الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة العقل البسيط

السيد نصر الدين السيد

2013 / 12 / 2
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


تعقد الواقع المعاصر
تتعدد العبارات التي يستخدمها علماء الاجتماع وغيرهم من الأكاديميين في وصف المجتمع الحديث. فالبعض منهم يطلق عليه اسم "مجتمع ما بعد الصناعة" انطلاقا من تجاوز نسبة العاملين في قطاع الخدمات نسبة هؤلاء الذين يعملون في كل من قطاعي الزراعة والصناعة. إذ تتجاوز نسبة العاملون في قطاع الخدمات في مجتمعات أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان الـ 70% من مجمل القوى العاملة. والبعض الآخر يسميه "مجتمع المعلومات" انطلاقا من الدور المحوري الذي تلعبه منظومة "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" في كافة أنشطة المجتمع. وأخيرا بدأ شيوع استخدام عبارة "مجتمع المعرفة" في وصف المجتمعات الحديثة انطلاقا من الدور المتزايد الذى باتت المعرفة، بكافة أنواعها، تلعبه في إنتاج الثروة. وعلى الرغم من تعدد المسميات واختلاف منطلقاتها إلا أن السمة الأساسية التي تميز أي مجتمع حديث هي سمة "التعقد الشديد" بأبعاده الثلاثة: "التنوع الفائق"، "التواقف المتزايد"، و"التغير المتسارع".

ويتعلق "التنوع الفائق"، أول أبعاد التعقد، بتعدد وتنوع مكونات المجتمع المادية والمعنوية والبنيوية. فعلى سبيل المثال يبلغ عدد السلع المتداولة مجتمع مدينة نيويورك الأمريكية عشرة بليون (عشرة أمامها عشرة أصفار) بينما لا يتجاوز عدد هذه السلع في مجتمع قبيلة الـ "يانومامو" التي تعيش في غابات الأمازون المئات. ولا يقتصر تعدد وتنوع مكونات المجتمع الحديث على مكوناته المادية المتمثلة فيما ينتجه من سلع مصنعة بل يمتد أيضا ليشمل مكوناته غير المادية (المعنوية) بما تنطوي عليه من رؤى ومعتقدات وأفكار متباينة ومختلفة. أما ثانى أبعاد التعقد، "التواقف" (أو "الإعتمادية المتبادلة") Interdependence، فيتعلق بطبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع الحديث والتي تتميز بإعتماد وجود كل مكون من هذه المكونات وأفعاله على إمكانيات وأفعال بقية المكونات. فسوء الطقس في روسيا سيؤثر بالضرورة على واردات مصر من القمح الروسي، وارتفاع سعر صرف الدولار في بورصة طوكيو ستنعكس آثاره تكلفة انتاج بعض الادوية السويسرية.

ونصل أخيرا إلى ثالث ابعاد التعقد، "التغير المتسارع"، فلقد بلغت معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين. ومن أسباب هذا التغير المتسارع الرئيسية التقلص المتزايد للفترة اللازمة لتحويل الاكتشاف العلمي إلى منتجات ملموسة أو خدمات محسوسة ذات عائد إقصاد مرتفع. فلقد تقلصت هذه الفترة من 31 سنة في أوائل القرن العشرين لتصبح اليوم حوالي ثماني سنوات. واليوم يتراوح زمن دورة التغيير والتجديد في التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعية ما بين 6 و 8 سنوات

مأزق العقل البسيط
يشكل تعقد الواقع بأبعاده الثلاثة تحديا للعقل البسيط. فآليات تفكير هذ العقل القائمة على "الثنائيات" تحد من قدرته على فهم ظواهر هذا الواقع وعلى تفسير أحداثه. فرؤيته للأمور تختزل ثراء ألوان الواقع المعاش والملموس إلى لونين فقط هما الأبيض والأسود رافضة بذلك الإعتراف حتى بوجود الرماديات. أما أحكامه على الأفكار فلا تخرج عن حكمى "الصواب المطلق" أو "الخطأ المبين". لذا نراه يكره التعدد والتنوع فيعمد عند تحليله لظواهر الواقع وأحداثه إلى "إغفال" أغلب العناصر الداخلة في تشكيلها. وهو إغفال لا يحكمه منطق العلم بقدر ما يحكمه منطق العاطفة أو المصلحة. أما نظرته إلى طبيعة العلاقات بين مكونات الواقع المعاصر تحكمها ثنائية "القبول المطلق" و"الرفض اللامحدود"، أو تنائية "الفسطاطين"، التي لا مكان فيها لمفهوم "التواقف". أو بلغة "نظرية المباريات" يعتبر العقل البسيط العلاقة بين أي طرفين كـ "مباراة صفرية" نتيجتها النهائية هي طرف "غالب" وطرف "مغلوب". وأخيرا يقف العقل البسيط أمام "التغير المتسارع" موقف "قلة الحيلة" إذ لا تسمح له إمكانياته بالمشاركة في صنعه ولاتسمح له قدراته باستيعابه والتكيف معه ليقع في فخ "الاغتراب". وهكذا لا يجد العقل البسيط أمامه للهروب من هذا الفخ إلا طريفان. الطريق الأول هو التشبث بإعادة إنتاج حقبة تاريخية يطلق عليها اسم "العصر الذهبي" ... !. أما الطريق الثاني فهو الهروب من "عالم الشهادة" إلى "عالم الغيب" متلمسا الراحة في الفردوس المنشود ...؟

نخبتنا وخطابها المسطح
لا يجد المتأمل في الخطاب الشائع لأفراد النخبة المصرية، بكافة أطيافها، صعوبة تذكر في التعرف على الكثير من ملامح "العقل البسيط" التي تسود أغلب هذا الخطاب. ومن أبرز هذه الملامح تسيد "ثقافة التبسيط المخل والنظرة التجزيئية للأمور". ويسفر تبنى هذه النظرة للواقع عن رؤى فقيرة وتفسيرات سطحية وأحادية النزعة لظواهره وأحداثه. كما تؤدى هذه النظرة أيضا إلى تضاؤل إمكانية التعايش المتكافئ والبناء مع الآخر فكرا كان أو أفرادا أو جماعات. وفى ظل تسيد هذه النظرة على عقول أغلب افراد النخبة المصرية تزدهر وتشيع بينهم "نظرية المؤامرة البارانويدوية" Paranoid Conspiracy Theory كمنهج لتفسير أسباب ما يقع في العالم من أحداث. ويقوم منهج التفسير القائم على هذه النظرية على مبدأ مفاده أن أي حدث لابد وأن يكون وراءه كيان خفي، حكومة أو جماعة أو تنظيم، ذو نوايا خبيثة وحاقدة خطط لهذا الجدث وعمل بطريقة سرية وماكرة على وقوعه. كما يغفل من يتبنى هذا المنهج أساليب التفكير العلمي والتحليل المنطقي في تحليل الشواهد بل ويتعمد تشويهها وتحريفها لتلائم ما يسعى إليه من تفسير مسبق. كما يعتقد أصحاب نظرية المؤامرة اعتقادا راسخا لا يتزعزع في صحة نظريتهم وبأنها فوق النقد وأن من لا يعتنقها هو غافل أو مخدوع على أحسن تقدير.

إن تسيد منهج "العقل البسيط" على فكر النخبة المصرية يعوقها عن التشخيص السليم لما يواجهه المجتمع المصري من مشاكل حقيقية ويستنزف ويهدر إمكانياتها في حوارات ومعارك حول قضايا وهمية. والأخطر من ذلك فيما يؤدى له خطاب هذه النخبة من "تسطيح" للعقل المصري فيجعله أرضا خصبة لتيارات تعمل على تعطيله وعلى حشوه بالمغالطات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة جميلة ...واريد مساعدة
سالم ( 2013 / 12 / 3 - 17:18 )
ما شاء الله مقالة جميلة .....هل هناك من يدلنا على كيفية النشر في هذه المجلة او غيرها ...لذي بحوث مطمورة من اجتهادي الشخصي واريد نشرها اذا ممكن .....سالم باحث فلسفة

[email protected]

اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة