الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رافع الناصري ، مبدع العراق الباذخ ..

بشرى البستاني

2013 / 11 / 10
الادب والفن


**
حين دخلت مشغله آخر مرة قبل شهرين بعمان ، فاجأني شلال ضوء ازرق يتدفق ويملأ جو الصالة الفنية ببريق شعرية فادحة لم تستطع حرارة ترحيب صديقتي المبدعة مي مظفر أن تنتزعني من شعاع سحره الرصين ، إنه الأزرق رمز الحياة والجمال والسمو والعمق والانفتاح معا ، والذي كنت مصرة على اكتشاف منابعه الاولى دون سؤال يفتتح الجلسة ، ولذلك جلست أقرب ما أكون إلى اللوحة ، وزالت دهشتي حين قرأت الخط الفاتن الذي يزخرفها ... يا دجلة الخير ، إنها دجلة إذاً مرة أخرى وعاشرة وبعدد سنوات الخصب التي عاشتها رمال الضفتين وهو الجواهري شاعر العراق والعربية الكبير ، وبالأنامل الماسية لرافع الناصري الذي اشترك مع الشاعر بتشكيل دجلة شعرية جمالية بصرية جديدة .. ابتلعت دموعي بصعوبة وأنا أحاول الصمود أمام صدمتين في ضربة سحرية واحدة ، صدمة التشكيل وإيقاعه البصري المدهش وصدمة الشعر بتجلياته الخلاقة وإيقاعه المكثف بتفعيلات بحر البسيط الممتدة امتداد الأزرق سماءً وبحرا ورافدين ، ومتعَبٌ من يجتهد في الربط بين الفن والأدب ، وبين حداثة كليهما التي كانت سباقة في استعارتها جماليات الأساليب الغربية ريادة ، قبل التحديث الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومجمل مستويات المجتمع العربي الأخرى . تلك الحداثة التي نهضت بالتشكيل والشعر في وقت متقارب وأحدثت ثورة فنية عملت على التثوير والتجديد والتحديث ، وألهمت الفضاء النقدي بجدل وحوارات جادة عن الحداثة والأصالة والتراث وما نتج عن ذلك من من رؤى مهمة حول أهمية تحديد المفاهيم ليبدو الأمر جليا مما أدى إلى تجمعات فنية اجتهدت في التعبير عن طرائق اشتغالها وأهدافها منها ( جماعة الرؤية الجديدة ) التي كان رافع الناصري في طليعتها .

عودته للمتنبي وللخط العربي إشارة مهمة لوعيه بأهمية البؤر المتألقة في التراث من اجل تكثيف يصل اللحظة الحاضرة بما ظل ينبض ويشعُّ من ألق الماضي حتى لا تكون الحداثة مفهوما خاويا ما يلبث أن يتهاوى لأنه بلا جذور، ولأن إبداع الأمس الأصيل مازال حاضرا بيننا ممتدا في وعينا ومعبرا عن إشكاليات وجودنا ؛ لأنها إشكاليات الإنسان المصيرية عبر العصور كلها ، أما الكتابة العربية فكانت عودة لأصول كونية ووجودية معا ، الكتابة رمز كوني يحمل دلالة وجودية لأن الإنسان وجود لغوي فضلا عن كونه وجودا جماليا وقيميا ، والذات سيرورة لغوية ، وإذا كان جاك دريدا قد أعطى الكتابة كل الأهمية كونها جدلا بين الموت والحياة وحوارية مع المستقبل فإن دوسوسير قد أسس على الصوت الذي يحمل معنى الحضور خطابا ، لكن ما نلبث أن نواجه المفكرين الذين أكدوا أن الصوت لا يصدر عن فراغ ، بل هو قراءة المدون في فكر المتكلم . رافع الناصري يعود للأصول إذاً ، يعتز بكل ما من شأنه الحرص والحفاظ على الجهد الإنساني ، والكتابة وثيقة المبدع للمستقبل ، وأمانة لا يؤديها غير المخلصين بصدق واختيار.

اتفق مع مي مظفر في ان لحظة التجاوز الحاسمة في فن رافع كانت في نقلته النوعية بعد لشبونة الى التجريد ، فرافع ولد فنانا بوعي إبداعي تؤازره مثابرة دؤوبة برصانة متأملة باحثة عما يحرك قواها الإبداعية بقوة ، مثابرة ظلت مخلصة للفن وقضاياه ؛ ولذلك كان من الصعب على هذه الأصالة المرتكزة على أدوات معرفية وخبرات إنسانية معمقة ان تعتمد قفزات سريعة كون القفزة العاجلة لا تستوعب ولا تأخذ مداها الزمني لتستوعب وتتمثل ما عاشت ورأت وقرأت . فضلا عن كونها تحتاج لقناعات حقيقية بما يسوغ لها تحولاتها الفنية ، فالتحول لن يكون أصيلا إلا إذا كان صميميا بمعنى أنه ينبع من حاجة الفن نفسه حينما يرفض أن يكرر منجزه تكرارا لا وظيفيا ، وكانت المناهج في زمن دراسته بلشبونة والنظريات النقدية والفنية والمذاهب الادبية تتطور بسرعة لا معقولة ، والحضارة وادواتها المعاصرة وتقنياتها الهائلة تتقدم بشكل مذهل ، وصارت الدوال بؤر الاهتمام الحقيقية ، الدوال وحدها في الحضارة المعاصرة منطقة تقف بين الدهشة والمعنى ، والدال في لعبة التشكيلي رافع الناصري هي اللوحة ، واللوحة مستقرة بخطوطها والوانها ، بينما القراءة متحركة ، النص مدونة مستقرة لكن نظريات القراءة له بالمرصاد ، لا يمكن لقراءتين أن تتطابقا حتى لقارئ واحد للنص الواحد ، واللوحة عالم متكامل ، لكنه قابل للتفكيك والتحليل والتأويل ، ولوحات رافع سواء بألوانها المشرقة أو خطوطها الداكنة طاقة فنية هائلة معبرة عن حياة متداخلة اختلط فيها الحابل بالنابل والأخضر باليابس وانفجرت إيقاعاتها بحكم زمنيتها المتشظية والهائلة السرعة في التطور الخارق ، من هنا نجد لوحته تمنح جمالياتها للناظر ، لكن لا تعطي مفاتيحها إلا بيد الفاتح الماهر ، فإذا توفر لها الماهر ذو الأدوات المعرفية والخبرة الفنية والوعي بما وراء الخطوط والألوان انفتحت على القارئ دلالاتها ، حتى لو كانت تلك الدلالات جمالية حسب ، فالجمال قيمة تضمر في داخلها قيما كامنة .

رافع الناصري ، المبدع المتأني الرصين ، والشاعر الصامت الذي ظلت طاقاته الابداعية تموج في الداخل لتشكل باللون والحفر والخط والكولاج اجوبة لاسئلته الوجودية دون ان يبعثر موج طاقاته الكامنة ولا يبدد توتره الابداعي بما يطفئ سعير اللحظة على موائد الجدل غير المنتج والمحكوم بالزوال سريعا ...

رافع الناصري ، المبهر فنا ، والمثير إبداعا ، والرائع النبيل أخا وصديقا ، المفتون بالجمال لجمال روحه ، تحية إجلال لأناملك البارعة وموهبتك الفذة واعتزازا شاسعا بشعورك العالي بالمسؤولية تجاه الإنسان والوطن والتراث والجمال ومعضلات الحياة التي وجدت في التجريد خير مجال لتعبير عنها ، فالتجريد أن تقول كل شيء دون كثير قول ، ولوعيك التاريخي وحسك الحضاري يقف كل متذوقي الفن الأصيل تبجيلا ليظل اسمك البهي خالدا في مواكب الجمال والبهاء ليس في العراق أو الفن العربي حسب بل وفي العالم كله حيث يُقدَّر الفن ويفوح عبيره لأنه نبض المعارف وجوهر الحضارات الإنسانية الخالدة .

عمرا مديدا أيها العراقي المكلل بالسمو ، ومزيدا من العطاء على دروب الحرية وصون كرامة الجمال وبهاء مستقبل الإنسان ..


هامش ......

- ولد الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري عام 1940 . درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد 1956 ــ 1959. و في الأكاديمية المركزية في بكين، الصين 1959 ـ 1963 وتخصص في الغرافيك / الحفر على الخشب.
- و في عام 1963 ،أقام أول معرض لأعماله في هونغ كونغ.بعد عودته إلى بغداد، درّس في معهد الفنون الجميلة في بغداد. كان فنّه في هذه الفترة واقعيا ً تشخيصيا ً. سافر إلى البرتغال في 1967 ودرس الحفر على النحاس في " لشبونة " . وفي هذه الفترة اكتشف جماليات الحرف العربي وأدخلها في تكوينات تجريدية، كما اكتشف الأكرليك واستعمله بدلاً عن الألوان الزيتية.

- و بعد عودته إلى بغداد في 1969، أسس جماعة " الرؤية الجديدة " مع عدد من الفنانين العراقيين، وشارك في تأسيس تجمّع " البعد الواحد " مع شاكر حسن آل سعيد.
- أسس عام 1974 فرع الغرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد ، وتولى رئاسته حتى عام 1989، الذي تفرغ فيه لعمله الفني بعد أن أنشأ " المحترف".

- ترك بغداد في عام 1991، ودرّس في جامعة إربد في الأردن . وساهم في 1993 بتأسيس محترف الغرافيك في دارة الفنون في عمّان ، وأشرف عليه لبضع سنوات. و في 1997 درّس في جامعة البحرين وأصبح مديرا ً لمركز البحرين للفنون الجميلة والتراث. وأقام في المنامة عام 1999 معرضه المهم " عشر سنوات... ثلاثة أمكنة ".

- أقام الناصري عددا ً كبيراً من المعارض الشخصية. وشارك في معارض عربية مشتركة في بغداد و بيروت و دمشق و الدّار البيضاء و المنامة و عمّان ...كما شارك في كثير من المعارض العالمية في برلين و لشبونة و لندن و باريس و نيو دلهي و فردريك شتاد و وارشو و سيئول و ساو باولو و جنيف و نورث تكساس .

- شـارك في لجان تـحـكـيم عالمية وحصل على جوائز عالمية في سالزبورغ ، النمسا ، و في كـانيه سور مير ، فرنسا، و في فردريك شتاد ، النرويج ، و في برلين ، ألمانيا.
- نشر رافع الناصري عددا ً من المحفظات الفنية {بورتفوليو}: تحولات الأفق 1980 ، ما بعد الأفق 1982 ، الخماسية الشرقية 1989 ، تحية إلى بغداد 1989 ، الخماسية الشرقية 2 1994 ، تحية إلى المتنبّي 2006 ، من تلك الأرض النائية 2007 ، مكتبة أضرمت بها النار 2007 .

- أصدر مجموعة كتب منها : " فن الغرافيك المعاصر" ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977 ،
ـ " آفاق ومرايا ـ مقالات في الفن المعاصر" ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر2005. واحتلت أعماله الصدارة في كثير من المتاحف العربية والعالمية.
- يستعد الآن لحضور افتتاح معرضه التاريخي في عمان يوم الاثنين القادم الذي يستعرض فيه نماذج من أعماله على مدى خمسين عاما من العمل المثابر مع الخط واللون والخشب والقماش والفرشاة الطيعة في أنامل فنان ماهر أخلص للفن ومنحه الحب وعنفوان الحياة فكافأه الفن حبا بحب ، ومنحه أهل الفن ومتذوقوه كل الاعجاب والتقدير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال