الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وليمة الأجداد(1)

نزيه كوثراني

2013 / 12 / 8
كتابات ساخرة


يموت الإرهابي وعينه على مزبلة السلطة… يموت الديك وعينه على المزبلة أم على الجنة؟



1

على ضوء الرصاص الأبيض الفضي رأيت وجه أمي مسربلا بالدم يقتعد الرصيف. ذاكرتي ترتعش باضطراب ما بعد صدمة فوضى تناثر شظايا امرأة من دمي، إلا من يد ظلت تقبض على يدي بحرارة أم تحمي صغيرها من رعب الانفجار الرهيب. ذاكرتي تستعرض بسخاء مبتور شريط متن وقائع الحدث قبل ثلاثة عقود، فأي مبنى لشكل التذكر يريده منطق العرض والكتابة لزمن أيامي، وأنا في حمى صيرورة الزمن أبحث عن وجه امرأة بين النساء، فلا أجد فيهن امرأة تشبه النساء. حملت أشلاءها في الأعالي سيارة مفخخة على قارعة الطريق. لأكثر من ثلاثة عقود وأنا أبحث عن وجه امرأة يطفئ حريق البكاء المندلع بصمت مخنوق تراجعت فيه الدموع إلى الخلف في الأعماق، والآن لم يعد لحلم البكاء على صدر دافئ أثر ولا معنى، فكل زخات الدمع تنحدر على خدود وجه امرأة أعرفها في كل نساء الآلام والفواجع والمجازر.

فلتمطر السماء أو لا تمطر، ليسقط الثلج مع أول خيوط الفجر أو ليؤجل شغب ترنحه إلى وقت غسق الأصيل، لم تعد حمرة نيران العشق والشوق وما تبقى من كأس الحب تعنيني. الأرض أفسدت خدعة السماء فأسقطت أقنعة الآلهة، فبدت على عروش سلطتها وجوها بشرية ذميمة الخلقة والخلق، وهي ممعنة في تهجير شعوبها واقتلاعهم من الأرض والتاريخ … وفتحت حرمة الوطن بشعبه لكل تجار الحشيش القروسطي. فاشتعل حماس القتلة في الهدم والردم واستعمال مختلف الأسلحة المحرمة والمحللة عبر التاريخ البشري. لم يعد الخط الأحمر أحمرا عند القاتل والسفاح والجزار . سيولة دم المجازر تترقرق من تحت أنقاض المنازل والملاجئ. رعد مطر غزير الأحزان والعذاب والآلام تتلألأ الدماء في برقه. شعوب تذبح على إيقاع عدسات التصوير وعلى موائد اللقاءات والمؤتمرات السرية والعلنية، يؤكل لحمها الحي، وتقتلع جذور ذاكرة الأرض والإنسان. من كان يصدق أو يعتقد أن أنظمتنا من سلالة آكلة لحوم شعوبها. من كان يخمن أن الفتنة ليست أكثر من هرة ماتت في حديث ابن هريرة بين الحرية والعيش على خشاش الأرض.

شيء ما يتحرك في داخلي بلهيب الحمم البركانية. وهذا البحر بجنون موجه الهادر يعجز عن تحدي العنف الصاخب الدموي الذي يتفجر في داخلي برائحته النتنة المقرفة التي رسبها تطاول زمن الأجداد في جوف ذاتي، بختم من نصوص القداسة البشرية التي سيجت نزوتها وسلطتها القهرية، بهلوسات الآلهة، وهي تدس سم حشيش جنة شيوخ عشائر نفط وغاز القلعة الفارسية، وفروع خليج الجهاد العربية الإسلامية، وطوطم الدولار الأمريكي، في قلوب وعقول شباب الهدر.

ما هذا اللف والدوران، ولم المراوغة والخداع؟ لتكن لدي الجرأة للاستجابة للحياة المتماوجة في دواخلي، وهي تزلزل صفائحي لتخرج أثقال ما قبل تاريخي الهمجي، المزين بسجع الآلهة والهيمنة الامبريالية. مرة أخرى.. وللمرة الألف لأمتلك ما يكفي من الشجاعة للانسجام مع الحياة المتفجرة والوثابة بقوة عنيدة في ثنايا جسدي. لأصفي حسابي مع عقدة الذنب والتأثيم الوسواسي، فأنا لا أريد بعد اليوم أن أكون مملوءا بوهم الذنب، مرعوبا بعبادة حراس الدين الذين نهبوا وتملكوا الدنيا. حراس/ الدين توأمان سفكا الكثير من الدماء البشرية البريئة.

كم هو صعب ومؤلم صد الكتابة وهي تتفنن في تعذيبي على حافتها بطقوس الجلاد، ملحة بوقاحة عاهرة متمرسة في حرفتها على أن أسلم بتعرية ذاتي قبل السماح لي بتعرية الآخرين. شهوة حمقاء نزقة تتلاطم في أعماقي، وأنا أحلم بالارتماء على صدرها وتذوق حرارة شفتيها. شهوة حلم في كتابة تسمح لي بتخطي تخوم حافة نهدي صدرها العاري، ومعانقة شبقها المسعور، وأنا أسلم لها بقتل كل الأصوات الكامنة في دواخلي، ولا أخشى في الاعتراف بأن كل أنواتي السرية والعلنية فانية، ويبقى جمال وفتنة جسد الكتابة ذو جلال المتعة و إكرام اللذة وحرقة ألم الترحال الذي لا ينتهي في عرس دم لا ينتهي…

علي أن أمتلك الشجاعة لمجابهة الموت في عقر ذاتي المسكونة بالعتبات المقدسة، ومراجع الرجال المبشرين بالفهلوة وشبق حور النساء، و المسكونة أيضا بأضرحة الأولياء والفقهاء والسياسيين وأنصاف المثقفين المحتالين، والمقنعين برداء إقطاع الأمراء والفقهاء والعسكر. علي بأن أعترف وأقول صراحة كم كنت جبانا ونذلا وأنا أتجنب دخول سعير الكتابة، والصلاة على مذبح شهوة صفحة سجادتها البيضاء المضرجة بدماء الغدر الذي ارتكبه العسكر و الحشاشون الجدد في المشرق والمغرب. كم كنت جبانا ونذلا وأنا أتحاشى الإقدام على ممارسة جريمة القتل، وتصفية كل صوت يسكنني في الداخل ويرغمني على تزوير تجربتي الحياتية والوجودية. صراخ عميق في أدغال الذات، وحزن ورعب وألم يمتد ويتمدد – كل هذا وغيره كثير - في تجاويف القلب وألياف الأعصاب، وأنا أفكر بشكل عملي وبتوتر بالغ القسوة والعنف في هدم أوكار دعارة لاشعوري الثقافي الجمعي، والإجهاز دون شفقة ولا رحمة على ما تبقى من عفونة كهوف الآباء والأجداد. كنت رعديدا ربما لأنني لم أكن حيا بما فيه الكفاية لأخلق استيهاما ينقذني من مقبرة الموتى، ومن مطر الدماء المتدفق من أعماق ذاتي الموصولة بما قبل تاريخي، و من هذا الامتداد الروحي والجسدي لولادة الدعوة ونشوء الدولة، و بسقيفة بني ساعدة، وآلاف الفتن والمجازر الرهيبة لعنف الدماء، وهو ينحر آلاف الرقاب في الطرقات والساحات وتحت المنابر. وتجر من النواصي والأقدام عشرات إن لم نقل آلاف النساء والأطفال كجواري وعبيد، تباع في أسواق حرب حلال جهاد النكاح فما أشبه اليوم بالأمس. أرتجف وأكاد يغمى علي من شدة بلل مطر القتل المنهمر علي بجنون أهوج، باسم الفتح و الجهاد والواجب الديني في تبدل الدول، لإعلاء كلمة الله وكلمة الله هي العليا. بغداد و الموصل، حلب و دمشق، بيروت السهر والحمى، غزة والقدس، سيناء و القاهرة، بنغازي وطرابلس، تونس والجزائر ومراكش…

لا أحد ينام في هذه المدن التي غادرها وهجرها الصبح وضوء النهار، وهي الآن غارقة تتخبط في ليل مترع بالعويل والندب والصراخ، ليل دامس مرعب ومرهب، تنفتح فيه ذاكرتي على متخيل الفرح الكاذب لروعة الاصطفاء الإلهي لعباده المؤمنين، وهم يرتشفون من كأس محمد و حمزة وعلي وخالد والحسين…فرسان الله الذين يتقاطفون آلافا من رؤوس الإخوة الكفار ذات اليمين وذات الشمال، ويزداد فرحي غبطة وجنونا بقتل أعداء الله والنصر والسبي. أجد نفسي هناك في ساحة الوغى والدماء تسيل بغزارة من الأجساد، مترنحا بنشوة الفتك وسفك دماء الإخوة الكفار سنيين أو شيعيين أو علمانيين…

كيف لي الآن أن أفهم وجودي في هذا الزمن الغشوم، وأنا أكتشف حياة لي قبل هذا التاريخ بقرون، مرحلة من عمري كانت مخبأة تحت رداء عربة تاريخ العسكر والفقهاء والمحدثين التي تجرها خيول مطهمة من مقدس السماء . أي طاعن في السن، وأي معمر أنا في بركة عمر الدم الزمني، وأنا أرى الخيط الرفيع الموصول بمحبة الله في قتل خلقه الكفار بعشق السلطة و نزوة استبداد التحكم في المصير البشري لحياة الشعوب، بأيدي بطش مقدس العسكر والفقهاء، وهو يسفك الدم الإنساني، وينشر الخراب والدمار والجثث. ويزداد صراخ الحياة في دمي طلبا لاستيهام ينتشلني من وليمة مزبلة الأجداد حتى أزف بشرى الحدادة عليهم، بعد دفن الجزء الميت من ذات ما قبل تاريخي، وأضع شاهدة قبر على هذا الإرث الثقيل بعنف الدماء والحقد والكراهية والظلم والاستبداد…

الآن ليس بإمكان الآيات الشيطانية أن تخادعني وتراوغني وتفقدني وجودي الأصيل في أن أكون وأصير. صوت الأب الساقط في جب ذاتي يغالب نزعه الأخير في رؤيا الفداء وهو يدرك أن الكلام لا يحتمل إلا “افعل يا بني ماتراه مناسبا” بدل “يا أبتي افعل ما تؤمر به”.

لم يعد بإمكاني مواصلة الهروب وتجنب فعل الجريمة النكراء، كما يقول الناس عادة في مثل هذه الأحداث والمواقف، و إن كنت شخصيا لا أرى فيما أفكر فيه سوى حقا شخصيا علي ممارسته، بكل حرية بعيدا عن أي تفسير نفسي اجتماعي مرضي يجعل من وضعيتي حالة نفسية مرضية عدوانية مترسبة في الأعماق. فالمسألة ببساطة تتعلق بحقي في الوجود، وفي الحياة كإنسان عاش فعلا الحياة البشرية في هذا الاجتماع الإنساني بحلاوته ومرارته. حاولت مرارا تجنب فعل القتل بتناسي الفكرة والعمل على إبعادها عن مسرح الذاكرة واشتغال الدماغ، لكن سرعان ما تبوء محاولاتي التعيسة بالفشل، لأن فعل القتل سكنني بقوة لا تقهر، فحياتي أصبحت جحيما لا يطاق، ولم يعد بإمكاني الصبر طويلا في وجه تابوت الموت الذي يحيط بي، و يؤطر تفكيري ومشاعري، ويفتك بكل ما يجعل من الإنسان إنسانا حقيقيا. خصمي هذا يخنق الفرح والأمل في أعماقي، وهو ممعن في تحنيطي استعدادا للدفن، وأنا في مقتبل العمر حيا يرزق في غاية العنفوان. كل شيء صار محرقة وعذابا لا ينتهي، بدءا باللغة اليومية لتواصلي مع الآخرين. هذه اللغة الجاهزة السافلة المتحدية لخصوبة الحياة والعطاء، و المسكوكة بتاريخ ثقافي اجتماعي، من خلال مفردات وجمل وعبارات ومعاني نفسية معرفية لاستعارات تراكيب لغوية، تحدد قوالبي الذهنية، وترسم حدود فعلي وآفاق تفكيري، كما تخط الدروب والمنعرجات الملتوية والضيقة لآلية رؤيتي للآخرين والعالم والحياة، والتي علي السير فيها رغما عني بخنوع وخضوع تامين، وبطاعة عمياء مسلوب الإرادة وحق الاعتراض، و دون السماح لي بأدنى حس للشك والسؤال والنقد، ناهيك عن النقض. والخطير في الأمر أنها تلتهم أحلامي وتغتال خيالي، وهو لا يزال جنينا في رحم التفكير. يوما عن يوم أزداد اقتناعا بأني مدعو للعيش في مقبرة الماضي رغما عني، و إلى الرقص حزينا في حفلة الموتى محطم العقل و القلب والوجدان، وأنا أستلذ بشره استهلاك الموت في وليمة مزبلة الأجداد، وكأني ألتهم مزيدا من الحطب لأطفئ النار التي تلتهب في دواخلي، وهي لا تكف عن القول هل هناك من مزيد؟ لم تكن طفولتي مؤلمة في علاقتي بأمي، ولا كانت علاقتي بأبي سيئة إلى درجة يمكن أن تكون هي السبب الذي يحاصرني الآن من كل جانب، فيفرض علي ضرورة التفكير في قتله. والدي كان إنسانا رائعا ومناضلا شريفا بمعنى الكلمة، وأنا لا أصدر الآن أية أحكام قيمة رغبة في تقوية شعوري بالذنب، وأنا أفكر في خلاص من هذا الموت الذي يطوقني ويحرمني حقي في الوجود والحياة، بشكل ذاتي وبكامل استقلال لشخصيتي الإنسانية التي لا تطمح لأكثر من العيش، وبصم عبوري دنيا الحياة بصورة مميزة تعبر عن أنني مررت من هنا بحرية وكرامة، دون أن ألزم نفسي بأي معتقد أو تقليد مادي أو رمزي، مهما كانت أرضه وسماؤه وسموه. حاولت بكل قواي النفسية والمعرفية والعقلية التغلب على فعل القتل باختلاق الأعذار ولوم النفس والإكثار من مبررات تأنيب الضمير الخلقي، وعيش وضعيات التأثيم ومحاصرة نفسي برعب النقد الذاتي للفعل الهمجي المشين، لكن أشياء كثيرة لا أعرف من أين كانت تنبعث وهي تخرج مندفعة بقوة الحياة من الذاكرة المجهولة لكهوف لاشعور تربيتي الثقافية والاجتماعية. كانت تلك الأشياء ثاوية في النفس والتفكير والرؤية، منسوجة ومركبة بخفة العنكبوت، لكنها كانت حية ودينامية ولها من العمق والاتساع والآفاق ما يستعصي على الطمس والإلغاء، و على الفهم المباشر والرؤية السطحية المتسرعة. وعندما أتأملها بترو وبتفكير موضوعي ونقد هادئ أدر ك أن لها من الأسرار ما يكفي لربطها بجنون عشق الحياة والحب والمتعة واللذة، و بنوع التواصل الحميمي الرائع لأسرتي. لم نكن أغنياء بل كنا نتأرجح على عتبة الفقر وما دون خط البشر.

الآن أتعرف كيف كانت آلية القتل تشحذ أسلحتها في غفلة مني عبر التكون الجنيني لوعي الظلم والقهر ورفض الجوع والذل والحرمان ونبذ التهميش والإقصاء. كانت رحى الحرب الخفية السياسية، الاجتماعية و الاقتصادية تعمل بشكل جنوني دون أن يرف لها جفن الشفقة والرحمة، ولا حس الضمير الأخلاقي. وكان المتعلمون والسياسيون و فقهاء الله يحاولون خداعنا بوهم مضلل لتضميد الجراح، وتسكين الأوجاع والعذابات التي تفقأ العيون، حيث ينساب نزيف الدماء بغزارة صامتة تختنق لها اللوعة والصرخة و الغصة في القلب والحلق، فتنفجر الأمراض في اللوائح الصخرية التحتية للجسد. تهتز الأعضاء الداخلية بعنف زلزالي، تعقبه حركات ارتدادية للقلق والغم والغضب، الشيء الذي يورث أمراضا مزمنة، تتشكل على إثرها طوابير من أناس ما دون خط البشر في المستشفيات، و بين جنبات مقامات ومزارات وأضرحة الأولياء والصالحين لمعالجة المرضى من حمم البراكين التي انفجرت في أعماقهم، وكثيرا ما كانت تفشل هذه الأساليب الغيبية والسحرية والخرافية في تهدئة فوهات البراكين المسعورة في عمق الذوات. و صفوف أخرى على عتبات السجون لزيارة المعتقلين والأحداث الجانحين دون الحديث عن المفقودين. وآخرين عند الشواطئ البعيدة لحلم جنة الهجرة يقفون بعيون ذابلة مذهولة ترقبا لجثث قوارب الموت التي قد يوافق البحر إذا راق مزاجه على الترخيص بمنحها شهادة الوفاة حين يسمح بخروجها من عمق دهاليزه، وفي لحظات أخرى يصر على إخفاء الجثث وجعل أصحابها من المفقودين الذين يجهل مصيرهم، فتبقى الكثير من الملفات الإدارية عالقة ولا تجد لها حلولا مناسبة إلا بطرق ملتوية يصعب عبورها في غياب القوة والنفوذ والعلاقات الحمائية المادية والرمزية. وآخرون يتكدسون في مقاهي قتل الوقت، وتآكل الذات إلى حد التعفن والتلاشي قبل الانطفاء النهائي. ومجموعات أخرى وسط بيوت الدعارة الصريحة والمقنعة لبيع ليس اللحم والأعضاء البشرية فقط، بل أيضا التنازل عن تلك النواة الإنسانية التي تميزنا في هذا الوجود البشع والعقيم. وفي المطارات الباردة الواعدة لفتيات في عمر الزهور بحلم الفن الجنسي الحديث أو بجهاد المناكحة…

هذا هو العمر الجهنمي الذي كنت مطالبا بالنمو فيه مع أقراني وفق إيقاعه العنيف والسادي ملولبا إلى درجة فقدان الإحساس بمتطلبات النفس والعقل والجسد في صورة خرق ومزق آدمية معجونة لمسخ بشري لا أقل ولا أكثر. هكذا كان الحقد المقدس يكثر شجيراتي العصبية، ويزيد من تشبيكي العصبي، ويحمي قشرة دماغي من أي ترقيق. كان الحقد يتناسل برعب مؤلم، وهو يرمي بي دون رحمة من شك لآخر، ومن سؤال لآخر، ومن نقد لأخر عبر مسار منعرجات لولبية صاعدة ومولدة للدوخة والغثيان، ولصدمة ارتطام متطلبات العقل والوعي بواقع الحياة البذيء المعاش، والمحنط في دواليب النفس والدماغ، والمخزن في أماكن تكدس الدهون، مما يسبب زيادة كولسترول القهر والتمرد والثورة. لذلك غالبا ما تخطئ مختبرات التحليلات الطبية أمراضنا. هذا ما ورطني في لغز فك الأسرار الجهنمية للحياة الدنيا، وهي تلعب لعبتها القذرة في القذف بنا وسط أغلبية الشعب إلى القاع الملتهب للقمة العيش وتناسل فضيحة النوع البشري، الأقرب إلى القمل والجرذان، هكذا نحتوا أسماءنا الحسنى مثل الرعاع والأوباش وأهل الشر والغوغاء والجراثيم والجرذان… هل هكذا علم الله أدم الأسماء كلها؟

هل كنت أنمو حقا كسائر الأطفال وفق جدلية البناء المعرفي التصاعدي للتوازن والاختلال؟ وهل كنت طفلا بريئا أم كنت متهما بمعرفة من أين تؤكل الكتف، وتكسر الرقبة، وتقبيل اليد التي لا أستطيع قطعها؟ أصحيح كنت بعيدا عن الذكاء المعرفي والمنطقي الرياضي، وقريبا من ذكاء التحايل وتدبير الحال؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كنا نتذمر من فقر وذل الاضطهاد والقهر الاجتماعي والسياسي، و نحن نبدع الكثير من التعبيرات الشفهية الشعبية في الغناء والشعر والرقص والأمثال والحكم والوشم وفي الكثير من طقوس العبور في الولادة والعرس والموت…؟

وما السر في هذا الكم الهائل من الأحزان والعنف و الحقد والكراهية والعدوانية الفائضة التي تسير بالموازاة مع الرفض والصمود والمقاومة والتمرد والثورة والرغبة الحمقاء في قتل الآباء والأجداد والتخلص من وليمة مزبلة الماضي، و من كل القيود والأغلال التي نصبها السلف في طريقنا تعتيما على رؤية مفترق الطرق الذي لابد من خوض تجربة سلوك سبيله مهما كلفنا ذلك من عنف الدماء؟

بناء على هذا الصراط الجهنمي لتجربة العمر والحياة و لهذه الأسباب – وغيرها كثير – كانت فكرة الإجهاز على الأب تترصد خطواتي وتلاحقني وتستفزني في كل صغيرة و كبيرة، وفي أبسط الأشياء وأعقدها في عيشي الحياة بمعناها المجتمعي الثقافي والإنساني التاريخي.

2

لم أكن أعرف ما الذي كان يفكر فيه أو بتعبير أدق كيف صار على هذا النحو من الشعور والتفكير والفعل والرغبة والإرادة؟ كل ما يمكنني قوله دون أن أدعي الصحة والحقيقة فيما أقول، أي لا أعتقد أنني أمتلك مقاربة صائبة لهذا الرجل الذي رفض منذ صغره الأبوية والتبعية والوصاية. حيث أبدى كما يبدو لي أو نتيجة عجزي عن فهمه أنواعا مختلفة من العقوق والعصيان والتمرد، بنوع من الاضطراب المعقد في الشخصية، استحال معها خلق جسور التواصل المألوف التي ينشئها عادة الصغار مع الكبار، بنوع من الرضا البعيد عن عواقب سخط التمرد. كان ذكيا ومحط اهتمام الجميع إلا أن ردود فعله وكل سلوكياته وتصرفاته يمارسها بتوتر بالغ، وعصبية ممزوجة بالقلق والغضب العنيف. أقواله وأفكاره وأحلامه لم تكن بريئة، وليس فيها قدرا جميلا من مسحة الطفولة العفوية والتلقائية المحببة إلى القلب، بل جرده وعيه المبكر بالظلم والقهر والفقر من كل ذلك السحر الجميل الجذاب لصورة الطفولة. فهمت كل هذا وأنا ألامس جحيمه الحارق في الأسئلة الكبيرة والثقيلة بكتلة الجبال الوعرة والمحفوفة بمخاطر أشكال الموت المرعبة والرهيبة المتفجرة من أعماقه. عرفت بحكم التجربة وعمر محرقة تعلم الحياة أن القهر سحقه بين أضراسه بما يكفي من الذل والخوف والنبذ والنقص والتهميش. أردت القول إن القهر بقدر ما يخلق إنسانا خنوعا عبدا خاضعا، فإنه في الوقت نفسه وبفعل عوامل كثيرة أجهلها بحكم مستواي المعرفي والثقافي، لكن رأيتها وعشتها من خلال أناس آخرين جعلتهم تجربة حياة القهر أكثر ذكاء ووعيا وجرأة ويرون الحياة بشكل مختلف، بحيث لاتحد أفقهم لقمة العيش، يصعب علينا فهمهم لأنهم يطلبون المستحيل، إذ يغرقون في الكثير من الأوهام والخيالات الجنونية المتعلقة بخرافات تغيير الحياة. أي إن بصرهم يمتد عميقا في أدغال الحياة، فيأتون المختلف من الأقوال و الأفكار والأحلام، ولهم كما قال ابني في ليلة العاصفة تطلعات وطموحات تتجاوز مرحلة عمرهم لتصل إلى أحفاد الأحفاد، حيث لا حيز كما يقول في الذاكرة والمكان للآباء والأجداد. أنا لا أعرف كيف حدث لهم ذلك أو ما هو السر في أن بيئة واحدة تجعل أشخاصا مختلفين عن الأغلبية إلى درجة التناقض. هل هو الجنون أم أن الأمر يتعلق بحالة طبيعية من مس الشياطين؟ المهم أن هذا الرجل الذي هو ابني كان من الطينة نفسها التي أحدثكم عنها. كنت أشعر بالفخر والاعتزاز، وأنا أراه شعلة من النار الملتهبة، لكن لم أكن أظهر له شيئا من هذا لأن عاطفة الأبوة كانت تحرمني من فرحة الفرح بهذه الجرأة التي خرجت من صلبي. كنت خائفا عليه إلى أبعد الحدود لأني أعرف نوع المسالك الشاقة التي تنتظر عناده وسخونة دمه الهائج. كانت الويلات الجهنمية لحياة الفاقة والقهر والتهميش تنتصب في وجهي وهي تهددني بإرهاب همجي يترقب ابني إن لم يقوس ظهره وينحني لإعصار القهر الذي قد يمزقه أشلاء على قارعة الطريق. حاولت أن أثنيه عن طريقه وسلوك سبيل المحجة البيضاء ابتغاء لمرضاة الله، لكنه يفاجئني بالكثير من الأسئلة التي كان يعسر علي إيجاد الإجابات المناسبة لها، بل يورطني في دوامة من الشكوك في معتقداتي الدينية. فأسئلته كانت منطقية ومعقولة، لكن كنت خائفا في داخلي من غضب الله وأنا أجادل في شريعة الله. لقد كان ممسوسا إلى أبعد الحدود حين يوضح لي أن شريعة الله هي من صنع البشر، لأنها تتناقض كما يقول مع تمثلنا المثالي العميق لحقيقة الله الغفور الرحيم الثواب العزيز الذي لا يمكن أن يقبل بالعبودية والرق والجواري، ولا بجهاد سفك الدماء نصرة لدينه. وغالبا ما كنت أزجره عندما يسبح بعيدا في بحر الترهات، وينأى بنفسه عن شط النجاة، خاصة حين يكرر لازمته “هل تعتقد أن الله منحط إلى هذه الدرجة ليتفرج على عباده وهم يتقاتلون من أجل دينه بهمجية لا تقوم بها الوحوش الضارية أم أن تمثلنا لصورة الإله متخلفة ومنحطة وهي تقترب إلى صورة المستبد الطاغية الذي عرفه التاريخ البشري. ألا ترى قصورنا الديني في هذا كله؟” ما يحيرني أكثر هو أنه كان دائما حزينا . لم تكن الحالة المزاجية الحزينة لتفارقه، وهذا ما يجعلني أشعر بحب جارف نحوه، وبعطف أبوي لا يخلو من قلق الحزن الناتج عن عجزي عن إدراك كيف أكون بجانبه وأساعده على تخطي المحنة التي أجهل سبر أغوارها. كانت الحياة تبدو لي تافهة ومقرفة جدا، وأنا أراه يغامر في الإبحار عكس التيار، ويقدم نفسه بشكل رخيص قربانا لمس الشياطين التي دست في دمه خيالات جنونية، يضحك منها الصغير قبل الكبير بسخرية واستهزاء. لا زلت أذكر تلك الأيام العصيبة التي تلت ليلة العاصفة، سالت فيها الكثير من الدماء، واعتقل فيها الكثير من الناس، وكان ذنبهم الوحيد أن صرخة الجوع مست الحاجات الأولية للوجود والبقاء. كنا تحت وطأة مقدار هائل من الأحزان والعذاب، ونحن نسمع نزيز الدم يتدفق في دواخلنا بفعل قوة البطش والقهر والقتل، في موقف عجزنا التام واستسلامنا الكامل. ساد الصمت الحزين، وفقد الناس ذاكرة الكلام ولم يعد أحد قادرا على نسج لغة الكلام، أو لم يعد الناس بحاجة إلى لغة عاجزة عن نصر الحياة، لذلك تساقط الكثير من الرجال والنساء وغادروا الحياة بعيون ساخرة مفتحة إلى سماء لا تنزل غير الشياطين، وما تبقى من حق كان ساهيا أو في قيلولة. إن الإنسان كائن معجزة قادر على تخطي المحن والصعاب، ومهما كانت الكارثة وحصدت من الأرواح فلم يثبت أن تغلب الموت على الحياة. هكذا بدأ الناس دورة جديدة، التفافا على إرهاب القهر، استعدادا لجولات أخرى من الكر والفر والمد والجزر حسب تحولات غدر ومكر الزمان. في تلك اللحظات أحسست بمسؤولية صعبة تجاه ابني الذي أصيب بحالة مرعبة من مرض الصمت التي لم يجد منها مخرجا إلا بعد أن احتضنته في تلك الليلة المقمرة. كنت بحكم تجربة العمر وما تعلمته من حكم الرجال أن الإنسان في مثل هذه المواقف لقوة الصدمة الخارقة يكون في أمس الحاجة إلى حضن دافئ يطمئن إليه، حتى يتسنى له فتح فوهة البركان الداخلي. ما كدت أضمه وأشد عليه بحرارة حتى انفجرت حمم من الصراخ والبكاء والعويل والأصوات القريبة إلى تأوهات الحيوانات، وكان جسده يهتز بشدة حتى اعتقدت أنه مقبل على الانفجار إلى شظايا، في تلك اللحظة شعرت ببكاء حارق يصعد من أعماق مجهولة لم أكن أعرفها، وبعرق ساخن ينط من كل المسام، هكذا انخرطنا جسدا واحدا من الصراخ والبكاء، بشكل لا إرادي في عبور قرباني لعتبة الموت. إلى اليوم مازلت واثقا من نفسي ومتأكد إلى أبعد الحدود أن تلك اللحظة الناذرة والخاطفة كومض البرق هي التي منحتنا الحياة والقوة والصلابة والقدرة على التحمل. كما لا أخفي شعوري بالفرح الكبير وأنا أستطيع انقاد ابني من وسط مخالب الموت وهي تخنقه بنية الإجهاز عليه.

هاهو الآن يصرح بعظمة لسانه بنكران الجميل والعزم على الغدر بالدم وملح الطعام. و يتجرأ بوقاحة شنعاء كغراب منحوس أجرب على التفكير في قتلي. هل نسيت يا وجه مؤخرة القرد كيف كنت مترددا وجبانا وأنت تتخلى عما تسميه أخلاقك وقناعاتك ومبادئك الحلم بمجتمع جديد، تعيش فيه المرأة بحرية وكرامة ومساواة كاملة. استسلمت لوليمة مزبلة رفاقك وهي تغريك بامتيازك الذكوري التاريخي، فحرضتك إشاعات رفاقك في حق حبيبتك ورفيقة عمرك كما تحب أن تقول بغرور الطاووس المترهل. كانت رفيقتك في أمس الحاجة إلى حضنك لتنزع تعبها وعذاباتها وتضمد جراحها، كانت في حاجة قصوى ضرورية إلى نبض القلب لتجدد نسغ قلبها بدماء حية جديدة، كانت تفكر كحياة تصارع الموت وفق متطلبات العقل والقلب. في وقت كنت ويا للمفارقة تفكر بمكتسبات فرجك التاريخية، وهم دنس جسدها وقذارته تزكم أنف فرج / عقل تفكيرك بأبشع الروائح الجنسية لشرف القبيلة والغنيمة والعقيدة. أتعبتك إلى حد الإنهاك تخيلات ما خطه المخبرون والبوليس السياسي على خريطة جسد رفيقتك. تجربة بسيطة عرتك من قشور الغضب والتمرد، وجعلتك نهبا لكل وساوس المروءة والرجولة والشرف الرفيع. أنت تذكر كيف طرحتك أرضا بالسب والشتم وآلاف الكلمات البذيئة، وباغتك هجومي العنيف إلى درجة تبادلنا فيها الأدوار بصدق الإحساس والمشاعر والأفكار، وأنا أراك تختار بوقاحة ومحدودية إرادتك الجلوس بشراهة إلى ما تسميه وليمة مزبلة الأجداد. لم تكن جديرا بالعشق والحب والإنسان، وأنت تنهزم بسهولة أمام تخيلات فحولتك التي دنس طهرها الملائكي الجلادون. هكذا عرت تجربة سجن رفيقتك سحر ألوهيتك أيها الثائر المزعوم. ماذا لو سمحت لي الآن بتعرية هذا المسكوت عنه الذي تجهله رفيقتك فلولاي ما استمرت هذه العلاقة. وبكل صدق وصراحة ما كنت مهموما بحياة أو موت تلك العلاقة بقدر ما كنت مأخوذا بتجربة امرأة جابهت بقوة وصلابة آلة القمع الدموية الرهيبة. كنت معنيا بدمها بآلامها بعذابها وصمودها وحياتها، ولهذه الأسباب التي تجهلها أيها الوغد، وليس نصرة لمبادئك وأفكارك العرجاء والعمياء، جعلتك تنتفض ضد موت قابع في دواخلك ضد مزبلة الأمس واليوم التي مسخت إنسانيتك وحولتك إلى مجرد شهوة في قبو فرج الرجولة المزعوم. وإذا أردت أن أكون صادقا في كلامي فأنا إلى اليوم أجهل الدوافع الخفية التي جعلتني أهجم عليك وأنت غارق في سبات ما أنعمت به عليك وليمة مزبلة الأجداد من تخيلات ذكورة الرجولة. هل استمر في فضح عوراتك أيها القاتل السفاح، يا شهريار هذا الزمان، وأنت تتبجح بأنك صرت الآن أكثر قيمة وإنسانية، لأنك دفعت من لحمك الحي، وكأنك تبحث عن مبررات لجريمة سفك الدماء التي تنغل في دمك منكرا حقي في الوجود والصيرورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع