الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضحك الفتيات من هيبة الدولة

فتحي المسكيني

2013 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية



ثمّة تساؤل أخذ يطلّ برأسه بشكل مزعج: هل نحن جديرون أصلا بالانتساب إلى تراث "الثورة" في تونس وفي مصر خاصة ؟ طبعا، ثمّة من هوّن الأمر على نفسه وعفا عنها بالمسارعة إلى القول بأنّ الثورة صيغة مبالغة، وأنّ ما وقع هو مجرد انتفاضة. كأنّ المشكل هو محض عراك ألفاظ، يكفي أن نحتاط في استخدام المصطلحات حتى ننجو من المساءلة الأخلاقية أو التاريخية العسيرة، وخصوصا تلك المساءلة التي تصدر عن الفقراء، السكّان الأصليين للثورات في كل مكان وكل زمان.
ولكن من يحقّ له اليوم أن يستلم الكلام على الثورة ؟ أجل، صار السؤال عن الأحقيّة في الكلام باسم الشعوب التي ثارت على العصر الدكتاتوري سؤالا ملحّا أكثر من أي وقت مضى. والخبر العاجل هنا هو: سقوط الدولة. فهل دولة هي تلك التي تريد مقاومة الإسلاميين باعتقال الأطفال العائدين من المدرسة ؟ ونصب محاكمات الرأي للفتيات اللاتي اكتشفن حرية التعبير بالأجساد منذ بعضة أسابيع روحية ؟ وإعداد قانون لمنع التظاهر في شوارع علّمت أمم العالم ما بعد الحديث أنّ اعتصام الجموع في الساحات هو عمل أخلاقي من الطراز الرفيع على معركة الحرية وليس زخرفا سيميائيّا تابعا لثقافة الفرجة ومجتمع المشهد ؟ وانتهاء بقتل الطلبة في حرم الجامعة كتقنية أمنية للدفاع عن السلم الأهلي ؟ ...
سقطت الدولة وتحولت دولة الثورة الى محكمة و بدأ يصلنا بكاء أطفال معتقلين يُقادون الى مدرسة من نوع آخر ..تلك التي يمكن أن تسجن الأناشيد و تصادر ضحك الفتيات من هيبة الدولة ..
هل ندافع بهذا التصريح ضدّ دول الثورة أو معارضات الثورة، عن "شرعية" ما ؟ كلاّ. وعلينا أن نسأل: من مازال يمكنه أن يدّعي أن يمثّل الثورة ؟ وكيف يجوز السكوت عن عودة الدولة الأمنية إلى استئناف العصر الدكتاتوري باسم الثورة ؟ - أجل، كل الثورات السابقة، ثورات الدولة الأمة قد قادت إلى تأسيس العصر الدكتاتوري وتنصيب الحكام الهوويين في كل مكان. ولكن هل هذا قدر لا يقبل أيّة مراجعة تاريخية ؟ ألم تأت الثورات العربية ما بعد القومية لإخراجنا من العصر الدكتاتوري بلا رجعة ؟ أم أنّ اعتلاء الإسلامويين سدّة الحكم هو الذي فاجأ الطبقات السياسية الحداثية ودفع بها إلى تفضيل العصر الدكتاتوري عليها ؟
إنّ خوفا هوويا مضاعفاً قد أخذ يقضّ مضجع العقل عند المثقفين الذين عاصروا الثورة: الخوف من هوويّة المنتصرين في انتخابات حكومات الثورة، ولكن أيضا وبنفس القدر الخوف من علمانية الحكم البائد ومن لعابها السياسي الذي بدأ يسيل نحو استعادة مواقع السلطة وإعادة ترتيب البيت باسم الشعار الطويل الأمد للحاكم الأمني: منع أسلمة المجتمع أو منع الإسلامويين سواء من الوصول إلى الحكم أو من الاحتفاظ به.
هل قُدّر علينا أن نظلّ مرهونين لدى دعاة الدولة الأمنية باسم الحاجة إلى حماية تاريخية من عودة الأصوليين إلى حلبة الصراع على السلطة ؟ ومتى يكفّ الإسلاميون عن تهديدنا بالأصول والأسلاف وتطبيق الشرائع والعقائد والأجهزة الهووية من كل نوع ؟ - إنّ الكتابة نفسها بهذا النفس هي تهمة أخلاقية للمثقف. ولن ترضى عنك الهوية ولا العلمانية حتى تتبع ملتها أو دولتها.
ليس على المثقف أن يدافع عن أيّة شرعية و لا أيّ أخونة تجرّ أشقّاءها الى مشنقة الدولة ، بل نحن نريد أن نسجّل هذه الواقعة المزعجة: إنّ شكل الدولة لدينا في خطر. وعلينا أن نتساءل بسرعة: إلى أين سيذهب الثوريون الجدد بالدولة ؟
إذا تمّت سرقة الثورة من الفقراء باسم الحاجة القانونية إلى تأسيس الشرعية السياسية و تحويلها الى عمل هووي طويل الأمد على أوجاعهم، من قبل الإسلاميوين، فانّ الثورة قد سرقت مرّة أخرى من طرف الذين قامت ضدّهم : من طرف كل أصناف الانقلابيين على الحرية، مهما كان مضمونها . نعم، إنّ المقايضة بين الحرية والأمن هي تجارة باطلة بين الدول والشعوب. ولا تنتج إلاّ الإرهابيين، أي العاجزين عن الحرية من فرط الهواجس الهووية. متى تعود الدولة إلى الفقراء ؟ متى يكفّ الأمن عن أن يكون ثمنا علينا دفعه مقابل الحماية من الأصوليين ؟
لقد تمّ لوم الاسلامويين في تونس وفي مصر على الاستعمال المفرط للهواجس الهووية في الانتخابات و تنصيب شرعيات سياسية غير مشروعة أخلاقيا و تاريخيا ،ونعني بذلك أنّ النضال الحديث لشعوبنا منذ قرنين لم يكن من أجل أن تصبح جماعات مسلمة أو ورشات لتطبيق الشريعة على الأجيال الحديثة، مرّة أخرى. فانّ تطبيق الشريعة مثلا أو أسلمة المجتمع هو محض ترف أخلاقي وبذخ سياسي زائد عن الحاجة التاريخية للشعوب، بالمقارنة مع صرخات الكرامة المُهانة والحياة البشرية المُداسة في كل مكان و بالنظر إلى تاريخ الألم اليومي في كل جسد صار يخجل من أيّ نقاش عن الانتماء، لأنّ الخبز لا وطن له و ليس له وقت لنقاشات الهوية . فالخطر المحدق بالأجساد ليس الذهاب الى الجحيم بل خطر فقدان المناعة الحيوية من الانقراض الدنيوي، والذي أصبح فجأة أحد خيارات المستقبل لشعوب بلا أفق.
إن ما ندافع عنه إذن هو حق الفقراء في العودة إلى البيت اليومي وليس الأخروي، دون أيّ إزعاج من الحاكم الهووي، مهما كان اسمه أو لقبه أو شعاره. و إذا كان الاسلامويون قد فشلوا في استلام آلة الثورة و تحويلها الى بُشرى تاريخية للشعوب الخارجة من عصر الدكتاتورية، و ذلك بسبب ثقل الرواسب الهووية العميقة في تصوّرهم للدولة أو للشرعية السياسية، فانّ من ينقلب على الاسلامويين الشرعيين ليس بأفضل منهم، عندما نحتكم إلى المطالب الحيوية للثورة : المطالب التي تؤدي رأسا إلى تحقيق دولة الفقراء . إنّ الأمن ليس مقابلا مناسبا للحرية.
ومرّة أخرى، يعود الحاكم الأمني إلى عمله و يستأنف أخطاء الدكتاتور من حيث يدري أو لا يدري : قتل الطلبة و سجن الأطفال و محاكمة النساء و منع التظاهر و إقامة الحواجز بين الأجساد و العقول و الآراء و محاصرة اليومي و تحويله إلى تهمة ...و علينا أن نعترف بهذه الحقيقة المزعجة : كيف يمكن ائتمان الليبراليين على الثورة ؟ أليست كل الثورات الحديثة قد كانت ضدّ الدولة الليبرالية ؟ ثمّ هل هناك هدية على طبق من ذهب أفضل من عمل الدولة الحديثة على تحويل الاسلامويين الى شهداء للحرية الثورية؟ إذْ مع كل اعتداء على الأطفال أو النساء أو الأبرياء يزداد " الشرعيون " الإسلاموين " شرعية "، و يتحولون بواقع الحال إلى منقذين ومخلّصين للدولة الحديثة؛ وممّن ؟ - من دعاة الدولة المدنية ومناصري الانتقال الديمقراطي ؟ ..فهل ثمّة مفارقة معيارية أكثر من هذا : أن يصبح من لا ينتمي إلى براديغم الدولة الحديثة ولا يؤمن بقيمه – من ذاتية مفكّرة و مواطنة شريكة و قانون طبيعي و عقد اجتماعي و دستور وضعي وحريات شخصية أساسية لا تقبل الاستلاب و قيم علمانية صريحة و إلحاد علمي وإيمان شخصي..- أن يصبح من لا يؤمن بكل ذلك منقذا و مخلّصا له من أيدي الليبراليين، الذين عوّضوا الحكم الاستعماري بالحكم الوطني، دون أن ينجحوا في تأمين الانتقال التاريخي نحو الحداثة السياسية، وفشلوا في تحقيق شرطي إمكانها الكبيرين، نعني التنمية والديمقراطية، وتمّت الثورة على الحاكم الهووي الذي نصّبوه في ضمير الجيل الحالي، لكنّهم عادوا اليوم إلى سرقة الثورة من أيدي الاسلامويين، بعد أن سرقوها هم أنفسهم من أيدي اليساريين و النقابيين و الأحرار بواسطة الانتخابات الشفافة.
من يحقّ له اليوم إذن أن يستلم تاريخ الفقراء و يعيد الثورة إلى أهلها بعد أن كثُر المدّعون للشرعيات الثورية من كلّ نوع ؟ - نحن نقول: لا بدّ أن يكون " يسارا ما "، إلا أنّه بالتأكيد ليس اليسار الحالي في وعيه بذاته الحالي و مفرداته الحالية و ضعفه الحالي ..على أنّ ضعف المدافعين عن الفقراء ليس حجّة ضدّهم و لن يكون دليلا على شرعية الليبراليين مهما كان نوعهم أكانوا علمانيين أو اسلاميين .وحده يسار الفقراء المنشود يحقّ له أن يستلم الثورة مرّة أخرى و يستأنف معارك الكرامة بلا شروط هووية على أي نوع من الانتماء. ولكن أين هو اليوم يسار الفقراء ؟
نحن نعيش أكبر سرقة تاريخية لفكرة الثورة من ضمائر الشعوب التي كدحت طويلا حتى تخرج من العصر الدكتاتوري ..لكن عصر الكرامة تعسّر عليها و لم يبدأ بعدُ .و ما يحدث الى حدّ الآن من صراع مزعوم بين العلمانيين و الدينيين هو نقاش عائلي بين الملحدين بالإله الأخير للفقراء: اله الكرامة أو التكريم الذي تأجّل الإيمان الكبير به إلى حدّ الآن .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: إسرائيل لن ترسل وفدها إلى القاهرة في


.. مصادر طبية تابعة لحماس: ارتفاع عدد القتلى في قطاع غزة إلى 34




.. نتنياهو يؤجل للمرة الثانية عملية اجتياح مدينة رفح


.. دمار بشوارع بلدة جلبون شرقي جنين بعد عمليات تجريف من قبل الا




.. سرايا القدس: قصف تجمع لجنود الاحتلال بالاشتراك مع كتائب أبو