الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في انتظار عثور تونس على حكومة

محمد الحمّار

2013 / 12 / 14
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


بالرغم من التفقير الممنهج للطبقة الوسطى في تونس وهي التي كانت مفخرة البلاد الأولى إلى حد اندلاع ثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي 2011 إلا أنّ من عجائب الساعة الراهنة أنّ مظاهر الحياة ونمط العيش في تونس لا تشير إلى أنّ البلاد تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية حادة فضلا عن أزمة سياسية خانقة و مسترسلة منذ خمسة أشهر تقريبا.

فمبيعات الكماليات من وسائل تواصل وترفيه عصرية مثل الهاتف الجوال والحاسوب المحمول والقار واللوحات الالكترونية ومن تقليعات ملابس الموضة وإكسسواراتها ومن أكلات خفيفة (خفيفة الوزن ووازنة الثمن) و مرطبات وحلويات وفواكه جافة ومشروبات ومن دراجات نارية متنوعة ومن سيارات مختلفة في ارتفاع مطّرد.

وإن دل إقبال الناس، بما فيهم الطبقة الوسطى المفقرة، على هاته المواد بشغف و نهم فإنما يدل على أنّ التونسي لن يستطيع مستقبلا التخلي عن عاداتٍ استهلاكية أصبحت جزءً من سلوكه اليومي ربما أضحت تمثل واحدة من أهم مقومات هذا السلوك. فأية أزمة هذه التي توفر للناس مزيدا من السلع الاستهلاكية، وهل بالإمكان أن يلبي هؤلاء النداءات لترشيد الإنفاق إن لم نقل للتقشف؟ أم أنّ التحدي أكبر؟

بصرف النظر عن معرفة مَن المنتفع ماديا من زحمة التبضع هذه وعن إزاحة القناع عن الجهات السياسية والإيديولوجية المتنفذة بهذا الشأن، فإنّ الأهم أن ندرك أنه لم يعد بالإمكان استبعاد هذا العامل، الذي لا نرى صفة تسِمُه سوى أنه استهلاك متوحش، من كل معادلة تندرج في إطار تسوية الوضع العام بالبلاد. وهذا مما يضع المجتمع بأكمله أمام تحدٍّ عويص وفريد من نوعه لن تحله إلا حكومة ممن يحترفون الفكر ويزاوجونه بالسياسة:

اقتصاديا لم يعد الأمر يتعلق بإرساء سياسات ترمي إلى توفير حد الكفاف للمئات من العائلات التونسية التي لا يتوفر لديها قوت يومها والتي إذا تغدت لا تتعشى وإذا تعشت لا تتغدى وهي فئات متمركزة خصوصا في المناطق الريفية والقرى والمدن الداخلية المحرومة وإنما أضحت مسألة إشباع لرغبةٍ جامحة تسكن وجدان الملايين الآخرين من الطبقة الوسطى والراقية وهم عادة من سكان المدن الكبرى والمناطق الحضرية عموما.

بكلام آخر نرى في المشهد من جهة أفواها مفتوحة لسدّ رمقها ومن جهة ثانية أفواها لا تشبع بل هي مُصرة على فتح الفم أكثر فأكثر لابتلاع الأخضر واليابس. والمصيبة هي أنّ حتى لو تمّ إشباع حاجيات الفئة الأولى بصفة مطَمئنَة (نظريا ومبدئيا) فإنّ مآل هذه الأخيرة أن ترتقي بنفسها آليا إلى مرتبة الفئة الثانية، لا لبلوغ المساواة معها وإنما لتصبح هي بعينها فئة تقع تحت طائلة قانون الاستهلاك المتوحش.

أما الذي يزيد الباحث حيرة فهو وجود طبقة غير الطبقات الثلاثة المتعارفة، ألا وهي طبقة المحتالين الجشعين عَبَدة الدينار و الدولار، في التجارة والتجارة الموازية على حدٍّ سواء. و هي مافيا تتراوح بين سمسرة العقارات ومقاولات البناء، و تهريب السيارات وقطع الغيار، الجديدة والقديمة، و بزنس الملابس القديمة والجلود والأحذية المستعملة، وجانب مُهم من قِطاع الحِرف وحتى"العناية الصحية" الخاصة. وهي طبقة قليلا ما تطالها رقابة الدولة وكثيرا ما تحميها وتُحصنها أطراف من الدولة مقابل إتاوات و رشاوى. هذه الطبقة تعتاش من عرق جبين الكادحين ومن مداخيل الطبقات كلها. وهي أيضا التي تأكل التراث أكلا لمًّا وتعطي بذلك أسوا الأمثلة لسائر الطبقات. هي القاطرة التي تجرّ رتل الاستهلاك والتي تتحكم بالإيقاع وتسهّل تنويم الوعي وتخدير القوة الإدراكية للشعب. إنها عدوّ المجتمع بأسره وإن لم يكافحها هذا الأخير بحكمة وتروٍّ وتخطيط وصرامة فسوف تبيع ما بقي من البلاد إلى الشيطان.

نخلص إلى أنّ المشكلة الاقتصادية والاجتماعية لن تحلحل فقط بفضل التشغيل، الذي سيوفر افتراضا موارد مالية للفئتين، الفقيرة والمفقرة (ناهيك أن تحلحل بواسطة معونات الدولة عبر سياسة الاقتراض والتداين للخارج)، وإنما الشرط الأساسي الأول لتغيير ما بالمجتمع من أجل الرقي والازدهار للجميع هو إعلاء سقف الرضاء الاجتماعي أضعاف المرات، أي الرفع أضعاف المرات في الأجر الأدنى المضمون وكذلك في فرص التمتع بخيرات البلاد بصفة عادلة، وذلك دفعة واحدة وبفضل حركة ثورية.
لكن كيف سيتسنى بلوغ هذا الهدف من دون تقييم علمي وحقيقي لثروات البلاد، وهي وافرة حسب التقديرات الأولية التي قامت وما زالت تقوم بها جهات مختصة ومحل ثقة المتابعين، ومن ثمة بث الوعي لدى كافة شرائح الشعب بأنّ تونس لا هي صغيرة (مساحتها أكبر من انقلترا ومن بلجيكا ومن هولندا ومن البرتغال) و لا هي فقيرة كما روّجت وما زالت تروج له ثقافة التخلف والاستعمار الذاتي؟

أما الشرط الأساسي الثاني لتغيير ما بالمجتمع نحو الأفضل فسيأتي حين تتوفر لدى التونسيين الأساسات للعمل على استرداد الموارد الطبيعية فعليا بعد أن يكونوا قد استردّوها إيمانيا وإدراكيا، سواء من عند بارونات التزوير والتمويه المحليين أم من عند أسياد المتاجرة بالشعوب العالميين والذين يأمر أولئك بأوامرهم على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الجنسيات والجمعيات والمنظمات الساندة والراعية لها والمبشرة بامتيازاتها. ويتمثل هذا الشرط في إنجاز الثورة الجبائية الضرورية لوضع الطبقة المحتالة تحت رقابة المجموعة الوطنية ولتقريب مستويات العيش بعضها من بعض.

لكن شرطَا حُسن تقدير الثروات الطبيعية للبلاد من جهة والقيام بثورة جبائية من جهة ثانية مع ما سينتج عن ذلك من توزيع عادل للثروات يستبطنان ضرورة التهيئة الثقافية والتربوية والتواصلية والعلمية من أجل انقداح الثورة السلمية الثانية.

إنّ المسؤولية جماعية لكنها مَنوطة على الأخص بعُهدة المثقفين العضويين والمربين والإعلاميين والعلماء. فالكتب والمنشورات والبرامج الإعلامية والمقررات المدرسية والجامعية مطالبة بإيصال فكرة أنّ تونس كبيرة وثرية وفي الآن نفسه بتنظير التفكير الحر مع التفكير العلمي وكذلك بتنظير التفكير الديني مع هذا الأخير لكي تتأصل القيم الإسلامية في النسيج الثقافي للمجتمع وفي الشخصية الفردية والجماعية على أسس صلبة، ولكي يغلق باب الغلوّ باسم الدين نهائيا وتشحذ العزائم من أجل إنجاز الأعمال الصالحة. فهل من حكومة "فكروقراط" لانتشال البلاد من التسكع وإدخالها طور الفعل الحضاري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تشتبك مع المتظاهرين الداعمين لغزة في كلية -


.. حشود غفيرة من الطلبة المتظاهرين في حرم جماعة كاليفورنيا




.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا