الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والغرب من إدوارد سعيد إلى محمد عبده

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


في هذا العام يمر قرن كامل على رحيل مفكر جبار هو الشيخ محمد عبده. وقبل عامين رحل عنا مفكر آخر هو ادوارد سعيد. المفتي والمصلح الاسلامي، محمد عبده، هو ابن الفلاح المصري الذي اقتحم دارة الفكر الشرقي بقوة النقد والتجديد. والفتى المقدسي، ادوارد سعيد، اقتحم دائرة الفكر الغربي ناقداً ومتجاوزاً. والى ما بين الاثنين من بون شاسع في المنهج، والثقافة، والمنابع، والأصول، ثمة فكرة جوهرية مشتركة تجمع بينهما: نحن والغرب.
وهذه الـ«نحن»، عند الاثنين، هي الشرق بمجمله، آخر الغرب، نقيضه وغريمه، شريكه وضحيته، هذه الموضوعة المشتركة تشي، لمن يريد تسمية الاسماء بإسمها، بأننا ندور منذ قرن حول ذواتنا (البائسة)، مثل دابة الناعور، تمضي في حلقة متصلة بلا سير الى أمام. كما ان هذه الموضوعة المشتركة تفيد اننا عجزنا عن حل المشكلة الاساسية، وعجزنا عن صياغة أجوبة مطلوبة منذ قرن.
كان موت إدوارد سعيد ترميزاً لحال شرق عربي. بقي سنوات وهو يصارع ذلك الغول اللامسمى، منتظراً ان يغيب في الثرى، حيث اللامبالاة المطبقة بكل جمال الكائن البشري وثراء عقله.
أذكر انني رأيته أول مرة في محاضرة في لندن (1990) جامحاً يندفع بعقله في هوى عاطفة مشبوبة. وتساءلت كيف يتأتى له ان يفك عقله من أسر الهوى؟ ورأيته آخر مرة بعد عقد ونيف في نيويورك، في محاضرة اخرى، بصحبة المفكر الاميركي نعوم تشومسكي، مندفعاً بهواه في تلمس المعقول، وتساءلت كيف يمكن له ان يطلق عقله في هذا الهوى الآسر.
اليوم تسربلت حياته بالأبد. لم تعد ثمة استئنافات، ولا مصالحات. بات ذلك النكد المشاكس من شأننا نحن الاحياء، ان ننظر في ارثه، وان نرى الى هذا الأرث، الملتبس عند جل قرائه العرب.
لا أفكر في ادوارد سعيد فرداً حسياً، معيناً بمزاج، بل أعاينه كاتباً متأملاً في ما يكتب.
ثمة قرن يفصل سعيد عن محمد عبده، مع ذلك يؤلف الرجلان حلقة في فصل واحد، من كتاب واحد: نحن والغرب.
يسلك عبده (وأقول: يسلك بصيغة المضارع امعاناً في طلب حضوره) طريقاً وعرة عبوراً من علم الكلام المعتزلي والفقه الكلاسيكي الى الفكر الارتقائي الغربي. وبهذا العبور دشن حركة نقد ذاتي للعالم الشرقي بأسره. ثمة من يتهمه بأنه رأى الى الشرق بعين الغرب. وبودي ان اصحح هذا الزلل. كان لقاء عبده بالفكر الغربي لحظة تصادم محفز، اكتشاف هول التخلف المشرقي، وادراك وجوب فحصه. ارتد عبده الى الفكر الاسلامي يسائله ويستنطقه من داخل. وحين أعمل مبضع النقد في عقيدة الجبر، كان يستجمع كل التراث العقلاني الذي سبقه، من المعتزلة الى اخوان الصفا. وادرك بحس تاريخي أن لا منفذ إلا باختراق جمود الاكليروس.
تحمل نتاجات عبده، في «رسالة التوحيد»، كما تحمل مقالاته في «العروة الوثقى»، أعباء التجديد الفكري والسياسي. في الفكر ثمة اعلاء لشأن العقل. وفي السياسة ثمة سعي لإنزال أمور الحكم والحاكم الى مرتبة شأن دنيوي عادي (نزعت عنه أردية القداسة الزائفة) وإرساء مؤسسات الليبرالية السياسية. في المقابل، سيرحل ادوارد سعيد مثل سندباد باطني في جوف الغرب نفسه ليبدأ حركة نقد للغرب عينه ولطريقته في رؤية الشرق.
استعار سعيد من الفيلسوف الفرنسي فوكو، معماراً نقدياً خاصاً كيما يصحح الرؤية التي لا تزال ملتبسة بين الشرق والغرب. يقوم هذا المعمار على توأمين من الثنائيات، هما الخطاب - المؤسسة، والمعرفة - السلطة. تحدى الفيلسوف الفرنسي فكرة ان الخطاب (كبناء فكري من مقولات ومفاهيم) هو محض بناءات موضوعية (حقيقية، مطابقة للواقع، علمية الخ)، ورآه جزءاً من تقنيات السيطرة الاجتماعية. وبالتالي، ليس الخطاب «علمياً» خالصاً. فهو، كما رأى، نتاج مؤسسات: فالمصحات العقلية، وكليات الطب، تنتج خطاباً عن الجنون، وبفضل هذا الخطاب تتوافر هذه المؤسسات على «سلطة» يفرضها المجتمع فرضاً على موجوداته. فخبراء العقل، الاصحاء عقلياً، هم الناطقون باسم الجنون الصامت عن حقيقته. وما يصح على الجنون يصح على ميادين اخرى.
المؤسسة، في هذا، تنتج معرفة وسلطة تنتشر في كل الفضاء الاجتماعي.
ان استعارة ادوارد سعيد لم تكن نقلاً حرفياً، بل تطويراً للفكرة الفوكوية. اذ نقل سعيد الدراسة الى ميدان مؤسسات التعليم المنتجة للخطاب عن الشرق، لكشف خبايا البعد الجديد للمعرفة كأداة للسلطة (أو القوة). ظن العرب (على كثرة ما عندنا من ظنون) هذا المسلك النقدي دفاعاً عن كل رزايا الشرق وضحالته ونكوصه. ولم يروا فيه إمكاناته الاخرى: نقد منهج الرؤية العقلي في الغرب، واستبطان لهذا النقد الغربي، باعتماد أدواته، لأن الشرق بكل بساطة يفتقر الى مثل هذه الرؤية لنفسه، أو لآخره. وكان نتاج سعيد ايضاً إشهاراً لكونية المناهج العلمية قبولاً أو نقداً.
رحل ادوارد سعيد من دون ان يحدد ماهية الشرق في نظره، لكنه أومأ الى صورته المغلوطة. لم يدوّن كلمة واحدة تفيد الدفاع عن ديكتاتوريات الشرق، وأصولياته، أو نكوصه الحلمي الى أمجاد تليدة، أو عيشه في ماض سعيد، ساد ثم باد.
رحل ادوارد سعيد من دون ان يعمل على تصحيح هذا الالتباس بدقة (فعل ذلك في بعض المقابلات الخاصة التي لم تنتشر على نطاق واسع). ولعله صحح واحداً من التباساته مع المثقفين العراقيين، وانا واحد ممن التمسوه ان يفعل ذلك. كان نقده اللاذع للسياسات الاميركية تجاه العراق يفتقد الإشارة الواضحة للبعد الداخلي: الواقع المروّع الذي ساده النظام الشمولي البعثي. اشار مرة اشارة عابرة الى وجوب استقالة الرئيس العراقي، الممسك بمهاميز السلطة بظفره ونابه. وقبل أشهر على غزو العراق، وضع سعيد توقيعه على بيان لمثقفين عرب يطالب الرئيس العراقي المخلوع بالرحيل. كانت تلك لمسة حنان للمثقف العراقي الجريح، ولحظة جرأة في معارضة القطيع.
سنفتقد هنا العقل النقاد بلا ريب، وسنفتقد معلماً أفادنا بدروس كثيرة، ابرزها ان يحتفظ المثقف بمسافة نقدية عن أروقة السلطة، وان يُعمل مبضعه النقدي غير هياب بـ«الاجماع». فالخروج على «الاجماع» هو جوهر العقل. وجمال العقل في تنوعه وعناده. وما للعقلانية ان تترسخ الا بالإصرار على تعدد التمثلات، فهذا هو الترياق الوحيد للشفاء من طرق التفكير المبتذلة، السائدة في عالمنا العربي الشقي. تلك هي رسالة محمد عبده قبل قرن، ورسالة سعيد الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الجامعات الأميركية.. عدوى التظاهرات تنتقل إلى باريس |#غر


.. لبنان وإسرائيل.. ورقة فرنسية للتهدئة |#غرفة_الأخبار




.. الجامعات التركية تنضم ا?لى الحراك الطلابي العالمي تضامنا مع


.. إسرائيل تستهدف منزلا سكنيا بمخيم البريج وسط قطاع غزة




.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف