رغوة / لأبحث عني في مدن الشرق / لم اجدني )
هكذا تحيا القصيدة بكامل ثقل الحزن الكامن فيها .. حتى تذوب ، حتى لا تجد ذاتها ..
انه تأكيد على دراما حزينة تنتاب قصائد خالدة خليل وهي تستل من احزانها قصائد مكثفة / معمقة / دالة .. وهو توظيف ايجابي للاحزان التي تتحول ابداعا وعناقيد مثمرة من حدائق الكلمات التي تصوغها في هذه النصوص المتميزة التي تجد صداها لدى المتلقي وتفتح امامه آفاقا محفوفة بالخطر ، ولكنها مفتوحة على آمال حية جديرة بالتأمل والانتباه ، ذلك ان خالدة خليل تعرف كيف تستثمر الاحزان وتعزف عليها باتجاه خلق عالم جديد مملوء بالافراح والمسرات :
( هل انا نيرونية / حين احرق احلامي العتيقة / هل اهذي / حين ابحث عن عشبتي الضائعة / بين نفايات عصر قاحل / يا شرنقة الحمى ؟ )
نعم .. لقد احرق نيرون روما .. ليبتهج بالنيران ! وحين تحرق الشاعرة احلامها القديمة ، باحثة عن عشبة كلكامش الضائعة في زمن القحط ، فانما تتخلص من شرنقة الحمى الماضية .. وصولا الى غد افضل .. الى عالم اكثر بهجة وعطاء ..
وبعد : خالدة خليل .. شاعرة عرفت كيف تنقذ نفسها من احزان كادت تطفي وجودها وحولها الى هذه القصائد الانسانية الصادقة .
** شرنقة الحمى / شعر : خالدة خليل / دار شمس – القاهرة 2008 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟