الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأتأة عن الماغوط

صبحي حديدي

2005 / 6 / 7
الادب والفن


في مقالة صحفية نُشرت في يومية سورية، سريعة لا تزيد إلا قليلاً عن ألف كلمة، وطافحة بالغطرسة والتعسّف والإلغاء، قرّر الشاعر السوري الشابّ إبراهيم الجبين إحالة الشاعر السوري الرائد محمد الماغوط إلى متحف الشمع! والعنوان اللاهب الملتهب يسير هكذا، حرفياً: بعد «شرق عدن.. غرب الله».. دفتره الجديد.. محمد الماغوط.. إلى متحف الشمع السوري الكبير!..
قبل الماغوط كان الجبين، وهو للإنصاف شاعر قصيدة نثر موهوب وصاحب صوت خاصّ جسور، قد قرّر أيضاً إحالة ممدوح عدوان وسعد الله ونوس ومحمد عمران وأدونيس إلى «بيت الأشباح» الذي يُسمّى «الثقافة السورية الرائدة»، وهو اليوم حسب الجبين ليس سوى «مسكن أطياف»! وللوهلة الأولى قد يلذّ المرء، كما كان شيخنا الجرجاني يقول، لهذه الجرأة في الانتهاك والتعريض والهتك، قبل أن يدرك دون إبطاء ــ ودون كببر عناء، لحسن الحظّ ــ أنّ الجبين إنما ينخرط في وصلة فشّ خلق... ليس أكثر، لكي لا نقول: بل أقلّ!
خذوا في مثال أوّل، أحد أسباب الجبين في إحالة الماغوط إلى متحف الشمع/ بيت الأشباح/ مسكن الأطياف: «وليس الماغوط بأقلّ من شاعر يتمكّن من قطف الأفكار الطائرة كفراشات هنا وهناك لولا أنه يفضّل العيش داخل ذلك النصّ الأقلّ تمدناً»! أو هذا المثال الثاني: «يستعيد الماغوط بحكم الآلية التي أنشأها نصّه منذ «حزن في ضوء القمر» أكداساً من الهموم التصويرية التي تخلق واقعاً افتراضياً لا علاقة له بما يدور حول القارىء، الأمر الذي يبتعد بنا جميعاً عن عالم الماغوط الحقيقي فتتحوّل القصيدة إلى نمطين لا ثالث لهما: تاريخيّ قادم من الذهنية، وافتراضي قادم من الوهمية»!
شخصياً، بصراحة وبلا أدنى حياء، لم أفهم سبب اعتراض الجبين على أن يقطف الماغوط الأفكار الطائرة كفراشات (أين المشكلة؟ في القطف أم في الطيران كالفراشات؟ هل ينبغي أن تطير مثل الحجل أو الحوّامة؟)! ولم أفهم، أبداً ونهائياً هذه المرّة، معنى العيش داخل نصّ أقلّ تمدناً؟ هل يقصد القول إنّ الماغوط شاعر غير متمدّن، بمعنى التوحّش؟ غير مدينيّ، بمعنى الرعوية؟ وكيف فاتت الجبين عشرات، وربما مئات، القصائد التي كتبها الماغوط عن دمشق دون سواها، إسوة بعناصر القهر المدينية من الشرطة إلى الجوع الكافر وصولاً إلى المقدّس؟ وأمّا ما تعجز مداركي عن بلوغه حقاً فهو «الهموم التصويرية»، التي «تخلق واقعاً افتراضياً»... وصولاً إلى النمطين العجيبين التاريخي والإفتراضي، حيث يأتي الأوّل من الذهنية والثاني من الوهمية!
لست أعترض البتة، كما أرجو أن يكون واضحاً، على فتح أيّ وكلّ ملفّ في الحياة الثقافية السورية، المعاصرة أو الحديثة أو الوسيطة، شرط أن لا يبدأ فتح الملفّ من نوازع العبث الصرف، أو التخريب الطفولي، أو التعسّف السطحي، أو الغطرسة الأجيالية، أو الإغفال التامّ المتعمّد للسياقات التاريخية والثقافية والجمالية والسياسية والإجتماعية التي تكتنف عناصر الملفّ المفتوح. والحال أنّ الرياضة الخفيفة التي ينخرط فيها الجبين لا تجنّبه الإنزلاق إلى معظم تلك البواعث، وليس للأسف بسبب من جهل أو عجز عن القراءة أو عطالة في تذوّق نصّ الماغوط الشعري وخصائصه الفذّة.
لنتذكّر، باديء ذي بدء، أنّ نعت «رائد» ليس حكم قيمة فقط، يُمنح هكذا تلقائياً وعلى طول الخطّ، بل هو أيضاً معادلة إنفرادية تاريخية وثقافية وسوسيولوجية تخصّ مناخات انقلابية كبرى في الأشكال والموضوعات والحساسية التعبيرية والذائقة الجَمْعية. ولهذا فإنّ تعبير «الثقافة السورية الرائدة» غائم وغير دقيق، إذا لم يكن بلا أيّ معنى؛ واحتساب الماغوط وأدونيس على تلك الثقافة ليس شبيهاً أبداً باحتساب سعد الله ونوس عليها (حيث السياقات الزمنية والأنواعية تختلف تماماً، إنْ لجهة مناخات ما بعد هزيمة 1967، أو لجهة أشكال النصّ المسرحي التي ابتدعها ونّوس)، وهو كذلك لا علاقة له بموقع ممدوح عدوان ومحمد عمران في مشهدية الشعر السوري الستيني (ولست أدري ما السبب في أنّ الجبين تناسى علي الجندي وعلي كنعان؟)...
وثانياً، لعلّ بعض التواضع مطلوب في استخدام مدفعية إصطلاحات ثقيلة كفيلة بدبّ القشعريرة في أوصال أيّ وكلّ من كابد مشاقّ الإشتغال على نظرية الشعر إجمالاً وقضايا قصيدة النثر بصفة خاصة. مستحبّ أيضاً التخفيف بعض الشيء من خلط الحابل بالنابل دون رأفة بعقولنا ومداركنا، كما حين يكتب الجبين: «الجملة المتساهلة التي تتوتر فقط في المعنى الفادح الذي تحمله، دون أن تحاول ولو قليلاً تحريك تلك الفداحة لمصلحة النصّ والتجربة ذاتها، تلك الجملة لم تتمكن سوى من التأسيس الدائم لصدمة القفلة من غير أن تشتغل على البدايات وعلى عمق الكتابة والموقف»...! ومرغوب، أخيراً، التنازل قليلاً عن تلك الخيلاء المرتاحة في تصنيف المصائر: «يبهت النصّ مع مرور الأعوام وتتالى التكريمات ليصبح تأتأة يصرّ عليها رجل يجلس في ظلّ أشباح الشعر السوري في بيت الأشباح ذاته»!
هل يعقل أنّ حكم إعدام كهذا يصدر عن شاعر قصيدة نثر شابّ، بحقّ شاعر قصيدة النثر المعلّم محمد الماغوط؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي