الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرهاب الأزرق - إلى من أعطى دمه .. وعمره .. للحرية -

بدر الدين شنن

2013 / 12 / 11
الادب والفن


لما خرج رشاد صباحاً من البيت ، كان مرهقاً جداً ، من معاناة الليلة الماضية . ومشى دون أن يدري ، أنه سلك غير طريقه ، الذي يوصله مباشرة إلى " مقهى أبو الوفا " .. ليلتقي بحسان " آكل الكتب " كما كان يسميه مازحاً .. أو ليلعب الورق مع آخرين .
ولم يلحظ أنه غير طريقه المعتاد ، إلاّ بعد أن وجد ، أن كثيراً من عابري الطريق ، لم يكن يشاهدهم من قبل . الدكاكين .. والباعة .. هم أيضاً غير أولئك في الطريق الآخر ..
ولما قطع مسافة من الطريق ، أحس بشيء يضغط عليه .. من حوله .. ومن داخله . شيء لم يكن يحس به ، بهذا القدر في مشاويره السابقة ..
وأثناء توالي خطواته ، لفت نظره رجل عملاق ، ذو رأس ضخم يجلله شعر كث رمادي اللون أقرب إلى الزرقة ، له ملامح صارمة ، ينظر يميناً وشمالاً أثناء سيره ، كأنه يبحث عن شخص له عنده أمر هام . ثم دنا من رشاد ، وهم أن يتوقف أمامه ، لكن لما التقت نظرات العيون .. ابتعد بشكل مثير للريبة والسؤال .
استفزه منظر الرجل ، وأثارته تحركاته ، ومحاولته الاحتكاك به . وذكره بذاك الرجل الأسوأ .. من بين الرجال الذين عرفهم في حياته ..

حتى اللحظة .. يعاني جسده كله .. وخاصة قلبه .. مما جرى له قبل سنوات ، في مكان مشحون بالرعب والغضب ، على يد مثل هذا الرجل ، الذي شده بحبل مجدول بالتوحش واللؤم ، إلى آلة جعلته غير قادر على الحركة والمقاومة ، واشترك مع وحوش آخرين بإدخاله الجحيم .. لينتزعوا منه .. البوح .. بما لايباح .. وليطفئوا في قلبه شعلة هي أعز ما يملك . وبعد أن ازرق جلده وتشقق .. وكف عن الأنين والصراخ .. رغم استمرارهم بنهش لحمه .. أدركوا أنه صار على شفا الموت . أرخوا الحبل قليلاً .. ليتابعوا الأسئلة التي لاجواب لها عنده .. لكنه اقترب أكثر من الموت .. فتوقفوا عن العبث بجسده . و ظل يختلج غائباً لأيام .
وبقي شبح الموت يحاصره ، في ليله ونهاره ، وينقض عليه فجأة بين وقت وآخر . لكن من كان تعز عليهم حياتهم ، كانوا يغامرون بمخاطر مؤلمة .. ويستردونه من الموت .
ولما يعود يعي ما حوله ، كان الحزن يلفه . لأنه قد عاد من الموت ، إلى حال أكثر إيلاماً .
كم مرة عبر الموت حياته .. لايعرف .. ولايريد أن يعرف . ما يعرفه ولاينساه ، أن شبح ذاك الرجل الوحش .. كان كل مرة .. حاضراً خانقاً ..

حتى بعد مضي سنوات ، لم يعد يذكر عددها ، مازال ذاك الرجل يأتيه في أحلامه . مرة يشد بكفه الكبيرة الضخمة على عنقه ليخنقه .. ومرة يسحله فوق الشوك والحصى .. ومرة يتحول إلى كتلة شبحية ثقيلة ترتمي فوقه لتسحقه .. ومرات تتلوها مرات .. يأتيه بأشكال وصور .. لاتقل شؤماً ورهقا . وحين يصحو أثناء الحلم .. أو بعده .. يصحو متعرقاً .. مرتعشاً .. مرعوبا ..

تألم ..اخترق الألم عمق مشاعره . واستحضر في مخيلته .. لعله ينسى .. مشاهد رجال يهزون مرحين .. مراجيح الأطفال والصبايا المزينة بالزهور . ومشاهد رجال يغنون " الميجانا والعتابا " وهم على السلالم .. يقطفون عناقيد العنب .. أو حبات الزيتون الأخضر . ومشاهد رجال يشقون الأرض لتنبت خبزاً . ورجال يدافعون عن الحياة ضد الألم والموت فوق أسرة المرضى . ورجال يفكرون .. ويبدعون .. من أجل أن تكون الحياة أفضل وأجمل .

استغفر نفسه .. وتنفس بعمق مرات عدة ، وهدأ من انفعالاته .
وقبل أن يشرع بمغادرة المكان ، شعر أن شيئاً غامضاً يجذبه إلى الرجل المريب في الطريق . وهذا الشيء حرك في نفسه السؤال .. هل كان مثل هذا الرجل موجوداً في الطرق الأخرى التي كان يسلكها .. أم أنه كان يتواجد بأشكال أخرى دون أن يدري ؟ ..
وقد حضه السؤال على الاهتمام بالرجل أكثر من ذي قبل .
ونظر حوله .. وأمامه .. ووراءه .. لعله يرى الرجل . لكنه لم يتمكن من رؤيته .
وقرر صرف النظر عن الرجل .. ومتابعة الطريق .

بعد أيام ، مر أيضاً من نفس المكان . فتذكر الرجل . وبحركة لا إرادية . راح ينظر إلى حيث رأى الرجل أول مرة . وفوجيء لما رآه يرتدي كامل ألبسته باللون الأزرق ، وفي كفيه قفازان بلون الدم . ورأى حركته أسرع .
وأثاره الفضول ليعرف ، مرة ثانية ، من هو هذا الرجل ، ومن أين يأتي ، وإلى أين يتجه ، ومن وراءه . أليس لكل حركة محرك .. ولكل حركة غاية .
واقترب من الرجل راغباً أن يتعرف أكثر على كنهه وملامحه . وحين لم تعد أي مسافة بينهما ، مد يده ليلمسه .. ليضع كفه على كتفه . ودهش لما لم يجد كفه شيئاً تلمسه . بل تلاشى الرجل غازاً أزرقاً في الهواء .. وانفجر بداخله هو توازن الوعي . وأخذ يفكر بشكل هيستيري ..
هل هو الغاز يتسرب على شكل رجل .. ؟ ..
هل يعقل أن يأخذ الغاز لما يتحرر من وعائه شكل رجل ؟ .. ولماذا يتلون بالأزرق ؟ .. وماذا يعني أن يتلون بالأزرق ؟ ..
وما أن بدأ يستعيد توازنه ، لام نفسه على هذا التفكير الساذج .. وتابع طريقه .
غير أنه ظل مشدوداً إلى ما حصل معه .. وظلت أسئلته التي أهملها حول ما حصل تتكرر .. تلح على الجواب . وفجأة سمع همساً في داخله يجيب على تساؤلاته .. ولم لا ؟ .. العلم يتطور .. والحياة يحدث فيها .. كل يوم .. كل ساعة .. أشياء جديدة مفاجئة ..
وشعر برغبة جامحة ، للعودة إلى الرجل . ونظر إلى حيث كان ، فلم يجده . سار مسرعاً في الاتجاه الذي كان الرجل يتحرك نحوه ، فلم يعثر له على أثر . لكنه كان يشعر بوجوده . ويكاد يجزم أنه بالقرب منه دون أن يراه . وخطر له حسان وتحليلاته النفسية . واستهزأ بعقله وبحسان .
وأحس بالخيبة والفشل . وصار أكثر ميلاً للاستسلام لفكرة ، أن ما رآه لم يكن رجلاً .. كان وهماً . وربما كان حسب تحليلات حسان هو .. رغبة تعتمل بداخله في الحلم واليقظة .. وهي تعبر عن ذاتها برموز .. قد تكون .. أو لا تكون مطابقة لها .. تبحث عن شرط تحققها في الواقع ..
لم يقارب حسان ماهية هذه الرغبة .. وخلفياتها .. وما هو شرط تحققها .. وفي أي واقع . ولم يقارب أيضاً الجواب على السؤال .. هل لظهور الرجل في الطريق علاقة في الرغبة إياها ؟ ..
ولم يستطع هو أيضاً ، بعد التنقيب المضني في أعماقه .. أن يعرف . واستتبت الحيرة في نفسه .. وظل السؤال معلقاً .

الحال غير المتوازنة .. التي صار رشاد يكابد منها ، ’تبين أنه لم يقتنع بما ذهب إليه حسان ، ولم يطمئن لحواره الداخلي . بل إن ما قاله حسان ، وما حاور به نفسه أغاظه . لأنه كشف أن لديه نقص في المعرفة .. أو عقدة نفسية .. أو أنه عديم الأفق ، ولأنه وجد أيضاً ، أن ما يردده حسان أحياناً من آراء ، قد يكون على قدر من الحقيقة .. حول المركبات النفسية .. ودور الرغبات المكبوتة .. في سلوك الإنسان خلال نهاره ونومه .
وقد أحدث حواره الداخلي وتحليل حسان ، تشوشاً في تفكيره . ولم يستطع أن يجد أي صلة لانجذابه إلى الرجل ، في كل ما فكر فيه ، وفيما قاله حسان .
اكتأب .. حزن .. لكنه صمم أن يضع حداً لما ألم به بسبب الرجل . ولم يجد حلاً لحاله ، إلاّ بالعودة إلى الرجل ، ومحاولة أن يمسك به بكلتا يديه ، ليبرهن ، أن ما كشفه حواره الداخلي في وضعه المأزوم ، وما ورد على لسان حسان ، نتيجة مطالعاته المرهقة ، ليس بالقطع صحيحاً .

فهو ليس لديه نقص .. أو عقدة نفسية .. أو رغبة مكبوتة ..

ولما انطلق ليبحث عن الرجل من جديد ، كان يردد بصوت مسوع .. أي نقص يارجل .. أي رغبة ياحسان .. أي عقدة يا رشاد ..

ومنذ أن انطلق على الطريق وراء الرجل ، أحس بقليل من الراحة . لكنه وهو يجول بعينيه بحثاً عنه . وجد رجلاً يبدو قلقاً ، يحاول تركيز بصره حيث كان الرجل إياه . وقبل أن يتمكن من استيعاب ما رأى ، شاهد رجلاً ثان .. وإمرأة .. وآخر .. وآخر .. يبحثون بعيونهم .. وهم يسيرون في اتجاهات متعددة ، عن شيء ما . وأنبأه حدسه .. أنه الرجل .. وأن الرجل ليس كما توهم هو ، وكما نّظر حسان ، وهذا ما دفعه ، إلى أن يتابع بحثه عن الرجل .. وإلى قراءة حركة الآخرين ، المشابهين له .. بمظاهرهم .. وقلقهم .. ورهابهم من شيء يحاصرهم .. كما يحاصره .

لكن ريحاً باردة هبت دون مقدمات ، اخترقت ثيابه القديمة الرقيقة بسرعة خارقة ، وتغلغلت في جسمه حتى العظم .. وصعبت عليه رغبة الاستمرار . وأسرع يفتش عن مكان يقيه من هذا البرد اللعين . ورأى على يمينه مطعماً متوسط الحال ، ذكره بالجوع ، وفتح شهيته للطعام . وهم بالدخول إليه ، لكنه تراجع ، لأنه لايملك ثمن الوجبة المشتهاة .
وانسحب ذليلاً .
وأمضى ماتبقى من النهار ، يبحث عن الرجل .. ذهاباً وإياباً .. حيث يتوقع وجوده .. هنا أو هناك . ويفكر في احتمال وجوده ، أو عدم وجوده ، في من هو .. وفي ما يرمي إليه وجوده في الطريق . حتى دب فيه الوهن . وقرر العودة إلى حيث يقيم .
دخل البيت متسللاً ، حتى لايراه صاحبه ، ويهجم عليه هجمة رجل أمن لئيم ، مطالباً بالإيجار المتراكم .

وقبل لحظات من استسلام عينيه للنوم ، كانت ومضات مجهولة المصدر .. تبرز بإثارة مفزعة الرجل وتخفيه .. تظهر أناس مذعورين يبحثون عن شيء ما وتغيبهم .

وكان الحلم المتكرر أثناء نومه ، أنه كلما كاد أن يمسك بالرجل يهرب منه .. ويجري .. ويجري خلفه .. إلى أن يفقد أثره .. وينتشر في المكان شيء كالدخان الأزرق .. يضيع فيه الرجل والطريق .

ويبقى وحيداً .. تائهاً .. محبطاً ..

وكما منذ ليال عديدة لاتحصى ، استيقظ صباحاً .. متعباً .. حائراً . وكان حلمه الغامض مثبتاً في ذاكرته . وجلس في السرير يستعيد صوراً من الحلم . فوجد أن الرجل الذي يصارع للتخلص منه ، هو مثل ذاك الرجل ، صاحب الضربات الموجعة ، في قبو الرعب والغضب .. في ضخامته .. وارتدائه الأزرق . وكان الدخان الذي يختفي فيه .. كلما حاول الإمساك بك به في الطريق وفي الحلم .. هو أزرق ..

اضطرب .. تسارعت ضربات قلبه الواهن .. اهتز توازنه .. وصار يصرخ .. أزرق .. أزرق ..

وبعد أن هدأ قليلاً .. تساءل في نفسه .. كيف يستطيع أن يضع حداً لهذا الرهاب ، الذي حاصره في السنوات السيئة الذكر ، ثم أنى كان ، وأنى ذهب . وأن ’يغيب هذا الرجل تماماً .. بكل مظاهره .. من ماضيه .. وحاضره .. وحياته . وأن لاتتحكم به الحاجة .. في أي وقت لأفكار حسان .. ليعرف نفسه .. ويعرف طريقه .

وشرد في تداعيات السؤال .. كيف .. وبماذا يحقق رغبته .. في الزمن الأخير من العمر .. ؟ ..

وأغمض عينيـه وهـو يفـكر ..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا