الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية بين الإيمان بها والمصلحة فيها

سامر سليمان

2005 / 6 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


هناك أعداد متزايدة في مصر تؤمن بأن الديمقراطية هي المخرج الوحيد للأزمة التي تعيش فيها البلاد. النقاش العام في وسائل الإعلام يبين ميلاً صاعداً لتبني المطالب الديمقراطية. ولكن هذا النقاش يدور في الإجمال بين نخب، وغالباً نخب مثقفة. وعلى هذا فأننا لا نعرف بدقة كيف تفكر الأغلبية الصامتة حيال المطالب الديمقراطية. هل تؤيدها، أم تقف منها موقف المتفرج؟ في أحسن الأحوال الأغلبية الصامتة تؤيد المطالب الديمقراطية التي يدفع بها المثقفون. ولكن يظل أن هذه الأغلبية غائبة عن الجدل والصراع الدائر الآن حول شكل النظام السياسي القادم. فتظل الديمقراطية قضية مثقفين. قد يتعاطف الرأي العام معها بالكامل، ولكنه لا يحرك ساكنا من أجل تحقيقها. وهكذا يظل الرأي السائد عن المجتمع المصري أنه معني أساساً بحياته اليومية، خاصة ما يتعلق بالبحث عن لقمة العيش. فالسلطة تكاد تقول أن المطالب الديمقراطية لا تخص إلا أقلية من "دراويش" الديمقراطية من المثقفين الذين لا يعلمون شيئاً عن حقيقة الأمور في مصر، وعدم جاهزية البلاد لتطبيق نظام ديمقراطي. وهي تدرك حجم المعاناة الاجتماعية في مصر والتي تجعل من الناس غارقين حتى الآذان في الدفاع المتواصل عن مصالحهم الفردية المهددة. السلطة لم تخطيء حينما تقول أن الناس في مصر غارقون في الجري وراء لقمة العيش. ولكنها تخطيء حينما تحاول أن توحي أن ذلك يمثل خاصية متفردة للشعب المصري. وهكذا يصبح هناك شعوب ساعية للحرية، وهناك شعوب أخرى − على رأسها الشعب المصري − لا تبالي بالاستبداد، لأن كل ما يشغلها هو مليء بطونها.

هذه الرؤية تقوم على تصور رومانسي عن أصل الديمقراطية في الدول الصناعية المتقدمة، باعتبارها نتاج انتصار "جبهة الخير" الديمقراطية على "جبهة الشر" الاستبدادية. الثورات الديمقراطية في هذا التصور صنعها مفكرو الحرية مثل جان جاك روسو ومنتسكيو. وهذه الرؤية تغفل أن الجماعات التي ناضلت في سبيل الديمقراطية في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت مهمومة هي أيضاً بلقمة العيش. ولا عجب في ذلك. فالإنسان يسعى لتأمين جسده قبل محاولة تأمين حريته. لا يستثنى من ذلك إلا الأبطال والقديسين، وهم يظلون أقلية في كل مجتمع. الأكثرية عندما تناضل في سبيل الحريات السياسية، فإنها تفعل ذلك لأنها تعتقد أن هذه الحريات سوف تساعدها على تحقيق مصالحها المادية والمعنوية. الرافعة الأساسية للديمقراطية في أوروبا كانت قطاعات واسعة من الطبقات الوسطي الحديثة العاملة بأجر وقطاعات أخرى من الطبقات العاملة. هذه الطبقات كانت تشكل الأغلبية العددية في مجتمعاتها، لذلك كانت تدعم النظام الديمقراطي على أساس أن هذا النظام يعطي الأغلبية العددية الحق في تقرير السياسات العامة. بعبارة أخرى، تحقيق الديمقراطية يتطلب ليس فقط فئات مؤمنة بالحرية ولكن أيضاً جماعات تعتقد أن الديمقراطية هي سبيلها الأساسي لتحقيق مصالحها المادية. وهذا هو بالذات ما نفتقر إليه في مصر. نحن لدينا تيارات فكرية وسياسية ديمقراطية (وإن كانت ضعيفة)، ولكن ليس لدينا قوة اجتماعية ديمقراطية. ليس هناك فئة اجتماعية في مصر قد صاغت مطالبها الاقتصادية الاجتماعية في برنامج ديمقراطي. معظم الفئات الاجتماعية لا تزال تعتقد أنه باستطاعتها أن تحقق مصالحها بدون الحاجة لنظام ديمقراطي. فرجال الأعمال، في معظمهم، يعتقدون أنه بالإمكان صياغة سياسات عامة مشجعة للاستثمار إذا تولى المسئولية السياسية شخصيات ذات كفاءات ممتازة. ومعظم العمال − على ما يبدو − لا يزالوا مقتنعين أنه بالامكان الحفاظ أو الحصول على حقوق اجتماعية بدون المطالبة بحقوق سياسية. ألم يحدث هذا في ظل الناصرية؟ ما المانع من ظهور ناصر جديد؟ والمدرسون خرجوا بالكامل من المعادلة السياسية حينما أصبحت الدروس الخصوصية هي الحل للأجور التافهة التي يحصلون عليها سواء من الدولة أو من القطاع الخاص. هذه مجرد أمثلة، ولكن قائمة الفئات الاجتماعية التي تبحث عن تحقيق مصالحها دون التعرض لمشكلة الاستبداد السياسي تطول.

هكذا تكاد المطالب الديمقراطية في مصر تظل محصورة في دوائر المثقفين. فالمطالب الديمقراطية تخرج للشارع لكي يحملها الناس على أعناقهم عندما ترتبط هذه المطالب بمصالحهم الحيوية اليومية. المصالح المادية يمكنها، إلى حد كبير، تفسير انتشار الفكر الديمقراطي. فجماعة المثقفين إذ تبنت هذه المطالب أكثر من فئات اجتماعية أخرى فإن هذا يعود إلى أن العمل في الحقل الثقافي ينتعش ويزدهر في مناخ الحرية. المثقفون الساعون لتكريس الاستبداد في المجتمع هم أضعف شرائح المثقفين من حيث القدرات, فهم يخشون على مصالحهم المباشرة إذا ساد مبدأ الكفاءة والمهنية. ذلك لأنهم يدينون بوجودهم ومكاسبهم للسلطة السياسية. بعبارة أخرى، المصالح المادية والمعنوية تفسر إلى حد كبير انتشار الفكرة الديمقراطية حتى في دوائر المثقفين الذين يميلون إلى الإيمان بالأفكار المجردة والمطلقة.

المشروع الديمقراطي لكي يقف على قدمين يجب إذن أن يستند ليس فقط على إيمان بجدوى الديمقراطية، ولكن أيضاً على مصالح مادية ومعنوية تحاول أن تتحقق من خلال الآليات الديمقراطية. حتى هذه اللحظة لم ينجح المثقفون المؤمنون بالحريات السياسية في إقناع شرائح اجتماعية واسعة بأن مصالحها ستصان وتنمو من خلال النظام الديمقراطي.. بأن حياتها اليومية ستتغير إلى الأفضل في ظل الديمقراطية. بأن الشوارع ستصبح أكثر نظافة، والمواصلات أكثر أدمية والوظائف أكثر وفرة والأجور أكثر ارتفاعاً، إلى أخره. من الصحيح أن هناك قوى سياسية − خاصة اليسار − تدرك أهمية المصالح المادية والمطالب الاقتصادية في تعبئة وتحريك "الجماهير" في المجال السياسي. ولكن الأمر يتطلب أكثر من إثارة غضب الناس من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. الناس تدرك جيداً سوء أحوالها المعيشية. تذكيرها بهذه الحقيقة المرة لن يؤدي بها إلى التحرك الايجابي. الحركة الحقيقية للتغيير لا تتأتي من فورة غضب على الواقع، ولكن من الإيمان بأنه بالإمكان خلق واقع جديد. الغضب حيال ارتفاع الأسعار والبطالة لا يؤدي بالناس إلى المطالبة بالديمقراطية إلا إذا اقتنع الناس أن تلك الديمقراطية يمكن أن تعالج هذه المشاكل. والناس تقتنع بذلك إذا اجتهدت جماعة منهم في شرح الرابطة بين انتزاع الحقوق السياسية والحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أي في إقناع الناس على سبيل المثال أن زيادة أجورهم تمر عبر طريق النضال النقابي من داخل النظام الديمقراطي أو أن بناء جهاز إداري كفء للدولة يحترم حقوق المواطنين يتطلب وجود قوى سياسية نشطة لتحجيم نفوذ البيروقراطية المتسلطة. هذه الرابطة ضعيفة جداً في الخطاب السياسي المصري عن الديمقراطيةً، الذي لا يزال يتعامل مع الديمقراطية باعتبارها السلاح البتار الذي سنستطيع بواسطته أن نقاوم التدخلات الخارجية في شئوننا الداخلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب