الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيحيون وربيع العرب

عفيف رحمة
باحث

2013 / 11 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


نظم مركز القدس للدراسات السياسية بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور، ورشة عمل إقليمية استعرض المشاركون فيها الدور النهضوي للمسيحيين العرب، وضع المسيحيين في الدساتير والتشريعات العربية، المسيحيين في خطاب الحركات الإسلامية، ودور المسيحيين في الربيع العربي.
لم تكن هذه المواضيع التي تناولها المشاركون إلا تعبيراً عن وجود قضية إشكالية ذات بعد تاريخي، تتعلق بواقع مسيحيي المشرق العربي بشكل خاص ومسيحيي العالم العربي بشكل عام.
في إطار هذا الواقع وضمن الظروف السياسية التي يتعرض لها المشرق العربي يندفع البعض للسؤال فيما إذا كان "مسيحييو المشرق العربي في الأحداث الجارية شركاء في التغيير أم حلفاء للأنظمة القائمة".
إن ما تناولته ورشة العمل من قضايا لم تكن سوى مقدمات مشروعة لتحليل واقع مسيحيي المشرق العربي وتعريف موقفهم من أحداث الربيع العربي وتوصيف شكل مساهمتهم في معالجة هذه القضية الوطنية.
أما ما طرح في ورشة العمل من أسئلة فلم تكن إلا أجوبة بحد ذاتها، فلماذا تحول وضع المسيحيين في الدساتير والتشريعات العربية إلى قضية، ولماذا أصبحت المسيحية في البلدان العربية قضية تتداولها الأنظمة والمجتمعات العربية؟
كيف تفهم القضية المسيحية تاريخياً، وكيف تستثمر سياسياً، ولماذا تستخدم المسيحية كمادة خصبة في خطاب الحركات الإسلامية؟ هل حقيقة يعيش المسيحيون في حالة صراع من أجل الوجود، ولماذا تحولت المسيحية إلى قضية في بقعة جغرافية كانت الشاهد التاريخي على ولادتها؟ اسئلة تحتاج لمنهجية علمية في مناقشتها والإجابة عليها إنطلاقاً من الحقائق المادية والوقائع التاريخية.
ما يغفل عنه المؤرخون والسياسيون عند تناولهم قضية مسيحيي المشرق العربي عدم محاولتهم تشكيل كيانهم الوطني المستقل، وعدم سعيهم لممارسة السلطة السياسية من منظور مسيحي منذ حملهم مسيحيتهم.
لقد كانت بلاد الشام محط نزاع عسكري طويل بين الامبرطورية الفارسية وإمبرطورية روما حتى دخول المسلمين وتأسيسهم لدولة الخلافة الأموية، ورغم إنتشار القبائل العربية المسيحية في هذه الرقعة الجغرافية إلا أنهم لم يحاولوا إستغلال هذا الصراع لتأسيس دولتهم الخاصة، أو تكوين سلطتهم الذاتية كمشروع لتأسيس كيانهم السياسي الإجتماعي المستقل.
هذا الموقف نابع من جوهر عقيدتهم المسيحية ومشروعها الأخلاقي، فالرسالة المسيحية لم تعتبر إمتلاك السلطة أو بناء دولة أو أمة وسيلة لوصول الإنسان إلى حريته.
مقولة السيد المسيح (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) لا تشرح موقف المسيحية من السلطة ودنيويتها فحسب بل تؤسس بشكل مبكر لعلمانية الدولة؛ بولس الرسول يوضح هذه الرؤية في رسالته إلى أهل رومية ( 1:13 لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، 2:13 حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً).
وإذا كانت السلطة والسلطان في الدنيا هو ترتيب من الله، حسب بولس الرسول، فما هي الرؤية المسيحية لمعنى الوجود المسيحي دون سلطة، وكيف للمسيحي أن يعبر عن هذا الوجود وضمن اي أفق؟ تتجلى الإجابة على هذا السؤال بما ورد في إنجيل يوحنا حين يسأل بيلاطس المسيح (18:33 أنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟) ليأتي جواب المسيح (يوحنا 36:18 مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا اسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا).
مملكة المسيح في السماوات وخلاص الإنسان ليس على الأرض وإنما في ملكوت الله (متى 3:5 طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ)،(لوقا 1:8 كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ) و (مرقص 23:10 مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!)، (مرقص 25:10 مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ).
هذه هي الفلسفة المسيحية التي ترسخت في وعي المسيحي المشرقي، وهي التي دفعته للتأقل والتكيف مع كل أشكال الأنظمة السياسية التي عاش ويعيش في ظلها، لأن السلطان من الله، السلطان الذي قبل به المسيحييون المشرقييون في شكل الدولة الأموية كما قبلوها سابقاً خلال سنوات حكم فارس وبيزنطا.
تاريخياً ومنذ ظهور الدولة في الإسلام كبنية سياسية إجتماعية وإقتصادية لم يتوانى مسيحيو المشرق العربي عن تدعيم أركان هذه الدولة، وقد عُرف في مختلف المنظومات السياسية التي حكمت بإسم الإسلام (الأمويين، العباسيين، الفاطميين، المماليك....دولة وخلافة) رجالاً عملوا في الدائرة الضيقة للسلطة الحاكمة وتبوؤوا مناصب مركزية من وزراء وكتبة ورؤساء دواوين وولاة وحكام وقادة عسكريين وأطباء بلاط ومهندسين ....
هذا العدد الكبير من الشخصيات المسيحية المشرقية وهذه القدرة والمعرفة التي استخدموها في إدارة الدولة كانت كافية لأن يؤسسوا لأنفسهم دولتهم المستقلة قبل الإسلام لكنهم لم يفعلوا! فكيف كان محتملاً أن يكون موقعهم السياسي فيما لو فكروا بتجاوز الحاجز العقائدي في فهمهم للسلطة، وكيف كان من المحتمل أن تكون البنية السياسية الإجتماعية لمنطقة المشرق العربي فيما لو فكر المسيحييو أن ينتقلوا من بنية القبيلة كمكون إجتماعي سياسي إلى الدولة كتطور لهذا المكون، وماذا لو فكروا أن يأخذوا السلطة من روما ليؤسسوا دولتهم المسيحية الشرق أوسطية المستقلة.
هل كان من المحتمل أن تشكل هذه الدولة عائقاً سياسياً وعسكرياً يحدّ من طموحات الخلافة الراشدية في التوسع ببلاد الشام، وهل كانت ستشكل سداً في وجه إنتشار الإسلام شمالاً وشرقاً وغرباً؟ لقد بات من المحتم مراجعة هذه الحقائق لمن يسعى لبناء الدولة المدنية الحديثة بذات القدر الذي يحتاجه دعاة إعادة تأسيس دولة الإسلام.
لكن ما صحة الشبهة المنسوبة لمسيحيي المشرق العربي القائلة بإرتباطهم بدول الغرب السياسي؟ وهل صحيح أن علاقة مسيحيي المشرق العربي بالغرب هي علاقة ولاء تتجاوز إرتباطهم بأوطانهم؟
كان الغرب ولا زال بالنسبة لمسيحيي المشرق العربي رمزاً للإستعمار والهيمنة، وهم يفهمون النزاع بين الشرق والغرب على أنه صراع وجود وصراع مصالح، وفي إطار هذه البداهة السياسية ساهم مسيحييو المشرق العربي في النهضة العربية ومشروع التحرر الوطني.
خلال عقود العصر الحديث لبلاد الشام عزمت التيارات والحركات الإسلامية على توظف الصراع بين العروبة والدول الغربية وكأنه صراع حول العقيدة، أي صراع بين المسيحية والإسلام؛ منهج دفعها لتحويل مسيحيي المشرق العربي إلى كبش فداء يضحون به لتسويق مشروعهم الفكري السياسي وتبرير منهجهم الإقصائي.
عُرف مسيحييو المشرق العربي بدورهم المتميز في صناعة تاريخ بلادهم الحديث، حيث كانوا طلائع حركة التحرر الوطني ورواد النهضة العربية وصناع الفكر القومي العربي، وعلى ايديهم دخلت الحداثة والتقانة والطباعة والترجمة كحامل للتفاعل المعرفي مع الثقافات الإنسانية الأخرى.
لقد كانت الحداثة والعلمانية والإنفتاح على العلوم الطبيعية والمعارف الجديدة المفاتيح الأساسية التي ربطت مسيحي المشرقي العربي بالغرب وبقيمه السياسية، الحرية والعدالة الإجتماعية والديمقراطية...، لكن هذا المسيحي لم يتمنع يوماً عن توجيه بوصلته نحو الشرق الأقصى نحو الصين واليابان الحاملة للنهضة الصناعية والعلمية الحديثة، كما لم يجد غضاضة بأن يظهر إعجابه بالثورة الصينية والثورة الروسية ودولتها السوفييتية مثلما أظهر إعجابه بالثورة الفرنسية، وإذا أظهر استحسانه لإنجازات هذه الثورات فأنه لم يتوانى عن رفضه لممارسات الإستبداد التي انتهجتها المنظومات الحاكمة في الشرق كما في الغرب السياسي.
إن القيم المعرفية والحضارية التي يبحث اليوم عنها المسيحي المشرقي تشكل موضوع الرفض الذي تبديه الحركات الإسلامية في شبهتها نحو المسيحية، وهي مادة التهمة التي تستخدمها لتصنع من مسيحيي المشرق العربي سلعة صراعها السياسي الداخلي والخارجي.
هذه الحقائق التاريخية والعقائدية تفسر جانباً من جوانب ما يسمى اليوم بسياسة النأي بالنفس التي تعتمدها المؤسسة الدينية المسيحية، وما يراه البعض تحالفاً مع الأنظمة القائمة عليه أن يعود للتدقيق بعلاقة مسيحيي المشرق العربي بالدولة الإسلامية خلال عقودها الطويلة.
أما وأن تتلاقى جميع الأطراف السياسية حول استثمار مسيحيي المشرق العربي في نزاعها على السلطة، فإن ما يجب فهمه أن مسيحيي المشرق العربي أفراداً وجماعات علمانيون بطبعهم وبثقافتهم وتطلعاتهم، وضمن إطار علمانيتهم يتعاملون مع القضايا الوطنية وتحديداً قضية الربيع العربي، وعلى هذه الأرضية يدافعون عن خياراتهم السياسية وفق بنيتهم الطبقية والثقافية والإجتماعية، ويتواجدون في مواقعهم بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية بمشاركة تامة مع أبناء أوطانهم التي يؤمنون بأنها الحاضنة الوحيدة لوجودهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موقف التنظيمات المسلحة الموالية لإيران من التصعيد في رفح| ال


.. إسرائيل - حماس: هل ما زالت الهدنة ممكنة في غزة؟




.. احتفال في قصر الإليزيه بمناسبة مرور 60 عاما على العلاقات الف


.. بانتظار الحلم الأوروبي.. المهاجرون يعيشون -الكوابيس- في تونس




.. حقنة تخلصكم من ألم الظهر نهائيا | #برنامج_التشخيص