الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فنيّة الشفاهية في النص الشعري / وشوشة الكرز أنوذجاَ

مؤيد عليوي

2013 / 12 / 14
الادب والفن


فنيّة الشفاهية في النص الشعري

" وشوشة الكرز" أنموذجا*

الشفاهية سمة لمرحلة تاريخية مرّت بها كلّ الأمم ، وهي بين نهاية المشاعية وبداية نظام الرق -1-، وتستمر إلى مدة التدوين في المراحل اللاحقة ، وقد تستمر قيم المجتمع ألشفاهي عند بعض الأمم بسبب تشوه الصراع الطبقي في تاريخها..،لكن علينا معرفة اللغة : ( ظاهرة بشرية يصنعها البشر ، ويطورها البشر ... )- 2 – وهذا ينطبق على جميع اللغات لأنها لغات كما ذكر هذا عالم فقه اللغة لويس عوض -3 - ، وبالضرورة فأن تطور اللغة واستعمالها مرهون بتطور الجهاز العصبي – المخ- عند الإنسان ثم يقترن هذا التطور بتطور استعماله ليديه – تطورا اقتصادياً - حيث يرى توماكس الاوكيويني :( إنما الإنسان عقل ويد ) فيصدّق هذا أرنست فشر في قوله : ( اليد هي التي أطلقت عقل الإنسان وأنتجت الوعي الإنساني )- 4 - مضيفا: (أن الأدوات هي التي جعلت من الإنسان إنسانا ) – 5- ، وبالتالي في مرحلة قادمة استطاع أن يكوّن جملته الأولى شفاهاً حتى وصل إلى مرحلة التدوين أو الكتابية، ولمعرفة الفرق بين الشفاهية والكتابية أقترح الاطلاع على كتاب ولتر ج. أونج : (الشفاهية والكتابية)، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت.
وفي المشافهة تكمن الرواية أو القصة أو الحكاية ، عند العرب قبل الإسلام ، أي ثمة راوٍ ومتلقٍ والشعر كان كذلك ، ولم يتخلص العرب من قيم تلك المرحلة الشفاهية إلى الآن بسبب التشوه الطبقي وتراكم الوعي الزائف ،المهم هنا بعد هذه المقدمة المعرفية ، هو استثمار هذه الشفاهية في كتابة الشعر اليوم ، بمعنى أن يكون ثمة راوٍ في النص بفنيّة جمالية ،فتكتشف- أنت المتلقي - هذا الراوي بين طيّات المدلول الشعري، وتجتليه دلالة النص العامة برمتها ،ومن اعتياد العراقيين للرواية الشفاهية عن هموم يومهم وعن الأيام الماضية ،نحلق لنرى دلالة النص العامة تنمُّ عن راوٍ لمأساة شعب – ملهاة دكتاتورية مُتجذرة اجتماعياً ، في استثمارٍ ذكي لهذه الشفاهية من الشاعر قاسم سعّودي وتتكرر لهذه المأساة في الواقع إذ مازال إلى اليوم أمام المدارس وفي الطريق إليها الطلبة يتركون المدرسة من أجل لقمة العيش وأحيانا يبيعون الحلوى للتلاميذ من أترابهم ، وقد تجسد هذا التكرار من خلال لعبة النكرة والمعرفة : ( ولد شقي ) في نهاية النص ( ولد ) نكرة تعني شيوع وأتساع المدلول الشعري أفقياً فيمنح الدلالة العامة تمدداً متصاعداً عمودياً ،عند أعادة قراءة النص مباشرة لتبدأ بالمعرفة (الولد الشقي الذي يشاكـُسني كل...) فتكون أنت المتلقي القارئ قد تذكرت ولداً مشاكسا تعرفه كان في الطريق المدرسة .
والأهم مِن هذا وذاك ، سؤالٌ : مَن يروي هذه الحكاية في بنية النص الشعري ؟ انه أحدى شخصيات المدرسة ( معلمة / معلم ،...) حيث ( في الطريق إلى المدرسة ، في الطريق من المدرسة ) وهذا الراوي المخبوء بين جفني الولد الشقي ، استثمره الشاعر بلغته العراقية ، لغة انمازت بكلمات وتراكيب عراقية محضة في استعمالها اليومي ،بين نصوص الشعر العربي المعاصر ،وهنا أشير إلى فكرة جديدة عن الكتابة للمفكر الفرنسي جان- لوك نانسي: فالكتابة ( الجواب هو استعادة الصوت وإعادة أطلاقه بما يقول وبنبرته ولهجته .. )-6-، هذه الفكرة التي تأتي منسجمة مع نص "وشوشة الكرز" وتراكيبه العراقية: ( قفّة = كفّة مفردة من الريف العراقي ، العشق والحبّ والحروب ونتائجها الموتى = العراق ، ذو الرأس الساخن= أبو راس الحار، تعبيرا عن الشهامة والغيْرة عند العراقيين، مأخوذة من صاحب هذا الكنية الأصل العباس بن علي بن أبي طالب –ع- تعبيرا عن شجاعته وغيْرته ) .
أما الرؤية النقدية فترى أن مدلول النص الشعري وزمكانيته يجزئانه إلى :
الجزء الأول يبدأ من بدايته : (الولد الشقي الذي يشاكـُسني كل صباحٍ ) وينتهي بكلمة : ( مضى ) .
الجزء الثاني يبدأ من ( الولد الشقي الذي أخذوه إلى الحرب ) وينتهي بنهاية النص : ( ولد شقي ) .
أن مدلول الجزء الأول يشي بأن الراوي يحكي معاناة الولد المشاكس التي شاهدها كما هي في دراما الحياة اليومية المعاشة وقرب المدرسة التي تُعلّم البلاغة القديمة وهي من سمات الحياة الشفاهية – كما عند العرب قبل الإسلام مثلا – لذا عبْر الشاعر عن هذه المشاعر بأسلوب بلاغي – الكناية عن بياض ثوبه ، والعمل : (نامت الشمسُ على ثيابهِ ، ازدحم النهار على ثيابه ) كذلك الاستعارة:( وعلى رأسهِ / قفةُ الحلوى / وفمُ الربيع / يسجدان .. ، بحسرة الرزق / التي غفتْ / على قطرة من الربيع .. ) وظـّـفها الشاعر توظيفا فنياً ينسجم وقرب الولد المشاكس والراوي عنه من المدرسة التي تعلّم هذه البلاغة .
أما عمرالولد الشقي فلم يتجاوز الثامنة عشرة من سني ربيعه لأنهم لم يأخذوه إلى الحرب كما في الجزء الثاني ..، لذا ظلّ غير متعلماً يبيع الحلوى قرب المدرسة أبان دوامها ، لكن الربيع يقبّل رأسه في الاستعارة السابقة (وفمُ الربيع / ...) لأنه يعمل بشرف (بحسرة الرزق / التي غفتْ / على قطرة من الربيع .. ) على الرغم من دموعه لحسرة الرزق فيلوح له ليبعد عنه هذا الهمّ في (لوّحتُ له / ابتسم / ابتسمت له / مضى ) هنا لا حاجة للبلاغة ولا قيمها القديمة فالإشارة كافية وتفضي إلى المدلول الشعري ضمن سياق النص إذ لوّح له أبتسم ومضى هذه أللفتات في فنيّة الاشتغال الشعري لقصيدة النثر تظهر مفاتن القصيدة الجمالية .
الجزء الثاني : يتغير الموقف الدرامي لواقع الحياة فالراوي يرى الولد حين أخذوه إلى الحرب ، أي بلغ أشده وترك المكان القديم – المدرسة،لذا أزاح الشاعر معه البلاغة القديمة وواصل شعرية قصيدة النثر دون حدس صوفي أو استعارة أو تشبيهات ،... ( الولد الشقي الذي أخذوه إلى الحرب / ولم يذبل /عاد / بصور مَن ارتفعوا/ دون حلوى / وبرسائل حبّ تجلس في حضن الزوجات / ترسمها / ثياب سود / تطرق باب الموتى .. ) فصار الراوي ينقل أمور لم يرها كما في الجزء الأول ، إذ رآه عائداً لكن لم ير مَن ارتفعوا دون حلوى ومدلول الحلوى هنا يختلف عن السابق النص،فهنا موت الرجال دون ذائقة حلوة للحياة في حروب أجُبروا عليها ، حيث جاء التعبير( عاد / بصور..) ، ثم أن الراوي أو الراوية لم تره كيف نجا من الحرب مرتين فكان المدلول الشعري إخباريا عن نجاته ، دون نقلٍ لمشاعر النجاة في قلب الولد الشقي المشاكس :( الولد الشقي ذو الرأس الساخن / نجا من الحرب مرتين)وتعود الدراما الحياة اليومية فتروي وقوع المشاكس في الحبّ ، حيث يقطع الشاعر نصه بفنية عالية متجاوزاً إشكالية العشق والمشاعر والزواج بولوجه المدلول الشعري :( أنجبتْ منه / سبعة أولادِ لطفاء / وبنتاً حلوة / يشاكسها في الطريق إلى المدرسة / ولد شقي ) مشيراً إلى حالة الإنجاب ، ....و بنتاً حلوة ......... ولد شقي هذه النكرة (ولد شقي )التي تعني الشيوع ومن بعض معانيه معنىً آخر غير الذي تقدمت به السطور خارج حدود النص إلى الواقع الاجتماعي مفادهُ يشاكس البنت الحلوة أكثر من ولد لا يعرفهم – نكرة- ولا ينزعج هو لأن هذه المشاكسة اللطيفة الخفيفة هي سمة من سمات الأولاد في تلك السن ، بمعنى تشكل سمة اجتماعية لكن الحياء جعلها وشوشة بعنوان أيام كان يافعا .
...........................................................................
* مجلة دبي الثقافية ، دبي ، نيسان 2011 ، وشوشة الكرز للشاعر العراقي قاسم سعّودي،العدد 71 : ص 79 .
1 – ينظر: عرض موجز للمادية التاريخية ، بودوستنيك وسبيركين، منشورات ن دار الفارابي : ص 37 .
2 – ينظر :فقه اللغة ، لويس عوض ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1980 ، ومجلة أدب ونقد، القاهرة ، نوفمبر 2010 ، عدد 303 : ص 5-6 .
3 - ينظر : فقه اللغة ،لويس عوض ،بحث فيه جذور العائلات اللغوية الشرقية والغربية .
4 – ضرورة الفن ،أرنست فشر ، تر: أسعد حليم ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971 ،: ص 23 .
5 – م،ن : 21 .
6 – مجلة بيت ، بغداد ،، ربيع 2011 ، العدد 2 : 64 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأملات - كيف نشأت اللغة؟ وما الفرق بين السب والشتم؟


.. انطلاق مهرجان -سماع- الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية




.. الفنانة أنغام تشعل مسرح مركز البحرين العالمي بأمسية غنائية ا


.. أون سيت - ‏احنا عايزين نتكلم عن شيريهان ..الملحن إيهاب عبد ا




.. سرقة على طريقة أفلام الآكشن.. شرطة أتلانتا تبحث عن لصين سرقا