الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات عائد الى الوطن: الجهل يقتل أهل الفلوجة

أسعد الخفاجي

2005 / 6 / 7
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كثيراً ما وقع نظري ، منذ عودتي إلى العراق بعد هزيمة النظام الصدامي ، على العبارات الآتية: "قف وإلا سنطلق عليك النار!" ، أو "لا تقترب تقتل"! ، أو "إبتعد 100 متر أو تموت"! وغيرها من التحذيرات ، المكتوبة باللون الأسود على مؤخرة مدرعات الهامفي ، أوالمصفحات البرمائية ، أوعلى لوحات بيضاء ، مثبتة على حافات الطرق في محافظة الأنبار، وتعود كلها لقوات المارينز الأمريكية. ونظراً لخلفيتي الثقافية الليبرالية ، إضافة إلى ولعي الشديد بلغة الضاد ، فلطالما ضقت ذرعاً باللهجة الحادة والمتشنجة والركيكة ، التي إستخدمها لإعداد تلك التحذيرات والأوامر ذات العبارات الصارمة والمبهمة ، مترجم ذو كفاءة متدنية باللغة العربية ، وإلمام يكاد أن يكون معدوماً بثقافة العراقيين عامة ، وأهل الأنبار خاصة ، الذين تخاطبهم تلك العبارات. من ناحية أخرى ، فإنني كنت أعتقد أن الغرض من تلك التحذيرات ، هو إظهار الحزم تجاه البعض من سائقي السيارات والشاحنات ، الذين قد لا يعبأون بالتعليمات ويستهينون بها، محاولين الإقتراب من العجلات العسكرية. وقد "يتسابقون" ، في بعض الأحيان ، مع الرتل العسكري غير آبهين بشئ. ولايخفى خطر ما قد ينشأ عن ذلك التصرف ، من متربات أمنية خطيرة ، كما هو الحال لدى تفجير سيارة مفخخة مثلاً ، من قبل إرهابي إنتحاري. والواقع أن عقلي لم يكن ليصدق ، أن ذلك التهديد بالقتل ، لمن يخالف التحذيرات المذكورة ، قد يتحقق في يوم من الأيام. ومن المنطقي ، أن عدداً غير قليل من الناس هنا ، في الفلوجة أو غيرها من المدن العراقية قد يشاطرني هذا التصور.

كان الوقت صباحاً جميلاً ، من أيام الشتاء التي تتميز بها مدينة الفلوجة. رأيت قرص الشمس الناصع في السماء يبعث أشعته الغزيرة ، لتستقر على أهالي الفلوجة العائدين. لاحظت كيف أن أشعة الشمس منحت تلك الأجساد ، التي لا تغطيها سوى الدشاديش الرقيقة ، الدفء والطمأنينة والأمان. عادوا إليها أخيراً ، من ملاجئهم المؤقتة في مدن الحبانية ، والخالدية ، والعامرية ، وضواحيها حيث قضوا هناك شهر عسل "إستقلال" الفلوجة ، بعيدين عن بيوتهم ومتاجرهم ودوائرعملهم. وعلى أمد خضوع الفلوجة لعصابات الشر ، حرم الكسبة الفلوجيون من ممارسة مهنهم ، والأطفال المشردون من التمتع بمدارسهم ، والشيوخ من مساجدهم ، والمرضى من عياداتهم. ولقد شبه أحد الكتاب العراقيين إختطاف الفلوجة على يد الإرهاب لمدة سبعة أشهر ، بإختطاف العراق من قبل صدام وأعوانه لمدة أربعة عقود!. على أنه لم يكن ليأتي ببالي أبداً ، أن تتحول بهجتي بذلك المنظر الطبيعي الخلاب ، في ذلك الصباح الشتوي الجميل إلى كربة قاسية!. متعت ناظري بجسر الفلوجة الجديد ، وهو يربط ضفتي نهر الفرات اللتين تزينهما أشجار النخيل بسعفها الأخضر المتألق. وسحرني منظرغابات القصب المصفر ، الذي تتراقص على أطرافه الذابلة ، عصافير مزقزقة ، طربة ، وغير مبالية بالعجلات العسكرية الثقيلة الرابضة في كل مكان ، وبالسياج الأمني ، والأسلاك الشائكة التي كانت تخترق بصر الناظرين إليها ببرود وتحد ، لتفسد عليهم متعتهم بالطبيعة المسالمة!. كان الجسر الغربي ، هو الطريق الوحيد المفتوح أمام أرتال السيارات المدنية ، والمؤدي إلى المدينة المهدمة. وفي شبه الجزيرة ، وهذا هو الأسم العسكري لمنطقة الزوية في الفلوجة ، على الضفة الغربية من نهر الفرات. ، كانت قوات الأمن تعسكر في بيوت المواطنين الذين هربوا من المعارك ، التي إندلعت ، عندما إجتاحت قوات المارينز الضاربة ، مدينة الفلوجة العاصية قبل شهر ، من جميع جهاتها الأربع. ولم يعكر صفو تلك السكينة الصباحية لشبه الجزيرة ، سوى إنفجار لغم ربما زرعته جماعة "أضرار السنة" هنا ، ودوي قذيفة هاون ربما أطلقها "جيش محمد" هناك!. وفي الأغلب ، يموت في تلك الهجمات العشوائية ، أطفال ونساء وشيوخ من أهالي المنطقة لا حول لهم ولا قوة!. وفي بعض الأحيان نسمع أيضاً ، عن إصابة عجلة عسكرية مصفحة. وتشير الإحصائيات الأخيرة أن نسبة عدد مايهلك من المدنيين ، في العراق نتيجة الهجمات الإرهابية ، إلى عدد القتلى بين صفوف القوات المتعددة الجنسيات ، هي كنسبة مئتين إلى واحد!. ويروى عن إمام مسجد وعضو هيئة جهلاء المسلمين في الفلوجة ، فتواه وهو يعلق على تلك الإحصائية: "هلاك أمريكي واحد إلى جانب مئتي عراقي رافضي ، يعد إنتصاراً لمبادئ السلف الصالح!.

كنا مجموعة من المتخصصين والخبراء المتعاقدين لإعمار محافظة الأنبار ، نستقل باصاً مدنياً تحرسه مدرعة ، يقودها طاقم من جنود المارينز. رأيت على سطح المدرعة ، فوهة الرشاشة المتوسطة المدى ، وهي تتجه نحو رتل السيارات المدنية!. كان المنظر مرعباً!. وسألت نفسي: "ماذا لو ضغط الجندي خطأ على الزناد؟!". حتماً ستحدث كارثة!. مجزرة.. حمام دم!. وألقيت نظرة على الجسر الحديدي القديم ، الذي يقع على مقربة من الجسر الجديد ، بإتجاه الشمال ، ولا أدري لم تذكرت في تلك اللحظات زميلاً لي ، علق إرهابيو الفلوجة جسده على الجسر القديم بعد أن ذبحوه ومثلوا فيه!. لقد حصل ذلك قبل بضعة أشهر. في لحظة إبتعد خلالها رجال الحماية عنه وأصحابه الخبراء المدنيين الثلاثة. كانوا ساعتها عزلاً وقد جاءوا إلى هنا ، مثلنا تماماً ، لإعمار محافظة الأنبار. فتصدى لهم أهل الفلوجة الذين يرفضون أي تغيير ، وقتلوهم مستغلين غفلة الحراس عنهم. أدرت بنظري صوب الجسر المشؤوم الذي علق الأهالي ، على أعمدته الأجساد الطاهرة لهؤلاء الأصدقاء الشهداء ، بعد أن مثلوا بها. إنه مشهد مرعب!. بعث في جسدي رغم الشمس الدافئة رعشة باردة!. وإستعادت ذاكرتي الصور التي عرضتها على العالم قناة "الجزيرة" ، بنبرات الشماتة الواضحة. حنقت للحظات ، بعد أن تذكرت تلك المجزرة ، وزاد إصراري على الكره المضاد!. وعلى إعمار محافظة الأنبار التي هي جزء لايتجزأ من العراق الكبير!. وعزمت على عدم الإبتعاد عن بنادق المارينز ، خطوة واحدة ، طيلة مدة عملي في العراق مشاركاً في الإعمار!.

وفجأة تناهي إلى سمعي ضجيج ، أخرجني من دوامة الذكرى المؤلمة. ونظرت أمامي متجهاً صوب منتصف الجسر الجديد. وماذا رأيت؟. سيارة تاكسي تسرع بإتجاهنا. المارينز يصيح بأعلى صوته بالإنجليزية: "قف!" وينقل صراخه المدوي مترجم إلى اللغة العربية: "قف!." لكن السيارة تواصل حركتها السريعة بإتجاهنا!. ياإلهي!. أصبحت على مقربة مئة متر فقط من مكاننا. أغمضت عيني!. توقعت أمراً رهيباًً! الحالة إياها التي تصفها لنا الفضائيات كل يوم في بلادي!. سيارة مفخخة. هلاك الإنتحاري المجرم ، وإستشهاد بضعة عشرات من أبرياء العراق!. لا أستطيع فعل شئ. سوى إنتظار السيارة التي سوف تنفجر بقربنا. تراءت لي في تلك اللحظات القصار ، عيون أطفالي ، وهم يحاولون إقناعي ، بعدم السفر إلى العراق في الظروف الأمنية الحالية!. وتركز تحذيرهم على الإقتراب من محافظة الأنبار العاصية على الحكومة ، ولم يتصوروا أنني سوف أزور الفلوجة ، مقبرة المخربين. المدينة التي أصبح كل من فيها قاضياً نحبه ، وكل من يؤمها لغرض البناء والتعمير ، مهدداً بالذبح والمثلة!. تلك هي الفلوجة المقبرة ، الفلوجة الجحيم ، الفلوجة التي لا مكان فيها للمحبة والتحاور والتفاهم. لا حوار هنا غير التراشق بالأسلحة!. جلست ووضعت يدي على رأسي. لم أفتح عيني إلا بعد أن سمعت أزيز الرصاص ، المنطلق من كل أصناف الأسلحة. ولاأدري من يطلق على من!. ياللهول! لم يتوقف السائق عن السير بإتجاهنا ، إلا بعد أن تناثرت أشلاؤه ، وتمزق رأسه إلى أجزاء مبعثرة!

كان منظراً لم أكن أستحقه أبداً!. لم أكن أقدر على النظر إلى دجاجة تذبح طيلة حياتي ، فكيف لي أن أشاهد وبأم عيني عملية قتل لإثنين من البشر؟. ولأول مرة في حياتي ، رأيت كيف يقتل الإنسان ، على مقربة خمسين متراً مني!. رباه ، ماذا صنعت من السوء لكي أستحق هذا العقاب؟!. هرع الجنود صوب السيارة مصوبين فوهات بنادقهم ، بإتجاهها بحذر ، الأمرالذي يعني أنهم يتوجسون خيفة ، من كونها مفخخة بالمتفجرات ، ويقودها إنتحاري أهبل. وحبس الجميع الأنفاس ، بإنتظار الإنفجارالهائل. إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث!. ومرت لحظات بدت طويلة. أما أنا فقد أصبت بما يشبه الإغماء. غشي بصري ، وإختنقت أنفاسي ، ولفني دوار ، وإعتراني غثيان شديد ، وبقيت جالساً في مكاني ، كمن أصابه الشلل. لم أع تماماً ما حصل بعد ذلك. وصلت مكتبي ، وأنا في حالة إعياء مطبق. وفي المساء أخبرني الآخرون أن السيارة لم تكن مفخخة!. كان الحادث لا يتعدى سوء الفهم!. فالسائق الأمي ، على الأغلب ، لم يفهم أن قيادته السيارة بهذا الإتجاه ، كانت ممنوعة. كان الشارع ينقسم بعد إنتهاء الجسر ، فجأة إلى فرعين متوازيين: الأول وقد خصص للسيارات المدنية ، والآخر للعربات العسكرية. لذلك كان على السائق الضحية ، أن يقود سيارته في الفرع المخصص لسيارته المدنية!. وبالتأكيد ، فإن الضحية أساء الفهم ، ولم يكن يقصد إلحاق الضرر بأحد. هكذا ، وببساطة ، سوء فهم أودى بحياة إثنين من المواطنين العزل. ظهر من فحص السيارة فحصاً دقيقاً ، أنها كانت خالية من أي أثر للمتفجرات. كما أن أحداً فيها لم يكن مسلحاً ، ولو بموس حلاقة!.

نعلم أن للحرب قوانينها الصارمة الإستثنائية . كما أن للسلم والإعمار قوانينهما أيضاً. ولا يعقل أن تخضع عملية البناء والإعمار ، إلى قوانين الحرب المتسمة بالقسوة والعنف. وما دامت قوات الأمن قد وعدت أهالي الفلوجة ، بعودة آمنة إلى ديارهم ، فلا يجوز لها إخضاعهم ، خلال ذلك إلى قوانين الحرب. كان بالإمكان ، مثلاً ، وضع أسلاك شائكة ، وما أكثرها ، تمنع هؤلاء الناس من ولوج الطريق العسكري ، والإقتراب من النقطة العسكرية المحصنة؟!. كان الغباء وحده ، وسوء الإتصال بل إنعدامه ، بين أفراد القوات المسلحة وبين المارة من الناس العاديين ، سبب القضاء على حياة إثنين من العراقيين ، خلال أقل من نصف دقيقة من الزمن!. لم تكن هناك أي إشارة واضحة ، تحذر سواق السيارات من الإقتراب من نقطة السيطرة الأمريكية ، عدا العبارة الغبية البكماء: "لا تقترب وإلا سنطلق النار"!. الإقتراب ممن وكيف وإلى أي حد؟!. وكانت مكتوبة بخط ردئ. ناهيك أن معظم الناس في محافظة الأنبار لا يقرأون ولا يكتبون!. ولماذا لم يكلف شرطي عراقي من الموالين للسلطة الجديدة ، بالوقوف في ذلك المكان من الجسر، لكي ينبه السائقين بوضوح تام إلى إتباع الطريق الآمن؟!. وهل كانت الضحيتان تزمعان إلحاق الأذى حقاً ، بالقوات العسكرية دون أن يكون هناك أي سلاح معهما؟. إن المفروض بالقانون أن يكون واضحاً ، ومفهوماً من قبل الجميع ، لكي تتم بعد ذلك محاسبة العاصي. أخبرني أحد العمال المحليين في اليوم التالي ، وكان قد سمع بحادث موت المواطنين على الجسر، ، مؤكداً أن سائق السيارة الضحية كان رجلاً طاعن السن ، وأمياً ، وبأنه ترك وراءه عائلة كبيرة بلا معيل!. هل يصح أن تكون عقوبة الشخص الأمي ، أو الجاهل بالإشارات المرورية ،هي الموت الفوري؟!. أن كارثة مثل هذه ، لا يمكن أن تصلح بإطلاق اللفظة الأمريكية المعروفة: "أوبس!". إنها عملية قتل كاملة!. والسبب هنا ، برأينا ، هو إهمال شخصي من قبل القوات المسلحة ، والحكومة المؤقتة. ويقيناً أن هناك مئة وسيلة ميسورة ، كان بالإمكان إيجادها لتجنب إهراق تلك الدماء البريئة ، لأناس فقدوا قبل شهر من جراء المعارك بيوتهم وأمنهم ، والآن حياتهم!. إنها مهزلة القتل البشري في الفلوجة ، المجاهدة ضد أناسها ، وضد التحول الديمقراطي في وادي الرافدين.

* محلل سياسي ـ شيكاغو / فلوجة









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟