الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: مصادر العنف ومآله

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 8
الارهاب, الحرب والسلام


هناك رؤيتان لمصدر ومآل عنف ما بعد الحرب في العراق: الأولى تعتبره حركة عمادها حزب البعث المخلوع والسلفيون الجدد، هدفها إما العودة (البعث)، أو خوض حرب مقدسة شاملة تنتهي بانتصار الإسلام على الغرب (السلفيون). والثانية تعتبر العنف حركة وطنية، جامعة ومانعة سببها الأول والأخير الاحتلال، وبالتالي فهي منزهة عن أي غرض آخر.
ويمكن لأصحاب كل رؤية ايراد وقائع تكون برهاناً على قولهم، في نقاش بلا نهاية.
ويركّز بعض النقاشات على مخاطر الحرب الأهلية، معترفاً، برواية أو بغيرها، بوجود انقسام عريض في المجتمع العراقي، وهو انقسام لم يكن وليد اليوم بأية حال، إلا أنه احتدم في أعقاب الحرب. ذلك أن الحرب لم تسفر عن وقوع البلد تحت الاحتلال فحسب، بل انتهت الى تفكيك مؤسسات السلطة القديمة، وفتح الباب لنشوء مؤسسات جديدة، بقوى اجتماعية وسياسية جديدة، كانت إما مهمشة أو مقصاة. وهذان الجانبان من نتائج الغزو، أي تفكيك مؤسسات السلطة التوتاليتارية، وإعادة توزيع السلطة على القوى الاجتماعية المقصاة سابقاً، اكتسبا بالتدريج أهمية سياسية واجتماعية متنامية غدت، بصورة أو بأخرى، تتجاوز في أهميتها واقعة الحرب ذاتها عند معظم القوى الفاعلة. لا نعني بذلك أن واقعة الاحتلال لم تعد مريرة عند الفاعلين السياسيين، أو لم تعد واردة كهدف سياسي، فاستعادة السيادة العراقية كانت وستظل محركاً مهماً، إلا أن الخلاف يدور حول سبل الوصول إليها.
إن تفكيك المؤسسات الحصرية القديمة، وبناء المؤسسات التشاركية الجديدة، فتح الباب لاقصاء السادة القدامى، مثلما فتح الباب لمشاركة المبعدين بالأمس. وهذا الانقلاب في الأدوار ينطوي على نتائج عميقة الغور. فتوزيع السلطة السياسية هو في العين ذاته توزيع للثروة الاجتماعية. ذلك أن الدولة العراقية مترعة بعوائد النفط، خلافاً للغرب حيث توزيع الثروة يقرر توسيع السلطة. هذا التحول هو في اساس انقسام المجتمع العراقي تيارين عريضين متضادين، تيار العنف، وتيار التحول التفاوضي. الأول يخفي مقاصده الخاصة وراء الشعارات الوطنية، والثاني يكشف عن مقاصده الخاصة من دون اعتبار لهذه الشعارات.
وتوزيع السلطة، وتوزيع الثروة بالتبعية، هو أيضاً اساس التشظي العراقي الى هويات محلية، إتنية كانت أم طائفية، أم قبلية أو جهوية. فالثروة المجتمعية كانت حكراً على نخب ضيقة، أدت بسياساتها العصبوية الى حرمان الجنوب (عقاباً على انتفاضة 1991) وتحويل مدنه الى احياء صفيح مزرية، وحرمان كردستان حتى من الوقود. من هنا الاندفاع نحو الفيدرالية الاتنية (للكرد) رفعاً لحيف مديد عبر السعي الى تمثيل راسخ في السلطة المركزية، ومشاركة مكفولة في ريوع النفط، أو الاندفاع نحو الفيدرالية الإدارية (في البصرة والعمارة والناصرية) لدرء مخاطر وسوءات نظام إدارة شديد المركزية، يمنع تدفق الخدمات العامة الى الأطراف، ويحيل محافظات نفطية (كالبصرة) الى مدن من الأسمال والفاقة.
لقد أدى تفكيك المؤسسات القديمة الى اشعال فتيل العنف، أو تسهيل اشعاله. فمثلاً، تفكيك مؤسسات العنف (الجيش، الأمن، الإعلام، المخابرات) أحدث فراغاً أمنياً، هبط فيه التناسب الأمني الى السكان من 34 لكل ألف الى 3 لكل ألف، دون توفر قوى دولية شرعية لحفظ السلام (على غرار ما حصل مثلاً في البوسنة أو مناطق أخرى). حصل ذلك في مجتمع فيه 4.5 مليون قطعة سلاح، وجيلان تشبعا بقيم العنف، وفوضى الانفتاح الفجائي لحرية الاحتجاج والحركة، علاوة على نحو ربع مليون سجين جنائي أطلق سراحهم، بينهم 30 ألفاً من عتاة المجرمين المنظمين في مافيات.
وأدى التفكيك المتسرع (بدل التطهير التدريجي) لهذه المؤسسات الى اهانة فئات اجتماعية واسعة (نحو نصف مليون) وإلقائها في لجة الفاقة، رغم أنها كانت تتطلع الى إعادة التأهيل. واقترن الفراغ الأمني بفراغ سياسي ما كان لـ«سلطة الائتلاف الموقنة» (التي ترأسها بول بريمر) أن تسده، وسط مجتمع تجهل تضاريسه. وبات العراق بلا حكومة أهلية شرعية، وبلا وسائل قوة لإدارة البلاد. لا حكومة ولا جيش ولا قضاء. هذه وصفة مؤكدة للحرب الأهلية.
اندلعت أولى بوادر الحرب في حزيران (يونيو) 2003 في الفلوجة، ثم استشرت في عموم المناطق السنّية، الأكثر تمثيلاً في المؤسسات المفككة. ثم تحول العنف من ضرب القوات المتعددة الجنسية كرمز للاحتلال، الى حملة عشوائية ضد كل ما هو أجنبي، من مقار الأمم المتحدة، الى المنظمات الإنسانية كالصليب الاحمر الدولي، أو وكالات الاغاثة.
ومع بدء تشكيل نُوى الحكومة الأهلية (مجلس الحكم فالحكومة الموقتة) تحول العنف الى حملة لتعطيل الانتقال السياسي: ضرب المؤسسات الحكومية، تفجير منشآت النفط والكهرباء، في مسعى لشل العملية السياسية والنشاط الاقتصادي والخدمي. وبعد نقل السيادة ثم الانتخابات، حصل تحول جديد في استراتيجية العنف باتجاه التركيز على الرموز الدينية الشيعية والسنّية والمسيحية، بأمل إثارة حرب طائفية تكون مدخلاً لانهيار العملية السياسية بأسرها.
غير أن هذين التحولين في استراتيجية العنف أوقعاه في مأزق مسدود. ذلك أن رفض العراقيين سلطة الائتلاف الموقتة كان يستهدف، عموماً، استعادة السيادة بالوسائل السلمية، عبر تحركات قاعدية سلمية، وعبر صناديق الاقتراع، ولا شأن له بعودة البعث المخلوع، أو اقامة نظام سلفي على غرار طالبان.
والمفارقة أن العنف الساعي الى تعطيل عملية الانتقال السلمية، أسهم في دفع الولايات المتحدة الى التعجيل بنقل السيادة الى أيد عراقية، والى التعجيل بارساء الاساس الشرعي الوحيد لأية سلطة سياسية: الانتخابات. وإذ توجه العنف ذاته لتدمير عملية نقل السيادة، أو منع الانتخابات، بات العراقيون يرون فيه عموماً وسيلة انتقام تستهدفهم هم، مثلما تستهدف عملية التوزيع الجديد لمقاليد السلطة. وكان خروج 8.5 مليون ناخب أكبر تحدّ لمنظومات العنف، وهزيمة أخلاقية لها.
وكانت أرقام الضحايا تزيد في اقناع جل العراقيين بهذا الموقف. فمجموع ضحايا العنف بين تموز (يوليو) 2003وأيلول (سبتمبر) 2004 زاد على 23 ألف قتيل وقع أغلبهم ضحايا العنف الأهلي، متفوقاً بذلك بمراحل على ضحايا العمليات العسكرية للمتعددة الجنسية.
ويميل جل العراقيين اليوم الى استخدام كلمة «إرهاب» و«إرهابي» الغربية المنشأ لوصف القائمين بالعنف، بعد أن امتنعوا طويلاً عن قبول هذه المفردة. ولم يعد لكلمة المقاومة الوقع الذي كان لها قبل عامين. فخيوط الشرعية عبر التفويض (الانتخابات) ونمو الميل للانخراط في المؤسسات الأمنية الأهلية، مشفوعاً بتحسن كبير في أحوال الطبقات الوسطى وكسر الاحتكار الإعلامي العربي ـ الإيراني الداعم للعنف، تؤلف مادة صلبة لتجاوز مرحلة العنف. ولعل نجاح العملية الدستورية والانتخابات العامة المقبلة من شأنه دفع الأركان الرئيسية للعنف الى نقطة الانحدار. وثمة من الآن بوادر على أن الأغلبية الصامتة في مناطق العنف تخرج الى العلن، معترضة على توجيهه الى العراقيين، أو رافضة المساس بالمنشآت العراقية. فالعنف لن ينتهي بين عشية وضحاياها، لكن مستقبله مسدود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكوفية توشح أعناق الطلاب خلال حراكهم ضد الحرب في قطاع غزة


.. النبض المغاربي: لماذا تتكرر في إسبانيا الإنذارات بشأن المنتج




.. على خلفية تعيينات الجيش.. بن غفير يدعو إلى إقالة غالانت | #م


.. ما هي سرايا الأشتر المدرجة على لوائح الإرهاب؟




.. القسام: مقاتلونا يخوضون اشتباكات مع الاحتلال في طولكرم بالضف