الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تماهيات الأدب في لغة السياسة

سعاد جبر

2005 / 6 / 4
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات



قراءة نقدية في نص ( إياك... ثم ... إياك ) للكاتب نضال نعيسه
تدور تساؤلات حائرة حول لغة السياسة في المقالات النقدية والأدب في لوحاته المشفرة التي تعكس الواقع برمته ، والسياسة خط ما من هذا الواقع المكفهر ، والسؤال المطروح هنا ، هل هناك التقاء بينهما في خط واحد ؟ ضمن معطيات مرحلة ما بعد الحداثة في النص الأدبي وانفتاح الأجناس الأدبية على بعضها ، وعدم تحدد نمطية ثابتة للأجناس الأدبية على مختلف أنواعها ، بحيث تتيح تلك الحالة الالتحامية بين الأدب في أجناسه المتنوعة والسياسة في خط السرد النقدي ، فيغدو خطا ما في اللوحة الفسيفسائية المتناثرة للأدب في خطوطها المتعرجة المتنوعة ، فيغدو الأدب وجها للسياسة والسياسة وجها للأدب ، وهل يمكن لتلك الثنائية في الإطلالة مع مرحلة ما بعد الحداثة من كسر ثلاثية المحرمات ( الدين ، الجنس ، السياسة ، عبر رحلة التاريخ ، وهنا يدور حديثي حول السياسة على وجه التحديد مع تحفظاتي بشأن الدين والجنس ، لأن بؤرة التداول النقدي هنا يتركز حول خط السياسة من تلك الثلاثية ، ولا يخفى أهمية إحالة مفردة السياسة من الضبابية إلى بعد اشراقات النص ، في نقد ثقافة الصمت وحرمات الشعوب وكبت الحريات ، فيلتقي النص الأدبي مع الرؤية السياسية النقدية في كينونة واحدة ، تعكس لغة المثقف الناقد الحر الذي لاتقيده الحدود ، ويسيح في الكون ورحلة التغيير نورسا يقاوم الحواجز الأثيرية ومعتقلات اسر الكلمة ، ليعلن حريته حرا في كافة تجليات انشطارات الكلمة على مسرح الواقع ، في لغة التغيير وأبجديات الخطاب في نسقها الحداثي المنفتح على المشهد الأدبي السياسي .
وهنا تتشكل تماهيات الأدب والسياسة وماهية المثقف بين ذلك كله ، وزخم حراك رؤاه النقدية على مسرح الأحداث ولغة اسقاطاتها اللاشعورية ، ويطرح ذلك تساؤلات بشأن قدرة تلك الألتحامات الأدبية السياسية من تجاوز فلسفة المسافة ، لأن تلك الفلسفة تجعل الكاتب فوق هموم ولغة القارئ ، مما يحيل القارئ إلى متلقٍ مستسلم للنص ، ضمن مساحات الفجوة بينه وبين الكاتب في لغة النص ، ويغدو النص ترفاً لا يلامس هموم القارئ وتداعيات واقعه ، بحيث يغدو صدى لتداعيات المثاليات التلقينية الجامدة من جديد في كافة أبعاد السياسة ، التربية ، الأدب وغيرها من الأبعاد ، التي تدور في ثنائية محتكر للمعرفة ومتلق جامد ساكن ملقن ، في ظل فجوة تتسع دوما بينهما ، وتنقطع من خلالها أطراف تفاعل الاتصال الواعي الثقافي بينهما ، مما يجعل القارئ يرتد خانعا لمساحات الخضوع والقبول لخطاب الكاتب على قاعدة اللاتكافؤ في الخطاب ، وتأزم فلسفة المسافة بينهما .
وما سبق ذكره يؤكد أهمية ذلك التماهي بين السياسة والأدب في تجسيرخط الالتحام لهذه الفجوات ، وتجاوز فلسفة المسافة ، وإحداث تكافؤ واعي بين الكاتب والقارئ ، الذي يلامس آهاته وجروح تفاحته الحمراء الأسيرة ، وزخم حراكه نحو لذة الحرية ، وتلك التماهيات تعد قاعدة للثقافة الحرة التي تتجاوز الحدود ، وتكسر القيود ، وتسيح بحاثة عن الحقيقة الموضوعية في ظل رؤى نقدية تعبيرية للواقع ، تلتحم فيها السياسة مع الأدب في جنس نقدي مفتوح يكسر حرفية التقسيمات في لغة الثقافة وتنظيرات الأدب وجمود التقعيد في السياسة والأدب ، ليغدو صوتا للحقيقة ومنبرا للحرية وكسرا للمنوعات في خط السياسة ، في ظل تجاوز خط فلسفة المسافة بين الكاتب والقارئ ، وفي ظل خطوط التحام النص بين السياسة والأدب .
ويشكل نص ( إياك ..ثم ...إياك ) صورة تطبيقية واقعية للإطار النظري السابق ذكره ، في التحامات السياسة في خطوط رؤاها النقدية مع الأدب في ظل أجناسه المفتوحة ، في لغة السرد ، حيث يتناول النص مقاطع نقدية للواقع برمته في ظل خطوطه السياسة ، واسقاطات اللاشعور المنسكبة فيه ، في استلاب الأنا الناطقة ، وظلال لغة كبت الحريات ، حيث تؤول لغة السرد في نقدها السياسي إلى نقطة رمادية في الواقع ومفادها ؛ حرمان الذوات من الشعور بالسلام والأمان في ظل واقع مدلهم مكفهر أحادي صارم
" على شفير الهاويات السحيقات ، والداهيات الغائرات ، والنازلات الدانيات، وفي خضم هذه العواصف والأمواج الهائجات المتلاطمات العاتيات ، وفي غمرة هذا الأوار المحتدم ، والبركان المنفجر ، والجحيم المستعر، وهذه النيران المتقدة، والألسنة ، والأدخنة والأبخرة والشرر الذي يتطاير من كل مكان ، وفي غابة السكاكين والمدى والخناجر والرماح المشرعات، ومع زعيق ، وصراخ ، وزئير وجعير الناعقين الكبار، ومع حشرجات النزع الأخيروصعود الأرواح ، إياك أن تشعر ولو للحظة واحدة بأنك في سلام وأمان. "
وتبرز لغة الموت التي تواجه المرء حتما في ظل واقع رمادي جالس على حافة الفناء الأخير دمارا وعذابات
"
وبعيد عن لظى النيران، ولو كنت مليارديرا ، أو "مهيب أركان" بملايين الأوسمة والنياشين، وجبروت الصولجان ، أو امبراطور الزمان، أو فقيرا معدما ومديونيرا مزمنا ، أو عابر سبيل على الطرقات في هذه الجغرافيات المفخخات والمليئة بالألغام و المطبات والعبوات الناسفات، فأنت على كف عفريت، والكل سواسية في سيرك الموت والهلاك وحقول التفخيخ والمخاطر والألغام، وكل الويلات والمصائب والأهوال تنتظرك ولك معها، يوما، ميعاد. "
وفي ظل اختناقات لغة الحرية ووأدها في اودية الحياة السحيقة استبدادا وتسلطا ، تتواكب لغة السرد بالأتي :
فأياك أن تسير في الطرقات، وتخرق حظر التجول وأحكام الطوارئ ، والإغلاق فالعسس، والعسكر والجلادون، والجندرما، والجلاوزة، والثكنات، والبنادق، والحراب تتمترس في الشوارع والزواريب والحارات.
وفي مساحات لغة تراكمات الجمود الفكري وامتناع دماء الحرية من اختراق جسد الذاكرة في لغة الخطاب والتعبير، تبرز لغة الخطاب السياسي الأدبي في مسارات سخرية لاذعة متهكمة ؛ تتواكب لغة الأنسحاق الأخير لتبلغ الأحلام وانقلاب انتشاءات الطموح إلى رحلة الفناء الأخير حيث وأد الأحلام قبل ميلادها في ظل واقع رمادي مكفهر ، يحمل خنجره الموقوت موتا في كل لحظة :
" إياك أن تصبح رجل أعمال ناجحا، وعاشقا للأوطان، ومحبا للفقراء، وتحمل لهم الملايين، والمشاريع، والدولارات ، والأحلام فأطنان الديناميت تنتظرك في الشوارع، وتحولك لأشلاء، ويهرس لحمك ونخاعك ويستقر على الجدران، ولن يتعرف عندها عليك والداك ، ولا تقنية الحامض النووي بعد أن تتحول لرماد، وتدفن باسم آخر مستعار. "
ويكشف النص برؤاه النقدية ماهية ساخرة للواقع الإعلامي برمته ، في ظل المتناقضات ، وسلبية رسائل تحطيم الذوات ، وسذاجة المقال الذي يحملها للقارئ في كل مكان ، وفشل رسالته في الوجود قبل تخلقها في لغة المقال ، لدواعي الترهل والفساد الذي يئن فيه ، وانعكاسات الواقع المتردي الهش عليه :

إياك أن تتفرج على فضائيات الاستهبال ، وتتابع، فصول القتل ومشاهد الانفجارات والأهوال، والجثث المتفحمة ،ونوافيرالدماء ، وبكاء الأطفال، وتصريحات الجهابذة وأساطين الإعلام، وبياعي الكلام ، فستصاب بالجلطة وارتفاع ضغط الدم ، هذا إن بقي لديك دماء لم تسفح على اسفلت العربان.
وتتسع مساحات النص في رؤاه النقدية لتبلغ فسحة بوح المشاعر واتقادها في آتون القلوب ابتسامة واستبشارا ومصافحة ، لأن هناك منصات إنزال الأحكام الفورية الألغائية للوجود في الوجود ، وفي مقدمتها حق الحرية والتعددية السياسية في المجتمع ، ويؤكد النص هنا على متناقضات آليات الفهم لدى السلطة ، إذ تفهم لغات عشق الوطن بشتى أطيافها في الحرية ومنصة الديمقراطية ، محض خيانة تستحق الفناء في العذابات :
" إياك أن تحب ، وتفتح قلبك للحياة ، وتعشق الخير! ، وتبتسم ، وتتفاءل، وتكتب القصائد والأشعار ، وتمد يدك للمصافحات ...... إياك أن تنتسب للأحزاب، والجمعيات ، وتتحلى بالإنسانية، وتدعو للتجمع والوئام، وتحضر الأعراس والأفراح وتجاهر بحب وطنك أمام الخصيان، والزبانية وجلساء السلطان ، فستفتح لك الأقبية والظلمات، ويستقبلك السفاحون والقتلة القساة، وتُنسى مع الجرذان والصراصير. والفئران، وتحسب مع الأموات "
ويؤكد النص على سياسة الكبت وتجهيل الشعوب حتى لا تطالب بأبجديات حقوقها الإنسانية ، وترضي بالذل والهوان في ظل أزقة واقع مستبد ، تتحرك فيه لغة العصا لالغة الحضارات
" إياك أن تتعلم شيئا ، وتفتح عينك ، وتلتفت إلى أي من الاتجاهات، فالمخطط لك وقدرك أن تبقى مع القطيع السائر إلى المجاهيل والأدغال ، حيث يعيش الوحوش والذئاب والحيتان، ويحل الظلام، وحين ترفع رأسك فالحجاج صاح.- والحمد لله- لا ينام "
ويعبر السرد أزقته المتقاطعة ليعلن حالة تواصل بين السلطة ومشتقات لغة الظلام في كبت الشعوب المضطهدة وممارسة الاستبداد عليها ، لأن ذلك هو القدر الحتمي الواجب تأطيرها فيه ؛ في ظل كهفية الصمت ، وعشق الاستبداد ظلاما لا يعقبه نهار :

إياك أن تفتح فمك ، أو تحرك لسانك ، أو تنبس ببنت شفا أو تشنف آذانك للقيل والقال، وتغتاب القديسين الطهراء،أو تصحو لوهلة عابرة من هذا السبات، والشلل، وهذا المنام
إياك أن تشعل شمعة وتلعن الظلام كما أوصى الفلاسفة والحكماء، فالكل عاشق للظلمة والعتمة والإغلاق ، ويحبون الليل ويرتدون لباس الحداد.
وتتداخل في النص لغة المفارقات بين حق الوجود في البناء والأمل الذي تهده معاول الدمار كل آن ، ومسرح اختيال رحلة الجهل في أثواب خادعة تدعي الحضارة بلا توان :

" إياك أن تبني شيئا ، وتضع حجرة فوق حجرة، ولبنة فوق لبنة، وتدعو للخير والازدهار، فكل شيء آيل للسقوط ، ....إياك أن تزرع الأشجار والورود ، والزنبق، والفل ، والسوسن ، والياسمين ، وتتغزل بشقائق النعمان، فكله سيتعرض للذبول ، ولليباس في بيادر القحط والخواء، والمد الصحراوي الأصفر يجتاح الآفاق، والتصحر قادم لا محال....إياك أن تعتقد أنك في الألفية الثالثة وغادرت عصر حقب الديناصورات والجاهلية السوداء، وأن عصر اليانكي في غيبوبة وغافل عن الأنام."
ويسدل النص ستاره حول لغة الممنوعات واسترتها على صفحات الواقع ، في الانكشاف ، فالأصل هو الاحتجاب ومنع الحقيقة ، وحصرها في منافذ القوة الطاغية ، واستبداد السلطة في لغة إصدار الأحكام والقرارات

" وأخيرا إياك أن تقرا هذا المقال، أوزيارة أي من المواقع الممنوعة ، وبؤرالنور والإشعاع المحجوبات ....ولا تقرأ سوى الجرائد الرسمية التي تتغزل بسجايا ، وخصائل، وكرامات وأخبارالدوتشي والفوهرر، والماريشالات، وأباطرة الطغيان، وإلا فستجرجرك دوريات المخابرات إلى الأقبية والزنازين الجرداء، وتتعرض للشرشحة، والمرمطة ، والبهدلة، والسؤال والجواب، وتصبح عندها من المغضوبين الأشقياء.وأعذر من أنذر ياشباب."

ولايسعني في نهاية مطاف تلك المقاربة النقدية بين الأدب والسياسة إلا أن أزجى كل تحايا الإبداع والتقدير للمبدع الألق : نضال نعيسة ، ودام إبداعه نورسا حرا في أصالة الكلمة ولحن الحرية في ظل ثقافة الصمت التي تئن في مجتمعاتنا استبداداً وعذابات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير