الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى لا تصبحَ الثورةُ المصريةُ في ذمّة التاريخ

أحمد سعده
(أيمï آïم)

2013 / 12 / 15
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


قد يتوهّم كثيرون أنّ الثورةَ تسيرُ في طريقها الصائب بفضل غريزة ثورية سليمة، وطالما لم تحد عن خارطة الطريق التي وضعتها المؤسّسة العسكرية أعقاب إعصار 30 يونيو التسونامي، غير أنّ الثورة التي لم تحقّق قواها انجازٌ حقيقيٌّ باقٍ ونافعٌ للناس لا يمكن إلا اعتبارُها في طريق خاطئ، فثورتُنا كانت - ولا تزال - في أغلب الأحيان وقودًا للصراع بين أقسام متعدّدة للثورة المضادّة، فتارةً تسير وراءَ هذا لإسقاط ذاك، وتارةً تعدو خلفَ أولئك لصالح هؤلاء، والسبب يكمنُ في غياب رؤية واضحة ومفهوم واضح للثورة، فالوعي الثوري لا يقفز فجأةً لوعي ثوري متكامل ما جعل ثوّارَنا كالغريب الذي يتحسّس طريقَه الصعب والوعر بينما يُراوده الحزنُ وتغمز له عينُ الإحباط.
وبالأمس ألقى الرئيس عدلي منصور كلمةً طرح خلالها الدستور للاستفتاء يومي 14 و 15 يناير القادمين، غير أنّ القضية الأساسية لا تتمثّل في محتوى الدستور ومواده ولا حتّى في المشاركة في هذا الاستفتاء أو مقاطعته، فالدستور في أبهى حالاته كما النصوص الدينية لا يرتبط بالواقع إلا من خلال متاهات التفسيرات الفقهية والقانونية لفقهاء السلطان، وتتمثّل القضية فى الإصرار على الاتجاه بعيدًا عن طريق الفعل الثوري وتبنّي المسار الديمقراطي (الوهمي) عن طريق اللهث خلف استفتاءات وانتخابات من شأنها جرّ الجماهير بعيدًا عن الفعل الثوري واقحامهم في عملية إعادة بناء نفس المؤسسات التي ثار عليها الشعب، ودفع الثورة في معارك قانونية ودستورية وحروب دينية من شأنها تشويه الصراع الأصلي من أجل أهداف الثورة الحقيقية إلى صراعات طيفية وطائفية لاتسمن ولا تُغني من جوع، فما الفرق بين التصويت ب "نعم" أو "لا" طالما أنّ السيناريو الأرجح هو انصراف قوى الثورة عن فعلها النضالي بل وتبنِّى استراتيجيات الثورة المضادّة (الانتخابي) الهادف لتصفية الثورة وتحييدها عن مسارها من أجل استعادة الاستقرار الطبقي للنظام؟!! وقد تكون نتيجة منطقية لعقود من الزمن تمّ فيها تصفية الحياة السياسية والفكرية بشكل تسبّب في افتقاد الجماهير لعنصر الوعي اللازم والافتقار لخبرات الممارسة السياسية، الأمر الذي يمكن أن يقود تمامًا إلى فقدان الاتجاه، وإضاعة الفُرصة تلوَ الأخرى، والوقوع فى كلّ أنواع المكائد والفِخاخ الغادرة التي ينصبها قادة الثورة المضادّة، وقد أوضحت ثلاثةُ أعوام كاملة من عمر الثورة أنّها سارت بجنينية وعفوية بعيدًا عن تحقيق أهدافها وآفاقها، في ظلّ غياب واضح لأيّ استراتيجية ثورية بحيث تغدو بوصلة الاتجاه الصحيح مراوغة تمامًا ليس فقط لشباب الثورة بل حتّى لقيادات وزعامات ثورية، وللتخلّص من هذا التخبّط والبحث الجاد عن طريق واضح، لابدّ من انتقال قياداتنا الثورية من وعيها التلقائي والعفوي إلى وعي ثوري علمي لا يتحقق إلّا على مدى زمني طويل بتراكم خبرات الممارسة العملية والتثقيف الفكري، غير أنّ الوقت يداهمنا ويقتلنا في الوقت الذي نظنّ معه أنّنا هزمناه.
ومنذ 11 فبراير 2011 وإلى الآن تعمل قُوى الثورة المضادّة على صرف الجماهير عن نضالهم الثوري إلّا عند ضرورات الحاجة إليهم كغطاء شعبي في صراعهم المرير من أجل السيطرة على السلطة والاقتصاد، ولا أعفي حتّى قيادات ليبرالية ويسارية وأحيانًا ثورية دفعت الجماهير دومًا لمتاهات دستورية وقانونية، والآن تسوق الجماهير من خلال أبواقها الدعائية والاعلامية ومنابرها الحزبية للاستفتاء الوشيك والانتخابات القادمة سواء البرلمانية أو الرئاسية، برغم أنّ هذه الاستفتاءات والانتخابات في (زمن الثورة) لم ولن تأتي إلا بأسوأ مؤسسات للدولة، والحقيقة أنّ هذه القيادات أكثر خطورة على أيّ تصعيد نضالي بحكم طبيعتها الطبقية المعادية للثورة حينًا، أو بحكم طبيعتها السياسية الانتهازية أو الاصلاحية أو الذيلية حينًا آخر، وأنا بالطبع لا أدعو للمقاطعة كموقف ثابت للثوريين، لكن كموقف سليم في هذا الزمن بالذات (زمن الثورة) بدلًا من البحث عن شرعية زائفة قد رأينا كيف ورّطت البلاد سابقًا في دستور اخواني سيّئ وبرلمان إخواني أسوأ ورئيس إخواني أسوأ الأسوأ كان على وشْك فرض شبح الحكم الديني والخلافة كأمر واقع على البلاد من خلال أخونة بالغة السرعة وغاية في الخطورة أفزعت الدولة والمجتمع والثورة، وأفزعت حتّى المؤسّسة العسكرية.
وبرغم أنّ مئات الآلاف من قواعد الأحزاب والجماعات السياسية في مصر ينتمون للفقراء والعمّال والطبقات الوسطى، إلّا أنّ هذا لا يشفع لتلك الأحزاب المعادية بطبيعتها لاستمرار الثورة الذي يهدّد مصالح قادتها، فهؤلاء حتّى معادون لقواعدهم من الفقراء لأنّ ازدياد تلك القواعد فقرا لا يعني إلّا ازدياد أولئك القيادات غنًى، فالحكم على الأحزاب لا يكون إلّا من خلال الانتماء الطبقي والفكري للقيادات العليا لتلك الأحزاب المنتمين بالطبع للرأسمالية التابعة سواء مباشرة كملّاك الفضائيات والصحف والمصانع والشركات أو بالتمثيل السياسي كأساتذة الجامعات والنشطاء، غير أنّ رغبة تلك الأحزاب الدائمة في الجمع بين الشرعية القانونية والشرعية الثورية يجعلها في عملية تضليل متواصل لقواعدها التي هي أقلّ وعيًا بأهداف ومصالح وغايات تلك الأحزاب الساعية بشكل دؤوب للوصول لسلطة الدولة قدس الأقداس، ومن ثم، التمثيل السياسي لمصالح قطاعات الرأسمالية المصرية التابعة للإمپريالية، ولا يُستثنى من تلك الأحزاب أحدٌ سواء كان حزبًا ليبراليًّا أو حزبًا دينيًّا، غير أنّ الأحزاب الدينية يُضاف إليها التشبّث بالماضوية والحنين للرجعية والعودة لعصور القرون الوسطى.
ولا شكّ أنّ كلّ ما أنجزته الثورة المصرية حتّى الآن من كسر حاجز الخوف والخضوع لم يتحقّق إلّا بفضل النضال الثوري وليس الدستوري وقد أعطت الجماهير نموذجًا مشرِّفًا في الإصرار على مواجهة القهر والاستغلال، وأزاحت النقاب عن جسد الفساد واللصوصية لدى حكّامنا وأتباعهم، غير أنّ الآمال والمشاعر الإيجابية التي تنتاب الجماهير عقب اسقاط حاكم أملًا في حكم لاحق يمحق البؤس والحرمان ترفع من ثورة التوقعات إلى أعلى علّيين، لكن سرعان ما تتبدّل مشاعر البهجة بمشاعر اليأس والإحباط لافتقار تلك التوقّعات بالطبع لأيّ موضوعية أو وعي بآفاق وطبيعة ومحدودية ثورتنا، فتجد الجماهير نفسها من جديد في مواجهة الحكم اللاحق من أجل الأهداف نفسها التي يلخّصها شعار الثورة العبقري (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).
والآن تعقد الجماهير آمالها على الحكم الجديد بقيادة (السيسي) قاهر الأخطبوط الإخواني ومدمِّر مشروع الدولة الدينية، غير أنّ السيسي لا يملك عصا موسى السحرية، والجماهير لا تملك إلا النضال من أجل استعادة طريقها برغم كلّ ما يموج بها من أيديولوجيات ويخترق صفوفها من تضليل وتزوير للإرادة يجعلها بعيدة إلى الآن عن طريق تحقيق مرادها، فبرغم ما حقّقته تلك الجماهير من انتصارات مدوّية بإسقاط مبارك وطنطاوي ومرسي إلا أنّ تلك الانتصارات رغم أهمّيتها ومجدها لم تكن في صميم أهداف الثورة وغاياتها بقدر ما كانت ضرورات لاستكمال الطريق، فكان الأمر أشبه بطريق طويل يسعى من خلاله "الفارس الشجاع" للوصول إلى "الأميرة النائمة" وما إن يكد يبصرها من بعيد حتى تظهر له وحوشا ضارية وذئابًا خطرة فيجهز عليها ببسالة ويمضي في طريقه لأميرة أحلامه.
وطالما تواجدت متلازمة الفقر والجهل والمرض تبقى شروط وأسباب الثورة موجودة، وتبقى أهدافها واضحة في تحقيق مستوى معيشي لائق لحياة كريمة، لا تتحقق إلا بتوفير مقتضيات الأمن القومي بمفهومه الحقيقي (الصحي، السكني، الغذائي، الأمني) وتحرير الجماهير من اضطهاد رجال الدولة في كلّ شارع أو ناصية أو حارة أو مكتب أو قسم شرطة، والقضاء بشكل نسبي على معدّلات البطالة والنزول تدريجيا بها وَفق خطط حقيقية بتوظيف مئات الآلاف من العاطلين والعاطلات عن العمل، غير أنّ هذا لم تتحقّق منه سوى مطالب محدودة للغاية بفضل نضالات إضرابية واحتجاجية متفرّقة في المصنع والميدان والجامعة.
وحتّى لا نفرط في التفاؤل وتتّسع ثورة التوقّعات ونصطدم بالواقع الوحشي لعالمنا الامبريالي الذي يوقف نمونا، فينبغي العلم أنّ ثورتنا تدور في إطار ضيّق ونطاق محدود وتأتي في سياق ثورة عالم ثالثية في بلد تحدق به الأخطار وتتحوّل ثوراته إلى انفجارات سكانية بدون ثورات صناعية ويعاني تراجعا تاريخيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا بصورة تهدد حتّى مجرّد بقائنا كشعب، وقد لا يدرك بعض مثقفينا وكتابنا حقيقة ما فعلتْه بنا الإمبريالية، ومن ثمّ، لا يدركون إشارتي التخفيفية لنتائجها المفزعة، والمَخرج الوحيد لهذا المأزق التاريخي لن يكون إلا ببذل جبال من المجهودات تتضاءل كثيرا وتتواضع أمام كلّ ما قدمناه والسير عبر الدروب الخلفية في طريق طويل وشاق نحو التصنيع الشامل والتحديث الجذري بحيث يصل مداه إلى كل شركة ومصنع وورشة، وكسر القفص الفولاذي للتبعية الاقتصادية وتحقيق الاستقلال الحقيقي وليس الدستوري بعيدًا عن أوهام أصحاب الجملة الثورية والشعارات الديماجوجية الجوفاء.
وبالطبع فأنا لا أهدف إلى تصدير الإحباط واليأس في النفوس، فإذا كان هناك شعاع أمل فلن يدنو إلا بفضل تفكير متعمق وتأمّل جاد، مع التحليق المستمرّ فوق سطح الألم والاكتئاب والحزن والغضب إزاء الأخطار الخانقة للأمل، ولكن لا يسعني إلّا أن أكون حقيقيّا محاولًا قدر جهدي الاقتراب من الحقائق التي يجهلها أو يتجاهلها بعض كتابنا، وبدلًا من الحماس الفارغ والتفاؤل الطفولي الساذج أفتّش في طبقات المجتمع من حيث تكوينها الاقتصادي والاجتماعي والقانوني وحتّى تكوينها النفسي، باحثًا في أدقّ الميول والأمزجة والأوهام والأحلام والجرأة والرغبة والخشية والوحشية وانعدام الشفقة والغيرة والحسد والكراهية والتربُّص والوشاية، وكلّ ما يحيط بقلوب وعقول ونفوس وصدور المصريين في مباهجهم ومآسيهم، ورغم انتمائي وعشقي للثورة إلّا أنّني حينما أحلّل أرتفع فوق ميولي واضعًا رأسي في مجمّد شديد البرودة لأصل لحقائق وحجم الصراع بين الثورة وأعدائها من أقسام الثورة المضادّة
وخلاصة مقالي هذا هو إنْ لم تركّز قوى الثورة على تعميق وتطوير النضال بدلًا من تبديد طاقاتها وقواها في أحلام أو بالأحرى أوهام الديمقراطية المنشودة في مؤسّسات دولة الثورة المضادّة فلا تلوم هذه القوى إلّا نفسها وليس الجيش أو الإخوان أو غيرهم، وعليها الاستماتة والسعي الآن ودون إبطاء لاستعادة الثورة قبل أن يفوت الأوان، إن لم يكن قد فات، وهو أخشى ما أخشاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ألأرقام لا تخطئ
هانى شاكر ( 2013 / 12 / 15 - 05:17 )


ألأرقام لا تخطئ
_________

تصدير ألأوهام للغلابة حرام شرعا يا مولانا ( بألشرعية ألثورية طبعاً )

تقول : (( طريق طويل وشاق نحو التصنيع الشامل والتحديث الجذري بحيث يصل مداه إلى كل شركة ومصنع وورشة ))

وألواقع ألمرير هو : منذ يناير 2011 وحتى ألآن .. خلفنا 6 مليون عيل ... بلا أمل فى تغذية صحية أو طبابة أو تعليم أو فرصة عمل أو فرصة زواج ولا حتى مراحيض ...

ألتقسيم هو ألحل

....


2 - متالق كالعادة
رانيا سلامة ( 2013 / 12 / 15 - 06:55 )
مقال جميل بيلخص الاوضاع ومبيجاملش حد واسلوب جميل كالعادة واتمنى اللي بيقولو على نفسهم كتاب ومثقفين يقرو المقال ده ومقالات تانية يمكن يتعلموا ازاي يكتبو
تحياتي وبالتوفيق دايما يارب
رانيا سلامة

اخر الافلام

.. حزب العمال البريطاني يخسر 20% من الأصوات بسبب تأييده للحرب ا


.. العالم الليلة | انتصار غير متوقع لحزب العمال في الانتخابات ا




.. Mohamed Nabil Benabdallah, invité de -Le Debrief- | 4 mai 2


.. Human Rights - To Your Left: Palestine | عن حقوق الإنسان - ع




.. لمحات من نضالات الطبقة العاملة مع امين عام اتحاد نقابات العم