الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين شيوخ الإبداع الروائي وشبابه

أماني فؤاد

2013 / 12 / 14
الادب والفن


بين شيوخ الإبداع الروائي وشبابه
د. أماني فؤاد

حين طُلبت مني المشاركة في ندوة "حوار بين الأجيال" عن سمات عالمي الرواية بين إبداعات الروائي الكبير" عبد الوهاب الأسواني" ، والروائي الشاب "أحمد عبد اللطيف" كنت لم أطلع علي إبداعات الأستاذ الأسواني إلا قليلا ، لكنني محيطة بعالم عبد اللطيف الروائي المتمثل في ثلاثة روايات : "صانع المفاتيح" ،"عالم المندل"، "كتاب النحات " ، شرعت أجمع ما أستطيع الحصول عليه من أعمال الأستاذ الأسواني ، وبالفعل توفرت علي رواية "سلمي الأسوانية" و"النمل الأبيض" ، ومعظم الكتابات النقدية التي كتبها الأستاذ "يوسف الشاروني" عنه ، كما قرأت إصدار الهيئة العامة المصرية " ملامح الرواية عند عبد الوهاب الأسواني" للدكتور : "علاء الدين سعد جاويش" ، ومن هذه الدراسات ألممت بعالمه الروائي المتمثل في سبع روايات "سلمى الأسوانية "،"وهبت العاصفة "،" اللسان المر"،"ابتسامة غير مفهومة"،"أخبار الدراويش"،"النمل الأبيض"،"كرم العنب"، وأربعة مجموعات قصصية.
تساءلت بعد هذا التطواف بين عالمي الروائيين ما هو المشترك الذي يمكن أن يجمعهما غير عملهما بالصحافة ؟ لأجدني أجيب : أن عالم الفن الروائي ببراحه وتطوراته ومجاوزاته في الفكر والتقنيات هو ما يجمعهما ، يضمهما رؤية واسعة للإنسانية والحرية ، كراهية للظلم والاستبداد ، إعلاء لقيمة الإنسان وفرديته وإمكاناته ، وغيرها من قيم إنسانية يتضمنها الفن ، لكن كلا بطريقته ، كل منهما بتقنياته التي هي نتاج معطيات متعددة تندرج ضمن نطاق الخصوصية الفردية من ناحية ، و التطور الذي يحدث مع التغيرات التاريخية : الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية .
لم أجد عدا هذا سمات مشتركة ، فلكل منهم شخصيته الكتابية التي تتميز بفرادتها ، وهذا ما دفعني لتحليل بعض المحاور، خاصة أن ما بين المبدعين أكثر من أربعة عقود زمنية ، وربما يعد ذلك في أحد تجلياته رصدا للتغيرات التي طرأت علي الكتابة الروائية الجديدة :
أولا: لنا أن نتساءل ماهي فلسفة الفن التي تنطلق كتابتهما للرواية منها ؟
من خلال تحليل النصوص يتبني "الأسواني" نظرية المحاكاة ، وينزع إلي كلاسيكية الرواية ، من حيث تطور الحدث بتسلسله المنطقي ، وتنمية الصراع الذي يتصاعد ليصور الواقع الحياتي بتغيراته ، بل ويرصد بعناية الانعكاس المباشر لشروطه في تشكيل سردي متماسك ، وينحو إلي التخصص في استنطاق المكان المتمثل في القرية الأسوانية ، نظرا لاختلافها النسبي عن قرى الصعيد المصري .
في حين يتبني "عبد اللطيف" في رؤيته الكتابية التوازي الرمزي الذي ينحو إلي الغرائبية والدهشة ، رؤية فنتازية ذهنية للواقع والوجود ، فاللنص الروائي إستقلالية تدير ظهرها للواقع ، لكنها لا تديره كليا ، فهي لا تفتأ تناقش نقاط جوهرية ومؤثرة به ، فيها يبتكر الروائي فكرة متخيلة ، وتقنيات تفكك الواقع وتعيد تفسيره ، وفق تصور أكثر تمردا علي الواقع ، بحيث يحتفظ النص الروائي بقوام خاص له ، وهنا يحقق الفن قدرته علي المجاوزة بطريقة مغايرة ، وقد تكون ناجحة لإعادة قراءة الواقع عبر الخيال ، نهج يتوافق مع انهيار حكايات العالم وأديولوجياته ، ويعبر عن تعقيداته التي تتشابك بالواقع .
ثانيا: كلا الروائيان يوظف التراث الموروث الخاص والعالمي في إثراء نسيج نصه ، لكن لكل منهما طريقته ، يتضمن نص "النمل الأبيض" أجزاء من حكي تراثي يقرأه موسي الصبي علي الشيخ يوسف ، وفيه يضفر "جبرتي القرية الأسوانية" قصة النزاع التاريخية علي الخلافة في الحضارة الإسلامية في حالة تناص موازي مع ضياع القيم المصرية ، والطبقة الراسخة التي كانت تحافظ عليها ، مع فترة الانفتاح في السبعينيات وما تلاها، وكأن التاريخ دورة جبرية تفرض إرادتها علي الفرد مهما قاوم ؛ لتسحقه في النهاية في شرطها الجبري ، هي حالة من ضفر التراث مع النص الإبداعي الحديث لإثراءه .
و يوازيها في أعمال عبد اللطيف تفكيك الموروث وإعادة مسائلته ، يتجلي في "كتاب النحات" ثالوث: عروسة النهر وابنها والأب غير المرئي ، بحيث يشتبك مع الثالوث المسيحي في قصة السيدة العذراء ، ليطرح تصور عن الإله الآخر الفني الذي لا يعرف الغيب ، ولا يتحكم في مصائر منحوتاته ، بل ويري الكون لحظة تشكله ، واختلاف طبيعة البشر وأطماعهم ، إله لا يعرف معنى لليقين ، ويحض العقل دائما على البحث عن معنى القيم والوجود .
ثالثا: لاختلاف فلسفة الفن لدي الكاتبين تختلف تقنيات السرد في نصوصهما الروائية ، اعتمد الأسواني علي السارد الذي يروي جل نصوصه ، عدا الرواية الأخيرة " كرم العنب"، التي اعتمدت علي عشرة أصوات ، كل منها تروي حكاية الفترة العرابية ، وتكمل الحكاية من منظورها ، وفي رواية "سلمي الأسوانية" اعتمد نسبيا علي تقنية الرسائل للدفع بالأحداث الي ذروتها .
في روايات عبد اللطيف تتنوع أساليب السرد وتتعقد ، فهي مابين سارد عليم في" صانع المفاتيح" ، أو تعتمد علي تيار الوعي والمنولوج الداخلي في "عالم المندل"، أو السارد الفوقي الذي تتداخل معه تقنية تعدد الأصوات نسبيا في "كتاب النحات" ، ويوفر لنصه ذلك من خلال هوامش ، ورسائل ، وأحلام علي هامش التماثيل .
رابعا: للروائيين رؤية مختلفة لتقنية المكان ، يوهم أحمد عبد اللطيف بأن جغرافية نصه في عالم المفاتيح قرية مصرية ، فإذا بها مع تصاعد السرد تتحول إلي طغيان مظاهر المدينة ، وانتشار مظاهر القبح ، ثم مانلبس أن نشعر أنها مصر التي يحدها الجبل ، ويخترق جسدها النهر ، ثم تنفتح الجغرافيا لتوهمنا أنها قصة العالم والوجود علي الكرة الأرضية .
في كتاب النحات يتبدى المكان برزخيا ، غير محدد أهو عالم غيب ، بعد موت ، أم أنه هجرة لعالم منعزل بأحد الجزر التي يتخللها نهر ؟ المكان يبدو منفتحا علي الوجود غير المقيد بجغرافيا محددة ، وأتصور أن الروائي قصد إلي هذا فهو لا يقص حكاية مكان لكنه يقص حكاية وجود وأسئلته ، يتجلي الإنسان هنا وعلاقته بالقوي الغيبية وأطماعه الأساسية قضية كبري تعلو علي المكان والزمان .
وهنا نلاحظ انفتاح تقنية الزمن في نصوص عبد اللطيف ، رغم أنه قد يوهم قارئه بزمن نسبي في "صانع المفاتيح" إلا أننا نكتشف أنه يهيئ لنسيج سردي بإمكانه أن يتمدد ويتسع ليحاكي الزمن في كينونته الكلية ، ودوراته التي تتكرر بها ذات الأسئلة ، كما في "كتاب النحات" أو في "عالم المندل" التي تدور سرديتها عن امرأة تتمني أن تصبح رجلا ؛ لتهرب من الظلم الواقع عليها في ظل مجتمع وأسرة تحت طائلة ثقافة ذكورية بامتياز ، فتجد أنها قد أصبحت ولها عضو ذكري يجعلها تعيد النظر في العالم وفق هذا المتغير الجديد ، الغائم بين الحلم والواقع ، والواقع في اللازمن .
وهنا قد أثير تساؤلا وأنا أعرض للمكان في روايات الأسواني يتمحور حول مدي قدرة الشخصية علي تعديل ثقافة المكان ؟ لمّ نقع دوما تحت وطأة المكان بزخمه وموروثاته ؟ لمّ نظل نتصور أننا هبة المكان ، لا أن المكان هو ما ينبغي أن يتشكّل لنا وفق ما نريد تطويره وتغييره ، أو أن نتبادل التأثير .
في بعض شخصيات نصوص الأسواني نجد هذا الإنسان الثائر علي ثقافة المكان ، في "النمل الأبيض" ينتقد "بشير الزنديق" المظاهر التي بقيت من العصر الفرعوني القديم ، ومن سطوة التقاليد ، بل ومن سياسات الانفتاح في السبعينيات وما بعدها ، وتقف "ناعسة" لتعلن رفضها لتزويجها دون إرادتها ، وتخالف العادات في هذه القري الأسوانية .
تتبدي "حنان" في "سلمى الأسوانية" نموذجا جديدا للمرأة المتعلمة العصرية التي تجذب عقل الرجل كما تستحوذ علي قلبه ، لكن يظل معظم الشخوص بالنصوص مسحوقين تحت وطأة الظروف والعادات والموروثات ، لا تستطيع شخوص الأسواني الهروب من جبرية العلاقة بين المكان وقدمه الزمني ، وامتداداته التي تتوغل لا في النهر والأرض فقط ، بل تتوغل في النظام الجيني للإنسان المصري ، بتعدد الطبقات التي تشكل هويته ، و يصبح ما يستجد عليها من متغيرات في حالة صراع لا يستكين مع رسوخ الموروث وتشعبه في كل مظاهر الحياة .
خامسا : تتعدد مستويات اللغة في نصوص أحمد عبد اللطيف ، ففي " كتاب النحات" تتلون اللغة بتلون الشخصيات وظلالها في التاريخ ، ورموزها إن أراد التلقي أن يربط بينها وبين شخوص حفرت علامات نحتت بالتاريخ البشري ، وظلت تشكّل رؤى مفصلية سواء في الأديان أو في الأفكار والفلسفات والفنون ، ومقاصد هؤلاء الشخوص وأدوارهم بالحياة . في " كتاب النحات " تنطلق لغة السارد الرئيسي للعمل عميقة ومهيبة كأنها تستنطق صوت الوجود لتقص حكاية الألهة مع البشر ، وتظهر بعض الفقرات التي يصبح السارد وكأنه شاعر الربابة الشعبية التي يقص الأحداث ويعلق عليها ، كما يهيئ الكاتب لعروس النهر طقس وموسيقي حكي شهر زاد ، كما يجعل مناجاتها مع النحات بلغة صوفية متعالية ، و تنحصر السخرية اللاذعة في لغة المسرحي زوج الأم ، وسجع الكهان والموسيقي الرتيبة للرجل ذو القضيب في أسفاره ونصوصه ، وهكذا .. هناك مستويات متعددة تتوالي علي سردية النصوص ، في نصه "صانع المفاتيح تتلون اللغة في بعض الفقرات بالحس الصوفي ، وتضاهي في موسيقاها بعض النصوص الدينية ، تتسق معها في الإيقاع ، وتفككها وتخالفها في المضمون الفكري .
تتهادي لغة الأسواني معبرة سلسة وجزلة ، تترقرق كموجات النهر المتتابعة التي تجري في كيانه وقلمه ، يهب الأستاذ الأسواني لمتلقيه قارب نهري مريح ، وفيه يتبدى العالم واضحا غير معقد ، حتي وإن تعقدت مشاكله واشتبكت ، ويتعامل الروائي مع تقنيات السرد المجازية ، فيتضمن النص بعض الرموز كالقرضة التي أكلت سقف بيت عامر، واستفحل أمرها في نهاية نص "بيت النمل" حتي اضطروا لهدم السقف وإحراقه ، وكأن الروائي يشير إلي إستشراء الفساد وتغوله علي حياة البسطاء في المجتمع المصري .
يشيع في نصوص الأسواني خصوصية لغة المكان ، وتصطبغ بنكهته ومفرداته الخاصة المتداولة علي لسان مجتمعه ، و لا يؤثر ذلك علي فصاحة اللغة وانطلاقها واضحة للقارئ غير الملم بخصوصية تلك المفردات .
من خصائص الفن أن عوالمه تحتمل المتجاورات في المذاهب والتيارات والمدارس ، بحيث لا يلغي أحدها الآخر ، أو نستطيع أن نقيم بينهم مفاضلات ، لكنها رؤي تطرح التعدد والخصوبة التي يمتلكها الخيال والعقل البشري ، وتتيحها واسعة لعوالم التلقي متنوعة الذائقة هي الأخرى .
وأخيرا أرصد لظاهرة استوقفتني بعد أن أجريت هذه الندوة ، وبعد أن رصدت لبعض مظاهر خصوصية الكتابة الروائية عند كلا الروائيين المخضرم والشاب ، كلاهما لم يقرأ للأخر ، كلاهما لم يدفعه فضوله لارتياد عالم قد انفتحت مغاليقه نسبيا بعد أن تم هذا التلاقي من خلال الحوار ، ولا أعرف أتلك آفة ثقافتنا ؟ أم أنها المسافات والتغيرات الواسعة التي تتركها الأجيال لتنمو وتتسع لنصبح في النهاية بلا تلاق حقيقي ، نعيش في منطقة تشبه الفجوة التي لا تواصل فيها ، كل ذات تسبح في عالمها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان