الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من حيفا أستمد حروفي

سميح مسعود

2013 / 11 / 14
الادب والفن


كتابة النقطة الأولى في أول السطر ترهقني فكيف الحال بالكلمة الأولى ...إنها الأصعب لأنها تفتح الباب لكلمات أخرى تتقافز بين السطور ، أحني قلمي لها ليكتبها كلمة تلو أخرى، وأعترف أن أجمل الكلمات أستلها من مسقط رأسي حيفا .. كلمات موشجة بأصداء ايام طفولتي االباكرة ، أعيد فيها إحياء صور متشابكة لحيفا تعي ذاكرتي كثيراً منها ، تتدفق من تراكم السنين بتتابع مستمر حولي ، أدير بصري فيها بفرح زائد ، وأشعر أنها جزءا مني ، تشكل حياة حقيقية سابقة لا تنفصل عني .

أعود دوماً إلى تلك الصور ، أواصل التأمل في كل ما فيها بشوق ولهفة ، تستحوذ علي وتشدني واستحضر من تراكيبها حيفا على اتساعها كما كانت في أيام بعيدة أخرى ، أجدها في مكانها الجميل تعانق أمواج البحر ، تترامى على امتداد شاطئها كايقونة تسلب الألباب ، أستنشق منها شيئاً من أيامي الماضية ، أراها في عيني أشد امتلاء وصفاء وأكثر قربا ً... أطأ أرضها في صمت ، أطوف فيها بخطوات هادئة من أقصاها إلى أقصاها ، أتنقل بشغف كبير في كل أحيائها وأزقتها وافنيتها وشوارعها وأسواقها وضواحيها ومقاهيها وبيوتها وكل ما كان فيها، أشكلها بمرايا زمن مضى كما كانت من قبل تعج بصور مشاهد وأحداث كثيرة ، تتماوج بألوان براقة تأسرالرائي بجمالها ، أطيل النظر إليها وأستمد منها ظلال حروفي .

مشاهد كثيرة من حيفا تشدني ، تلوح أمامي بأضواء متوهجة ، أنثرها على أوراقي ، أسطرها بحروفي الصغيرة ، أكتبها في نظرة استرجاعية حرفاً حرفاً ، أتابع الكتابة دون توقف بمداد يخصني وحدي ، وفي لحظة أوقف قلمي وأجمع حروفي في صفحات موشومة بصور تجسد حيفا بعلياء عرشها ، بما فيها من أشجار على سفوح الكرمل العالية ، وما فيها من دروب مثقلة بالندى ، وامواج تتمطى في أحضان البحر ، وبيوت تتناثر في كل الجهات ، تعلو اغلبها شرفات مطلة على فيض مناظر ساحرة ، وتحيط بها حدائق منزلية غناء منسقة بطريقة جميلة مزروعة بأجمل الورود ... أنواع كثيرة من الورود تعرش على اسوارها وممراتها ومداخلها ، يحمل منها النسيم العابر رائحة الفل والياسمين ... رائحة زكية يملأ شذاها الأرجاء مع ميلاد صبح جديد .

تردُ على ذاكرتي دوماً بيوت حيفا ، أراها كما كانت من قبل ، اغدو وأروح حولها ... أدور ببصري يسرة ويمنة في كل جوانبها ، أتنقل فيها من بيت إلى بيت بين أحياء حيفا الممتدة من أسفلها على مقربة من الشاطئ حتى قمة جبل الكرمل وانعطافات سفوحه ببساتينها المدهشة ، أقف عند بيوت مغلقة متشحة بغلائل من الظلام ، يعيش أهلها في منافي الشتات ، أجبروا على تركها يوم سقوط حيفا ... بيوت كثيرة مليئة بصورأهلها ، معلقة على امتداد خطوط سوداء مشدودة على الجدران ، تلفها همساتهم و صدى أصواتهم وأسرارهم وأطلال ماضيهم وحكاياهم التي لا يزال وقعها في الآذان... بيوت كثيرة طواها الزمن البعيد تترامى في أحضان حيفا ، تستحوذ علي وتشدني ، أحس بغصة في حلقي كل ما أعيد استحضارها .

تثير تلك البيوت في داخلي قدراً كبيراً من الأحزان ، تثير مشاعري، وأطفأ أحزاني بالطواف حولها في البلد التحتا وحارة الكنائس، ووادي الصليب ووادي روشميا و الحليصا ووادي النسناس وحي الزيتون ووادي الجمال وغيرها من الأحياء العربية الأخرى .
واسترجع من أيام حيفا كل مشاهد حياتي الماضية ، أتنقل فيها من مشهد إلى أخر ، أنظر بتمتع عميق صامت لها ،أعيد فيها تكوين وجوه أناس عرفتهم أيام سنواتي الأولى ، مشدود الأجفان أنظر اليهم ، أراهم في لحظة خاطفة على شاطئ البحر كما تعودت أن أراهم من قبل ، أقترب منهم وتلتقي أنظارنا ، أستنشق معهم نفس الهواء ، أتابع حركاتهم ويتناهى إلى سمعي صدى أصواتهم ، تصل مقاطع أحاديثهم وحتى همساتهم إلى أذني بموجات متواصلة ، تغور في داخلى ، تشق طريقها بهدوء حتى الأعماق ، وتبعث في نفسي حياة أخرى عشتها في زمن مضى .

استعيد بحنان ذكرياتي مع أمي ، تحتل حيزاً كبيراً من ذاكرتي ، أذكر نزهات معها في ايام طفولتي الباكرة ، تلك التي كنت أقوم بها برفقتها في أماكن خلابة تعلو فوق سفوح الكرمل ، مزدانة باشجار الصنوبر والخروب والبطم والبيلسان والزعرور واللوز البري والبلوط والقيقب واالزيتون البري والتفاح والعرعر والتوت البري والزان والبلوط وانواع أخرى غيرها من الأشجار دائمة الإخضرار .

كنت أقف دوماً تحت ظلال تلك الأشجار في أعلى الكرمل ، أنظر حولي في كل الجهات ، أرى من الجهة الشمالية كافة أنحاء الجليل الغربي حتى رأس الناقورة على الحدود اللبنانية ، وأرى من الجهة الشمالية الشرقية قمة جبل الشيخ مكسوة بالثلوج، ومن أعلى الجبل أرى أمواج البحر وهي تلهو برقصة أبدية على شاطئ حيفا ، وأرى في الجهة الغربية أودية تمتد من أعلى قمة جبل الكرمل ، باتجاه الغرب نحو البحر في مقدمتها وادي السياح ووادي عميق ووادي لوطم ، تشكل معاً ممرات مائية تندفع في مجراها وسط طبيعة برية ساحرة يجذب أحدها الأخر كأنها مترابطة في أعماق ممر واحد .

كانت تلك النزهات كثيرة العدد في فصل الربيع ، يتراءى لي الأن الطريق التي كنت أسير فيها مع أمي ، كانت تمتد آخذة في الصعود من شارع الناصرة إلى أعالي جبل الكرمل ، طريق متموجة تترامى على جانبيها ممرات كثيرة متوازية تخترق مساحات واسعة من الأشجار ... كان وقتها كل شيء ندياً وجميلاً... كل شيء يبهر البصر ... الارض المغطاة بالاعشاب الخضراء وأوراق أغصان الأشجار والأزهار المصبوغة بمزيج من ألألوان العذبة ... لوحة جميلة جذابة خلقتها الطبيعة على مدى النظر ، زادتها جمالاً زقزقة العصافير والبلابل بإيقاع متواصل لا يعرف الإنتهاء .

كنت أزداد تعلقاً بتلك اللوحة في لحظات المساء ، عندما تذكرني أمي بموعدالعودة الى بيتنا في حيفا التحتا ، سرعان ما كنت أستجيب لطلبها ، أمشي معها و أصغي إلى حفيف الأشجار ، وتأخذني الدهشة وأنا أشاهد مشهد الشمس عند المغيب ، وهي تجر أشعتها الأرجوانية نحو الغرب ، والليل يهبط ببطء ، يرخي سدوله فوق كل شيء .

هاهي إحدى الذكريات العذبة ترد إلى خاطري ، تعود لي مع نفحات من الطفولة ، أستعيد بها مع خفقات قلبي المتسارعة ، مباهج نزهة قمت بها مع أمي وصديقاتها من الجارات برفقة أولادهن من أبناء جيلي ، صعدنا معاً في صباح يوم صيفي إلى قمة جبل الكرمل ، كان النسيم عليلاً وأريج الأشجار يفوح وسط سكون ذلك الصباح الصيفي ، كانت وجهتنا سفح جبل الكرمل قبالة البحرعند مدخل حيفا الجنوبي ، لزيارة مقام الخضر الذي يحظى بقداسة خاصة في فلسطين ، يسمى " مار إلياس " عند المسيحيين ، " وإليا " عند اليهود ، وكنيته " أبو العباس " عند المسلمين و " أبو ابراهيم " عند الدروز ، يُحتفل به منذ القدم ، وله مقامات في أماكن كثيرة فلسطينية غير حيفا .

بعد زيارة مقام الخضر اتجه الجميع نحو دير " مار إلياس " على مقربة من دالية الكرمل في موقع " ستيلا مارس " المشرف على البحر الأبيض المتوسط ، للمشاركة باحتفال عيد " مار إلياس " الذي يتم فيه التبرك والتيمن بالنبي مار إلياس حسب التقليد المسيحي ، بحضور أعداد كبيرة من الناس من داخل وخارج حيفا ، وسواح من خارج فلسطين ، كانت تمتلئ بهم باحة الدير ، وتُسمع أصوات لهمساتهم باللغة العربية ، ولغات أخرى غيرها ، تزداد ارتفاعاً مع بدء حفلات وموائد الغداء ورقص الدبكة بعد القداس .

لاحظت وجود مجموعة كبيرة من المسلمبن يجلسون على مقربة من جمع المصلين ، وحدتهم حيفا ، وأكدت على وحدة مصير شعبها المسيحي والمسلم معا ً، هذا يتناقض مع كل ما يجري في هذا الزمن الحالي الذي نعيشه في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حيث يكثر تكفيرالأخر والتعالي عليه ، وتعزيز هذه الأباطيل بفتاوى مضللة لا تتفق مع صحيح الدين ، ولا الحس الوطني مع أخوة يتقاسمون معاً الأرض والتراب .


***

مرارة الغربة تُرجعني دوماً إلى أيام مضت في مسقط رأسي لا يطويها النسيان ، أسترجعُ من خباياها كل مشاهد حياتي الماضية ، أستعيدها بمتعة كبيرة ، تتجسد امام ناظري ، اتنقل فيها من مشهد إلى أخر ، أتحسس فيها وميض ضوء أراه يحبو على أمواج بحر حيفا ينفضُ عن كاهلي عبء السنين ، يُعيدني ثانية إلى حيفا عبر حروف أكتبها نثراً وشعراً ، أمد بها خيطاً من التواصل مع أيام مزهرة عشتها مع اهلي في أيام صباي ، تفاصيل صُورها في أرجاء مشاهد كثيرة لا تزال باقية في نفسي حتى الأن ... لن تختفي ، ستبقى دائما جوهراً ثابتاً للروح حتى آخر لحظة في الحياة .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي


.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-




.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر


.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب




.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند