الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات مرّة

رحمن خضير عباس

2013 / 12 / 20
سيرة ذاتية


حكايات مُرّة
رحمن خضير عباس
كنّا صغارا ،لا تتسع طاولات الصف لعبثنا ومشاكساتنا نستغل الوقت بعراك طفولي لاحدود له ، مستغلين خلو القسم من معلم الرياضة . فجأة يبرز مدير مدرستنا بمعية شاب اسمر ، ذي ملامح سومرية .فاحم العينين فارع الطول . قال لنا المدير : معلم الرياضة الجديد ، لم نشعر بإنسحاب مديرنا ، فقد كنا مسمّرين على حافة من الصمت. ، تشرئب أعناقنا الى معلمنا الجديد ، تأملنا أناقته ، بدلتة الزرقاء وقميصه الابيض الذي تتدلى من ياقته ربطة عنق زاهية. كانت الدهشة تخيم على عيوننا المتعطشة لمعرفة معلمنا الجديد . وما ان أمرنا بالجلوس حتى ارتسمت على فمه ابتسامة حنونة وهويقدم نفسه الينا (: ماجد مكطوف .. ولادة الناصرية معلمكم الجديد لدرس الرياضة ..) بهذه الكلمات أذاب عنا جدران الخوف والتوجس ، وهو يستل من اعماقنا الرغبات المكبوتة في المشاكسة ،لنتحول من طلبة مشاغبين الى اطفال وديعين وهو يحاورنا عن هواياتنا ورياضتنا المفضلة ، واستعداداتنا لأن نكون اعضاء في فريق المدرسة الكشفي .. تلك الليلة لم يستطع التعب ان يسرق النوم من عيوننا . كنا نحلم بمخيمات كشفية لاتخلو من مغامرات كنا نقرأها في مجلة (سمير) . كان ذالك في بداية الستينات من القرن الماضي حينما كنا في المدرسة الإبتدائية الوحيدة في ناحية الغراف . كانت مدرستنا مملة لاروح فيها , ولكن ماجد مكطوف وبعض زملاءه من المعلمين الشباب اعادوا لها روحا جديدة . كنا نتسابق ونلعب كرة الطائرة والمنضدة والعاب الساحة والميدان ,. وكان ماجد يبثُّ فينا روح البحث والمغامرة ، ويؤجج فينا طاقات الإبداع .. اتذكر حينما اخذ فريقنا الكشفي الى الناصرية بمناسبة عيد الجيش ، ابى الا ان نزور داره في الناصرية . ومنذ تلك اللحظة اكتشفنا اننا إزاء اب وأخ ومعلم . كما توثقت علاقاته باهالي الغراف حيث كان يزور بيوت تلامذته ، يبدي لهم مشورته . حينما نجحتُ من المرحلة الإبتدائية ، زرته الى الناصرية لأزف له بشرى نجاحي . اخذني الى السوق ليشتري لي ساعة يدوية . كانت تلك الهدية أثمن ما حصلت عليه في حياتي .
تقطعت الدروب بنا ، وكانت الأعوام تصهل كالخيول ، في معتركات حياتية شرسة وحادة ، اخذت السياسة والدراسة تلتف حول أعناقنا وتتركنا منهمكين في تلمس دروب معتمة . علمت ان استاذ ماجد تزوج من إنسانة فاضلة تشتغل في التعليم وانتقلا معا الى بغداد . ولكنني لم ألتق به ابدا . بعد تخرجي من جامعة بغداد ، اصبحت ضائعا ما بين التدريس والعسكرية ، وما إن حانت فرصة تسريحي من الإحتياط حتى غادرت هذا الوطن ، وأنا اردد مقطعا شعريا ، لااتذكر اسم قائله" هذه الصحراء ، فاقطعها ، ولاتبخل عليها ياطويل العمر .."علمت في مهجري ان ماجد قد فقد زوجته التي توفيت من مرض ألمَّ بها ، وبقي ماجد بعدها أعزلا في مواجهة ظروف قاهرة ،فقد عانى الأمرّين ايام محنتها ، وانفق كلما ادخراه معا من أجل شفائها ، ولكنها رحلت لتتركه وحيدا لايؤنسه في وحدته سوى ابنه ( محمد ) وحفنة من الذكريات .
حينما زرت العراق في الربيع الماضي . اتصلت به وحددت موعدا للقاء .. من بعيد بدا لي ماجد يتوكأ على عصاه . أغمضت عيني قليلا لأسترجع صورة ماجد المعلم الشاب الذي ينقضّ على الكرة بحركات متقنة ، فتنطلق تصفيقاتنا مفتخرين بقوة معلمنا وقدرته على الفوز على فريق الخصم في تلك المدرسة، فنقلد حركاته الرياضية الرشيقة . هل ذا الشيخ المتعب هو استاذ ماجد ؟ لم يترك لي وقتا للتفكير وهو يعانقني بدموع تنزلق على وجنتيه الشاحبتين . قال مازحا: لم تتغير وكأنك مازلت في نفس الرحلة في الصف الرابع الإبتدائي ، ضحكنا ونحن نلوذ بأفياء الزقاق المؤدي الى بيته في منطقة الكريعات.
كان لقائي به ، هو الأول بعد نصف قرن ، ولم يخطر ببالي أنه الأخير . كنت اداري دموعي الهاربة بضحكة زائفة . سرنا الى بيته المختبيء في أزقة ضيقة . قدم لي ابنه الرائع محمد ، تحدثنا باختصار عن السنوات وكأنها سحب عابرة ، تحدثنا عن الهموم الحادة ‘ الأوضاع في العراق ، الغربة في المهجر ، والغربة في الوطن ، هموم السياسة وهموم الوطن ..كنا نتحدث بسرعة وكأننا نريد إختصار السنين .
" ادركني الوقت ، ابو محمد .." قلت له وكأني اريد الهروب من واقع مر . حينما ودعني وهو يدس ثمن إجرة التاكسي في جيب السائق ، قلت له : حينما ازور العراق العام القادم سيكون لنا الوقت الكافي لأن نلتقي أكثر . لكنني لمحت شبه ابتسامة على وجهه هي اشبه بالسخرية من الحياة ومنعطفاتها.
امس وانا اطالع صفحة الفيس بك . فإذا بخبر وفاة ماجد ، تسمرت عيناي في الخبر . كانت دموعي تتسلل بصمت وانا استعرض قصة حياة هذا المربي الفاضل ، الذي استطاع ان يترك بصماته الطيبة على أجيال من تلامذته .
لترقد روحه الطاهرة بسلام ولتبقى ذكراه الطيبة بين محبيه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم