الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مِنَ العشيرةِ إلى الدولة... استغلالٌ لا ينتهي.

أحمد سعده
(أيمï آïم)

2013 / 12 / 20
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


قديمًا عاش البشرُ في ظلِّ المشاعات البدائية تحت اسم العشيرة أو القبيلة في مجتمعات تحكُمُ نفسَها ذاتيًّا، وكانت النزاعاتُ بين أفرادها تحكُمها قواعدُ التحكيم، والتقاليد المطبوعة عادةً بالجهل وسطوة المُعتقَدات السحرية والعقائدية، وبرغم شيوع روح التضامن والسلام والمؤاخاة والمحاباة داخل الجماعة الواحدة إلَّا أنَّ هذا، بالطبع، لا يعني أنّنا إزاءَ أوضاعٍ مثالية؛ فقد عاش أفرادُ تلك الجماعات تحت رحمة قوى الطبيعة وقسوتها ووحشيتها بلا أدنى مواجهة إلّا في حدود معلوماتهم أو من خلال الشعوذة والتعاويذ، وبالطبع، فالإنسانُ قديمًا وحديثًا لا يستطيعُ الدخولَ في حربٍ ضدَّ الطبيعة، لكن بالعلم والبحث والاجتهاد والتدقيق يمكنه اتخاذُ إجراءات استباقية للحماية من أخطارها والتخفيف من قسوتها.
وعاش البشرُ قرونًا من الزمن بلا "دولة" في مجتمعات عشائرية تتكيّف مع أوضاع خاضعة لهبات البيئة والتضاريس، غير أنّ "الدولة" تبدأ في النشوء حينما يتوافر فائض من الإنتاج فتظهر مجموعة من الرجال تحتكر بعض الوظائف الإدارية كالتحكيم والتسليح والقيادة، ومجموعات وظيفتها الإنتاج الفكري أو العقائدي أو الأيديولوجي كالكهنة والفلاسفة والرسَّامين. والتحوُّل من نمط القبيلة أو العشيرة إلى نمط الدولة وظهور مجموعات منفصلة من رجالها تقوم بالأعمال الإدارية يشترط بالضرورة وجود فائض إنتاج مستمرّ يسمح بتحرير مجموعات من المجتمع من الالتزام بأعباء إنتاج معيشتها وتولّي الإدارة، وبالتبعية يتمّ فصلُ العمل السياسي عن باقي أعضاء القبيلة أو العشيرة لتكون فقط من خلال المجموعات الإدارية الجديدة ولأنَّ المصلحةَ هي العامل الأساسي في احتكار طبقة لوظائف بعينها اليوم كان يقوم بها الجميع بالأمس، فإنّ اللحظة التي تتحوّل فيها الجماعة القبلية إلى دولة لا تعني سوى أنَّ ثمَّة أناسًا لهم مصالحُ في القيام بعزل باقي أعضاء المجتمع المنتجين والعاملين عن ممارسة وظائف إدارية تحميهم من الاستغلال والسيطرة التي ترنو إليها بالطبع الطبقةُ المسيطرةُ تحت الاسم الجديد "الدولة".
وتلجأ الطبقة المسيطرةُ بشكل تدريجي لتملك فائض الإنتاج الذي يبدأ بشكل ودّي ينتهي إلى حضيض الإلزام والاستغلال وتحويله إلى ضرائبَ وريوعٍ جبريةٍ بعد أن كانت هباتٍ وهدايا يمنحها المنتجون المجموعاتِ الإداريةَ، وبالطبع، فإنّ هذا الإلزام يستلزم بالضرورة قوّةً جبريةً لتأمين هذه الريوع والاستقطاعات وفرضها، ولا تكون هذه القوّة إلا تحت إكراه السلاح، وبذلك يلجأ المسلَّحون باختلاف مسمّياتهم (جنود أو عصابات أو فتوات أو قراصنة أو لصوص أو بلطجية) إلى إجبار المزارعين ورُعاة الأغنام والحرفيين والتجّار على دفع جزء من إنتاجهم وأرباحهم تحت مسمّيات متعدّدة (جزية أو ضريبة أو إتاوة) إلى الطبقات المسيطرة، وتحتكر هذه المجموعات السلاح بدعوى حماية الجماعة، مع حظر باقي أفراد الجماعة ومنعها من منتجين ومزارعين من حمل السلاح، وليس في ذلك بجديدٍ على البشر، فالبشرُ يَقهرون البشرَ منذ قيام التاريخ وحتّى يومنا هذا.
وفي الرواية الممتعة "السبعة الرائعون" للكاتب ويليام روبرتس، نلتقي في هذه الديستوبيا الطويلة بتجسيد رائع لسيطرة مجموعة من الرجال على باقي أفراد الجماعة حين يلجأ زعيم العصابة كالبيرا (المارشال برعي في الفيلم المصري شمس الزناتي) إلى ممارسة الاستغلال واستقطاع جزء من إنتاج مزارعين مكسيكيين بقوّة السلاح وقد اقتصر حمل السلاح في اليونان القديمة على طبقة من الرجال مقابل تحريمه على العبيد والفلاحين الذين كانوا عادة ضحايا ثقافة نزع السلاح من بعضهم ومنحه حكرًا لبعضهم الآخر، فكانوا إمّا أسرى حرب لم يتم إعدامهم، أو فلاحين في واقع مناطق محتلّة، وهنا يبدأ التقسيم الطبقي للمجتمع ومن ثم، يفقد جوهر وحدته الإنسانية التي تسود النظام العشائري ويتحوّل رويدًا إلى مجتمع مزدوج لا مكان فيه للمؤاخاة، فاسحًا المجال واسعًا لاستغلال واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان.
وعندما تنفجر ثورات من أجل الإطاحة بالطبقة المسيطرة أو نظام "الدولة" فلا ينتهى نظامٌ إلا ويحلّ نظامٌ لاحقٌ يقوم بدوره على الاستغلال والسيطرة على باقي الطبقات، وفي كتاب "إنجلس" -أصل العائلة والملكية الخاصّة والدولة- يعرف الدولة بأنّها تجمّع من الرجال المسلّحين يقوم بوظيفة الإكراه ضدّ باقي أقسام المجتمع، وطبعًا هذا بجانب الوظائف الإدارية الأخرى للدولة، أمّا عن تصورات بعضهم الساذجة أنّ "الدولة" نشأت بموجب "عقد اتفاق" أو "دستور" بين أطراف المجتمع فهو مفهوم لا يمكن اعتمادُه إلا في حالة دولة جديدة لا توجد فيها مؤسّسات ولا طبقات، وليس في ظلّ سيطرة ونفوذ طبقة على باقي طبقات المجتمع، فلا تعدو القوانين والدساتير في هذه الحالة إلا تقنينًا وتبريرًا وتنظيمًا للاستغلال وسيطرة "الدولة".
وفي العصور الوسطى، استحوذ رجال "الدولة" على مساحات الأراضي (الإقطاعات) وقسّمت بحيث صار كلّ نبيل مسئولا عن مساحة يتولّى فيها إدارة الجنود وجباية الضريبة وإصدار العملات، وكلّما اتسعت الاقطاعات المسئول عنها، استلزم الأمر رجالًا إضافيين للدخول في صُلب الطبقة المسيطرة لكن في مراتب أدنى من النبلاء كالكونتات والدوقات مع منحهم بعض الصلاحيات على مساحات الأراضي الشاسعة حيث يستحيل إدارة الأمور واقتصارها فقط على الملوك والنبلاء والأباطرة، وكلما ازداد الفائض وازدادت أعباء تنظيم الاستغلال تظهر شخصيات جديدة كالوزراء والمارشالات بعد أن يتمَّ اختيارهم بعناية من بين عبيد النبلاء لضمان خضوعهم وخنوعهم الكلي للطبقة المسيطرة "ودولتها"
ولأنّ الإكراه وحدَه لا يكفي لضمان انتظام الدولة وتنظيم استغلالها، حيث إنَّ الدولة الطبقية القائمة على العنف المسلّح وقودًا حيويًّا لاندلاع حروب أهلية ممتدّة تمزّق كيان المجتمع والدولة والطبقة المسيطرة، لذا تلجأ "الدولة" لسياسة احتواء المستَغَلّين بحيث يقبلون دفع فائض إنتاجهم للدولة وطبقتها المسيطرة كأمر عادل وحتمي بدعوى أن "الدولة" تقوم على حمايتهم وحماية حدودهم والتخطيط لمستقبلهم، ومن هنا أيضًا كان الظهور الحتمي لرجالٍ وظيفتُهم الاحتواءُ الأيديولوجي بغرض تأمين قبول المستَغَلّين بالأمر الواقع، بل والنظر إليه على أنّه واجب وفريضة، فكانت تلك هي وظيفة الكهنة والروحانيّين الذين ترعاهم "الدولة".
ومع اتساع دور الكهنة ورجال الدين تعلو سلطة دور العبادة والمدارس في انتاج الأفكار والترويج لها ونشرها بحيث تصبح عملية الإنتاج من خارج رجال الدولة لفكرة جديدة صعبة جدًّا إلّا في حدود الأيديولوجيا السائدة للطبقة المسيطرة، فمنتجو الأيديولوجية عبر الزمان كانوا تحت رهن المصالح المادية وخدمتها للطبقة المسيطرة وفي مصر يمكننا التدقيق بسهولة حول توجّهات أصحاب وملّاك الفضائيات والصحف، وفي العصور الوسطى كانت الكنيسة تملك الأراضي إلى جانب النبلاء فأنفقت على الفلاسفة والمفكّرين والرسّامين بحيث لا يخرج إنتاجهم الأيديولوجي عن مسار خدمتهم إذن فالقانون يحمي الاستغلال وينظّمه ويخلق له ترسانةً من التبريرات، أمّا الدين فيلعب دور الوعظ والإرشاد للمستغَلّين ليقبلوا بمصيرهم، وترويج شعارات أنّ الفوضى التي تتبع النضال والثورات ضدّ الظلم أسوأ من الظلم ذاته، فلا داعي إذن للتغيير أو المحاولة، ويستمرُّ الشعار في التطوّر حسب اجتهاد فقهاء السلطان وصولًا إلى تحريم الخروج على الحاكم وغيرها من شعارات لا تلائم إلا الكسل والخنوع والخضوع لظلم واستبداد "الدولة" وطبقتها المسيطرة.
وحتّى لا تأخذني نرجسيّة مضادّة أو نزعة متطرّفة تجاه الدولة، فإنّ هذه الآداة الجهنمية "الدولة" برغم كونها أداة في خدمة طبقة بعينها وتنظيم استغلالها وسيادتها وتكريس سيطرتها على باقي طبقات المجتمع وإخضاعه، إلّا أنّ الخلاص منها لا يعني إلّا تحوّل هذا المجتمع الطبقي لغابة بشرية حقيقية لا يسود فيها سوى قانون (البقاء للأقوى) وأن تأكل قبل أن تؤكل، ولن يكون الاستغلال فقط في مضمون المجتمع بل في كلّ مظاهر البشروأشكالهم وتعاملاتهم ، فالاستغلال المنظّم أفضل كثيرًا من الاستغلال الوحشي، والخلاص من الدولة لا يكون إلّا في مجتمع بلا طبقات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المصالح
نور الحرية ( 2013 / 12 / 21 - 19:41 )
ولعل الدين كان المظهر الابرز لقهر الانسان لاخيه الانسان منذ بداية التاريخ وحتى يومنا هذا .الموضوع يستاهل ان يتابع بمقالات اخرى شيقة كهذه

اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا