الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى

ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)

2013 / 12 / 17
الادب والفن


لمّا طُلب منّي تقديم مداخلة حول نصوص الشاعر جان دمّو , لم أفكّر لحظةً واحدة فيما وصلنَا من نصوص له , بل ذهب بي التفكير رأسًا إلى نصّه الأبدي , ذلك النصّ الذي لم يُكتب بالحبر , و إنّما بالدّم الحار . و قد جاء في سيرته المرويّة عن مجايليه أنّه كان يهزأ بكل قصيدة تُقرأ أمامه ، متوعدا الجميع بأنـه سيكتب القصيدة الكبرى , تلك القصيدة التي خُتمت في شوارع أستراليا , و وُقِّعتْ في قبرٍ عموديٍّ يسع ضيق أحلامه .
المتن في مسيرة جان دمّو حياتهُ , أمّا نصوصه المكتوبة فما هي إلّا هوامش مبعثرة بين الحانات و الأزقّة , تؤرّخ لمرور جسده النّحيل من ثناياها .
طوال حديث الأصدقاء عن حياة جان دمّو المربكة , دُفعت إلى إعادة التفكير في عقيدة التقمّص أو تناسخ الأرواح , ذلك أنّي رأيت طيف ديوجين الكلبي يحلّق بيننا هامسًا: أنا الذي حللت في جان دمّو روحًا كانت و لن تُنسى .
إذا كان ثمّة من مرجعيّة يمكن أن نستند إليها في قراءتنا لتجربة جان دمّو الحياتيّة , فهي قطعًا مرجعيّة ممثّلة في الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي خاصّةً و في الفلسفة الكلبيّة عامّةً , و ‘الكلبيّة القديمة , على الأقلّ في أصلها الإغريقي , هي من ناحيّة المبدأ وقحة . و وقاحتها تضمّ منهجًا جديرًا بالاكتشاف ‘ (نقد العقل الكلبي – بيتر سلوترجيك ). .
تميّز جان دمّو بهذه الوقاحة الكلبيّة فلم يسلم من سلاطة لسانه أحد : أصدقاءه و مجايلوه من الشعراء و السلطة و العالم كلّه… إلخ
ديوجين الذي ‘ اعتزم أن يعيش كالكلب , و من ثمَّ سُميَّ بالكلبيِّ -;- و نبذ كلّ المواضعات التقليديّة , سواءً أ كانت خاصّة بالدّين أم بالآداب العامّة أم بالثياب أم بطريقة السكنى أم بالطّعام أم بطرق الاحتشام ‘ ( تاريخ الفلسفة الغربيّة – برتراند رسل). و لعلّه من اللّطيف أن نشير إلى مصنّف تراثي عربي طريف يحمل عنوان ‘ تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ‘ لصاحبه ابن المرزبان المحولي.
و بمناسبة حديثنا عن جان دمّو باعتباره أحد شعراء الهامش الذين حُرموا من وميض البرق اللّامع في الأسماء , أنبّه إلى أنّ الفلسفة الكلبيّة تعتبر من فلسفات الهامش التي بخسها تاريخ الفلسفة نصيبها من الذكر أمام هيمنة المثال الأفلاطوني .
إذا علمنا بأنّ الكلبيّة هي فلسفة عمليّة بامتياز , و أنّ جسد الكلبيّ هو مدوّنته الحيّة , سندرك سرّ اشتغال جان دمّو على قصيدته الكبرى – أي جسده – انطلاقا من مصادرتنا القائلة بحضور المرجعيّة الكلبيّة في ذهنه , فهو المتشرّد و كذا كان ديوجين يعيش في نصف برميل محاطًا بالكلاب . و هو المتّسخ الرثّ المتهرئ الأشعث , و كذا سائر الكلبيين .
لقد كان بإمكان جان دمّو أن يعيش أفضل عيشة , أن يأكل في أفخر المطاعم , أن يشرب في أفخر الحانات , أن ينام في أوثر النزل مع أجمل الغانيات , لكنّه اكتفى بزجاجات النبيذ الرديء , و زهد في النّساء حتى اكتفى بالاستمناء , و فضّل الخيش على الدانتيل …
إنّ كلبيّة جان دمّو خيار لا اضطرار , حيث استطاع أن يجعل من جسده وثيقة رفض للعالم , فكانت حياته انتحارًا مؤجّلا . فهو لم يستعجل الموت بل ترك الأمر للطّبيعة , و في الأثناء يقوم بمهمّته المفضلّة : قول الحقيقة . ف’ داخل كلّ حضارة تجذّرت فيها مثاليات تجعل من الكذب أسلوبًا للحياة , ترتهن سيرورة الحقيقة بوجود أناس عدائيين و أحرار بما يكفي لكي يقولوا الحقيقة . ‘ ( نقد العقل الكلبي – بيتر سلوترجيك ) و لنا على سبيل التمثيل أن نستحضر موقفًا كلبيًا لجان دمّو , يستهدف من خلاله السلطة الثقافيّة و السلطة السياسيّة في آن . فقد استطاع ذات مرّة اقتحام محفل رسمي و البصق في وجه وزير الثقافة امام الحضور , و رغم محاولة السلطة استمالته فإنّه يرفض الوقوع في حبّها . كذا فعل ديوجين عندما حاول الاسكندر الأكبر استمالته . فأجابه بكلّ بساطة ‘ تنحَّ عن طريقي فأنت تحجب شمسي ‘ .
إنّ حياة جان دمّو هي قصيدته الكبرى و قصيدته هي حياته , لقد استطاع أن يذهب بالعبث إلى أقصاه و بالوقاحة الكلبيّة إلى منتهاها , قوّض العالم على رأس الأسياد المزيّفين , و أثبت نهايةً أنّ السيّد هو الذي لا يملك شيئًا و لا يملكه شيء .
عاش جان دمّو غريبًا و مات غريبًا فطوبى للغرباء .


ـ كُتبت هذه المداخلة المقتضبة بمناسبة إحياء ذكرى الشاعر العراقي جان دمّو في إطار التظاهرة الشهريّة تُنسى كأنّك لم تكُنْ لنادي الإبداع الأدبي . سوسة تونس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى