الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة متلبّسة بالدهشة

خيري حمدان

2013 / 12 / 17
الادب والفن



قالت السكرتيرة دون أن ترفع رأسها عن شاشة الحاسوب أمامها، "الأطبّاءُ منشغلون حاليًا، يمكنكم الانتظار لبعض الوقت، اجلسوا من فضلكم". كانت السيدة تضع نظّارة من النوع الدقيق والصغير، ويبدو بأنّها أخذت بالحسبان أنفها الدقيق. في الواقع، كانت لطيفة للغاية ولم تتخلَّ في أثناء حديثها عن ابتسامتها العذبة. لم نجد بدًّا من الجلوس بانتظار دورنا أو تحرّر أحد الأطباء من الالتزامات الصباحية لمعاينة المرضى وتفقدّهم، ولم يكن هناك غيرها في صالة الانتظار.

لا يوجد مراجعين أو مرضى، وحدنا جلسنا في المقعد العريض بخجل، كدنا نغوص في حشوة المقاعد الناعمة المُريحة. بعد لحظات من الانتظار، لاحظت بأنّ السكرتيرة قد رمقتنا بنظرة مهنيّة سريعة، ربّما لتحدّد هوية المريض، شعرت بالامتعاض والحرج فقد كنتُ مجرّد مرافقًا لزياد، الشاب الذي فقد القدرة على ممارسة الحياة بمنطق واتّزان، ووجدت نفسي مضطرًا لمساعدته قدر الإمكان، لعلّه يتمكّن من الخلاص من اللوثة التي أصابته على حين غفلة من الزمن. تنحنحتُ محاولا بهذا إبعاد التهمة عنّي، ولا أعتقد بأنّ أحدًا يستطيع أن يتصوّر مدى الحرج الذي قد يشعر به صحيح العقل في مثل هذا المكان. هنا يمكنك أن تفعل ما يحلو لكَ دون عواقب أو ملاحقة قانونية. بعد قليل دخل رجل في الخمسينيات من العمر، وقد فتح ما بين إبهامه والإصبع الأوسط لمحاكاة المقص، وبدأ يعمل بجدّ ثم همس قائلا "أتعلم لمَ يبدو نابوليون بونابرت أشعث الشعر؟ لأنّه لم يحضر لطرفي كي أجمّله قبل نفيه إلى جزيرة القديسة هيلانة". طرح الرجل السؤال وأجاب بنفسه ثمّ غادر المكان.
- تفضّلوا، الطبيب بانتظاركم.
دخلنا إلى مكتب الطبيب واجتاحتني رغبة كبيرة بمغادرة المكان على الفور، كان الطبيب قد قصّ شعره "نمرة 2" وتوجهت كلّ شعرة في رأسه حيثما شاءت دون أن تخضع بالحسبان إرادة المشط وقوانين الجاذبية. نظر إلينا بعينين زجاجتين وابتسم بتصنّع متمعّنًا وجهينا.
- هل لك بأن تخبرني عن طفولتك يا سيد..؟
- اسمي رشيد وأرافق السيد زياد لتلقّي العلاج اللازم.
- نعم فهمت. لا تخجل بالاعتراف سيّد رشيد، في البداية يحاول المرضى النفسانيون التهرّب من الحقيقة، المرض ليس عيبًا على أيّة حال. نظر إليّ زياد عاتبًا، أراد أن يقول لي بأنّنا قد أخطأنا المكان، وهمس بعد أن أطلق ضحكة متعمّدة، "أنا المعنيّ يا دكتور، يمكن لرشيد أن يغادر المصحّ إذا شاء ذلك". تدارك الطبيب نفسه وتخلّص من دور الضحية الذي يتقمّسه أحيانًا متأثّرًا بالوسط الموبوء الذي يحاول تغييره، فيقع في شباكه بدلا من معالجته. حكّ الطبيب رأسه واستدرك.
- السيد زياد، هل لك بأن تحدثني ببعض التفاصيل عن سيرتك المرضية، علينا أن نبدأ من مكان ما، أليس كذلك؟.
- أطلقوا الرصاص بالقرب من أذني – هنا. "أشار زياد لأذنه اليمنى". شعرت بأنّ حريقًا قد أشعل ذاكرتي يا حضرة الطبيب.
- هل تعتبر هذه الحادثة بداية المرض؟
- لا، لا أدري يا حضرة الطبيب، لكنّ من غير المقبول والمعقول إطلاق النيران قرب الرأس وعلى بعد سنتمترات من الأذن، إذا لم يكن الهدف هو القتل العمد.
- هذا غباء وكلامك صحيح، أخبرني عن والدتك يا زياد.
- والدتي لم تشهد حادثة ولادتي يا دكتور، كانت في تلك الأثناء منشغلة بتحضير طعام العشاء لوالدي الجنرال. نعم يا دكتور، وقد لا يعرف صديقي رشيد هذه الحقيقة، أنا ابن جنرال وكانت أمّي تخاطبه بسيدي طوال الوقت، حتى بعد أن كبرت وأصبحت يافعًا، لا أدري كيف يبدو الوضع خلال معاشرته الحميمة لها، ربّما كانت تسأله "هل انتهيت يا سيدي؟". أنا ابن جنرال، وهو سيّد زوجته "أمّي" بل هو السيّد المطلق للمنزل، ونادرًا ما كنت أخاطبه بأبي، خاصّة حين يتواجد الغرباء والأقرباء في المنزل. بقي السيد المطلق في المنزل حتى وفاته، قُتل خلال مشاركته بمحاولة انقلاب عسكرية قبل سنوات. كان يعتقد بأنّه الأحقّ بتبوّء مرتبة أسمى في هيكلة الدولة، لكنّه دفع الثمن بسرعة، لم يتمكن حتّى من إدراك لحظة مفارقته للحياة. خرج من البيت في السادسة صباحًا، وفي العاشرة تلقّى زخّة قاتلة من الرصاص اخترقت قلبه وصدره، صرعته على الفور. لكن، ما ذنبي أنا من كلّ ما حدث، لماذا أطلقوا الرصاص بالقرب من رأسي خلال حفلة عرس ابن خالتي؟ لديّ الكثير من الأسئلة الجدلية، أكثرها إلحاحًا "ما قيمتي وحجمي في المجتمع؟".

- يبدو بأنّك تعاني من عقد نفسية متراكمة، أعتقد بانّك بحاجة للبقاء في المصحّ لبعض الوقت، وستخضع لعلاج سريري. هناك عقاقير حديثة قادرة على إسكات هذه الهواجس والمخاوف. قال الدكتور وقد بانت الحيرة على وجهه، أمّا أنا فالتزمت الصمت وكنتُ على قناعة من انفلات لسان زياد، الذي وجد الفرصة للتعبير عن دهشته المتأصّلة من تداعيات الحياة.
- علاج سريريّ وعقاقير، حسنًا يا دكتور شرط أن تضمن لي انعتاقي من صدى أزيز الرصاص في رأسي. شرط أن تعيد لي ذاكرتي مغسولة نظيفة، وأن تلغي مصطلح "سيدي" من دفاتري ويومياتي. اضطررت لتكرار هذه الكلمة، أقصد "سيدي" آلاف المرات، ولم يتفضل أحدٌ لإعفائي من هذا الخنوع. أتضمن لي هذا الترف يا دكتور؟ قاطع الدكتور استفاضة رشيد في حالديث وقال "لماذا حضرت إلى المصحّ يا ابني؟".
- ابني! نادرًا ما أسمع هذا النداء، غالبًا ما كان يناديني الجنرال "برشيد ويا ولد"، أمّا "ابني" هذه فتبدو غرائبية، لكن وقعها جميل ومريح. نظر إليه الدكتور بحنان، ووقف على عجل.
- رشيد، واجبي يفرض عليّ إدخالك للمصحّ، لكنّي أنصحك بالابتعاد عن هذا المكان بسرعة، لا شكّ بأنّك تعاني من وقع الماضي، لكنّ الرصاص سيبقى يدوّي ويقتل ويخترق الهواء ويخلّف وراءه الأرامل والأيتام، لكنّه لن يتوقّف، لا تنسَ كذلك الأثر الذي تتركه القذائف والصواريخ والشتائم والإهانات. لديك صديق وفيّ "أشار إليّ"، يمكنه أن يساعدك وتقديم أكثر مما يمكنك الحصول عليه من العقاقير والأدوية المختلفة. ليست والدتك فقط هي التي انشغلت بخدمة الجنرال خلال ولادتك، هناك الكثير من الأمّهات اللواتي غيّبتهن هموم الدنيا عن حادثة ولادتهنّ المقدّسة، لكنّ هذا لا يمنع من تمكّن الأطفال ورجال وسيدات المستقبل من الوصول إلى قمم جديدة لم تطأها أقدام البشرية من قبل. تجاوز وقع الرصاص، تخلّص من سيرة الجنرال الدكتاتور من ذاكرتك وستشعر بالأمان. أرجوك يا ابني ابتعد عن هذا المكان. ما أن أكمل الدكتور حديثه حتّى خرج من المكتب تاركًا لرشيد كامل الحريّة للاختيار ما بين البقاء في المصحّ للتخلّص من أثر الماضي، أو مغادرة المكان والبحث عن الخلاص في أعماق ذاته.

القصة من المجموعة القصصية "تقويم الزمن الضائع".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في