الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبال الألب

مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)

2013 / 12 / 19
الادب والفن


جبال الألب
هاتفتْهُ . التقيا في مقهى صغير ، يصبح كبيرا في المساء . ينصت بكل جوارحه ، معظمها. الصداقة ليست لعبة ، إلا أنه كعادة كل الناس انصرف جزئيا . كانت مسألة الأسانسير تلح عليه . حاضرا كان بالنظرات وهزة الرأس وبتعاطف يتصاعد ، لكنه انصرف جزئيا :

(( وعزة جلال الله ، لن يحدث هذا مرة أخرى ، على جثتي . في الأسانسير الكبير الواسع الملحق بالبرج الطبي ، الذي يُنتظَر من قبل العشرات ، ثم يُقِلُّ عددا منهم . ظل طوال وقفته مصوِّبا مسدسه الشخصي على من اختاروا الدور السابع ، الدور به عشرة دكاترة على الأقل ، هو – بالخبرة والغيظ - يعتبرهم جميعا ذاهبين إلى طبيبه ، كلهم منافسون ، كلهم خصوم . حدث أكثر من مرة أن التحق أحدهم - بعده - في طابور الانتظار أمام المصعد ، لكنه – الجبان - يخرج مسرعا إلى باب العيادة ويُعتبَر هو الأول ، وصاحبنا بعده ، وكثيرا بعدهم . صحيح أن مساعد الطبيب ليس له أن يبعث مندوبا ليسجل أسبقية الحضور أمام الأسانسير في الدور الأرضي ،غير أن هذا الأمر بدا له مسألة حياة أو موت ، ويجدر بالحقوقين أن يجدوا حلا ناجزًا . سلَّم – مرحليا – بالأمر الواقع ، و راح يتسلى ، يحزر وجوه منْ جاروا عليه : ده كشف ! / استشارة! / كشف !.....استشارة إن شاء الله ! ))

عاد ؛ لينظر إلى وجهها الرائق ، الرائق لها ، وله ، لكن في مرات غير هذه المرة ، يُحسن رفقتها بإشارات الرأس و" أيوه ، و هه ، وبعدين " التي قد تقنع صاحبته بأنه سائر معها في دهاليز الكلام ، تتكلم بصدق ، باهتمام ، يُعتبر بالغا . غالبا هي تعرف أنه ذهب إلى ذلك الأسانسير – آلة الظلم .أو إلى أي أسانسير ، لكنها ، مثله ومثل كثيرين ، لا توغر كثيرا في غير المعلن ، أو توغر بشكل غير معلن . غير المعلن صعب ؛ لذا فهي تتحاشى ، لأن ما عدا ذلك سيعطلها عن القيادة ، وهي في عز الرحلة . بسرعة غير مذهلة سَنَتْ قاعدة : من يسمع سبعين في المائة من الكلام يستحق اللقب ، سُئلتْ : ومنْ يسمع أقل قليلا ؟ تقول : " لا أعرف ، على حسب" . هي تعاني من هذه المشكلة ، وعانت كثيرا في واقعة الأسانسير هذه .
أثناء حديثها ، وانفطار قلبها ، انشغل بعمل بحث صغير عن " الإنصات - مظاهره وعلله !! " ، عمَّن يُصغي وفي عينه وسنً ، لكن لا ضرر ولا ضرار ، عن العفاريت الزرق التي تكون في المجال.
مرةً هاتفهَا ، التقط موعدا سريعا ، لأنه – صادقا – يريد أن يشكو من الأيام ، هو لا يستخدم كلمة الشكوى نهائيا ، يقول : " حابب أفضفض معاكي شوية " . لن يستخدم كلمة الشكوى ؛ لأنها تذكره بحادثة قديمة ، بإصابة ميدانية . لم يسلك مسلك البعض " أما الشكوى فقصة أخرى !" هاربا أو مؤسْلِبًا للمعنى ؛ ليكون معه لا عليه ، أو ليصير المراد في أرض الأعراف .أما هو فيقول – لنفسه - : " أنا لا أشكو " ، لا الآن ، ولا مستقبلا . لكنه .

عندما وصل كانت بملابسها البيتية ، الأقل من العادية ، شعرها كيفما اتفق كما يقولون ، قاصدة أن تكون خالية الذهن تماما ، أو أن يكون الانشغال زينة ، أو هو نوع من التضحية ! آذانها المنتظرة منذ أن رن التليفون ، آذانها الصاغية – تعتقد - تكفي وزيادة . كان نِعْمَ المستهدَف ، لم يلاحظ حضورها العادي ، ولا اختفاء حتى النذر اليسير من المكياج . لم يلحظ ذلك إلا لدواعي الكتابة . كان يرى الفارق بوضوح بين ماكانت عليه ، وما تكون . بالمناسبة هو أيضًا كان ذاهلا عن نفسه ، لا أقصد غير متأنق . الحزن لا يقوِّي القلب فقط ، الحزن يُذهل ، وقد يجعلك فُرْجَة – فرجة تنعم بها عيون لن تراها ، في الغالب هي عيون طيبة ، أو لها مطالب مشروعة . وهناك عيون أخرى تراك وأنت تراها ، ولا وازع . أصحاب العيون المرئية كلاب ، وإن كانوا أصدقاء العمر . هم رسل الحق ! هم أقوياء ، أقوياء الملاحظة ، بداية من لون قميصك ومنزلته بين القمصان ، وصولا إلى كل الألوان ؛ ذلك لأن الله خصهم بضمير لا يحب العوج! يجترئون على ما يعيش في أرض الخوف ، أو في نواحٍ صارت مُشفّرة بالتراضي ، وما هي بمشفرة .آه ، كنا نتكلم عن الحزن ، الحزن - أيضا - يضع لمسات سريعة ومؤثرة على الوجه والشعر والملابس ، يرتقي بالهيئة ( ما الهيئة ؟! ) ، يضعك في قلب الدور مباشرة .
كدأبها ، قالت : " هاعمل شاي الأول " ، انتظار الشاي جعله يدبدب بقدميه . يخرب بيت أم الشاي . لكن ، تفاءلوا بالخير تجدوه ! جاء الشاي وجاءت ، اجتازت بسهولة كل الأحداث الجِسام التي حدثت خلال الثلاث دقائق المنصرمة . وضعت يدا على خدٍ . اليمنى أم اليسرى ؟ وضعت يدا وقالت : أيوه . لم يقل : أيوه ؟! شرب الشاي كاملا دون أن ينبس ببنت شفة – حلوة دي . قديمة ، بس حلوة . رأى المكان ساحة لأسانسيرات مختلفٍ أنواعها .
الإنصات أبو الفنون . هو لا يلاحظ نفسه . هُوَّ في إيه ولّا في إيه ؟ لكنه يراها جيدا ، تبدلت كثيرا ، سارت مع الكلام كلَّ سير ، من فرط إعجابه بصمتها . صمتها ليس من النوع الصامت . من فرط الإعجاب وشدة التـأثر اعتمد واقعة الشاي . صار من آن لآخر يستطعم الشاي الذي مضى من ساعات .يبدي – لنفسه - إعجابه بالنكهة ، انشغل ، ونجح في استجلاء فروق دقيقة بين رشفة ، وأخرى تماثلها تماما واللهِ ! . هي لا تفهم ، وهو لن يقول . يبدو مجنونا ؟ يشرب الشاي مرتين ؟! ما الذي يطربه في حصة الصمت هذه ؟! يظهر أنها قررت بعد تردد ألا تسأله ؟ التقط هذه الاستجابة كهدية لن يفض شريطها الملوّن ، وإن قامت الدنيا . قال لنفسه من باب الهزار والجد : لولا الشاي ما احتملت هذه الحياة .
رغم كل ماجرى ، الصراحة ، كان تركيزها يفوق الثمانين في المائة . في فقرة الأسانسير الخاص بها اكتشف أنه أننا - في عز التعاطف - بحاجة إلى من يتخلَّى . المتخلي ليس من أبطال الأبيض والأسود - قساة القلوب . فقط ضع نفسك مكانه ، هو يملك نفسا مثل التي تملك . كن متفهما ، دعه يركب الأسانسير ، على ألا يزيد عن ثلاثين في المائة .

*****************************

الخروج المبكر لتلاميذ " الصباحي " في تلك المدرسة يفاجئهم على الدوام ، رغم كونه يوميا ؛ ربما لأنه في رائعة النهار ! ربما لأنه مؤقت يتبدل في النصف الثاني من العام ؛ ليصير في المغارب . البارزون من تلاميذ خامسة وساتَّة ابتدائي ، بعد خروجهم المباغت ، قبل الظهر ، يلعبون لعبة الموت ، أكثر ألعاب زمانهم خطرا . شوارعهم الترابية حيث بيوتهم جعلهم يضعون الأسفلت في منزلة عزيزة . يُريحون حقائبهم على الرصيف في موضع معلوم ، يقوم على حراستها فريق منهم ، يحرس الخطر ، ويتفنن في تقديم كل ما هو لوجيستي . فريق الحراس لا يُقَارن في عدده باللاعبين الأساسيين . فريق الحراس بمثابة ظهير شعبي للأشقياء . في الشارع الأسفلت الكبير يقف الأساسيون في نهر الشارع ، بعضهم ينام على الأسفلت فداءً للبهجة ! ، وآخرون يرقصون أمام السيارات ؛ ليرعبوا السائقين ، إلا أن الصبية يفتحون الطريق في اللحظة الأخيرة مع وابل من الشتائم ، تنهمر عليهم جزاءً وفاقًا للعبتهم السخيفة . كلما كانت الشتائم بذيئة ، كلما كانت من القلب يطرب الصبية . في لحظة تسلمهم الجائزة ينتحون جانبا ، يحتمون بالـ ظهير ؛ ليعبر المارون بسياراتهم ، هنا تنفلت الصفة من الصبية وتصير لقائدي السسيارات ، وإلا فبِمَ تفسر صياح الكبار ، وجري بعضهم حاملا العصا أو ماسورة حديد ؛ محاولا اللحاق بالفريق والظهير ." المجنون آهو ! ". ثم يتجدد الأمل في جولة ثانية أسخن.
*************************

أثناء الكلام – كلامه ، أخذ جولة هو الآخر!! دون أن يتوقف عن البث للحظة واحدة . تخلِّي المتكلمِ أروق كثيرا من تخلي السامعين . نعم ، الإنصات يوفر براحا للتسكع ، للاستهبال : المطبوخ ، والنيِّئ . لكن الحرفنة أن تلعب بلا أرض :

(( ينهج واقفا . فقط عشر درجاتِ سلمٍ بينه وبين شقته ، يتطلع إلى غاية الغايات ، إلى جبال الألب . وقف ساندا كوعه الأيسر على درابزين السلم ، ساندا كفا مضمومة على خده . جرب وصعد درجتين ، وكان ماكان ، فوقف في تواضع أو استسلام أو تفهم أو قلة حيلة ، كأنه ينتظر أبًا ، أو المطافي ! ينظر بحسرة إلى جبال الألب البعيدة ، حيث محله المختار . ينهج واقفا والصبية - أشقياء خمسة وساتَّة - يرقصون في شريانه الأهم . في نهر الشريان . الدم لا يقوى على المناورة ، لن يجرب الاقتحام ، الصبية ليسوا فرادى . " يا دم ، تشجَّعْ ، خلِّي عندك دم " . ينهج واقفا ، إلا أنه يعلم أنهم يلعبون ، كل ما هنالك أن اللعبة سخيفة ؛ وبناءً عليه هدأ باله إلا قليلا ، القليل يتعلق بكونه على حافة أن يصير هو المجنون في أية لحظة ! جربَ أن يهجم بنفسه – بلا دم - على السلم ؛ ليجبر العيال على التراجع ويصل إلى القمم !. الأطفال لم يتراجعوا قيد أنملة ، " وسعوا شوية . يا ولاد الجزمة ، وسعوا .. الموضوع مختلف ! " . يظهر أن سبابه لم يكن نافذا ولا مخدوما كما يجب ، ربما هذا ما جعله يسلم نفسه لكريزة ضحك مجهولة المصدر . ضحك وبكى وغنّى ، وتكلم بالألسن السبعة . لكن ، لكن خللا ما في الهواء الطلق ، في مكوناته . الهواء لا يعمل . ضحكه أفسد الموقف ؟ صارت نقطة الطرب عند الصبية " نقطة الفرج " بعيدة . لا ، معدومة . شر البلية لم يرُق للصبية ! ، كل حصيلته من مشاهد الضحك والبكاء تجُول على مقربة من القلب . فكر أن يسلي نفسه بعمل هتافات مؤثرة تجتذب من يهمه الأمر . فورَ ورود الفكرة زاد النَّهَجَان . انتبه أن لديه يدا حرة ، ضم قبضتها وأخذ يعليها ويدنيها كأنه في أول المظاهرة . مَنْ وراءه ؟! واصل متمسكا بالإيقاع مطورا له ، أوشك أن يعتذر عن هذا الفيلم الصامت رغم مساحة الدور . فكر أن يفتح الـ " شِير " ، لكنه أدرك : رغم أن الحالة ج ، إلا أنها " مِتْركِّبَة " وأي انفتاح لها سيجعلها " تُفْرُط " . السلامة في الكمال ، وإن كان في أسوأ حالته عزيزي القارئ. بعد أن أنهى مظاهرته التي أنجزها من الألف إلى الياء. نظر إلى السُّلمات وجدها قد طورت من نفسها ! جبال الألب بعيدة مازالت ، أبعد . تسلَّمه الدوار ، وحدث بعد ذلك ما حدث ))

رجع مرة أخرى - كاملا - لحديثه وشكواه . إحقاقًا للحق ، عندما عاد كان كل شيء على مايرام التعاطف على أشده ، كل اللغات تعمل .الإنصات على قدم وساق . لكن بأي نسبة كان ؟!













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد السقا وكريم عبد العزيز مفاجأة أفلام العيد


.. الممثل رفيق علي أحمد ضيف -Conversations with Ricardo Karam-




.. تصريحات أثارت ضجة للفنان دريد لحام خلال لقائه مع برنامج سؤال


.. كورال شرقيات يبدع في الغناء على الهواء في صباح العربية




.. أحمد عبد الوهاب شبيه دريد لحام يحكي كواليس لقائه مع الفنان ا