الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيلسون مانديلا

اسماعيل شاكر الرفاعي

2013 / 12 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


اعجابي الشديد بمانديلا لا يتوقف عند حدود المدح الذي ينزع من الممدوح صفاته الانسانية ، ويدثره بهالة من القداسة تحوله الى كائن خرافي ذي صفات وافعال عجيبة خارقة لنواميس الكون والحياة . لم يدّع مانديلا بأن السماء هي التي ألهمته سياسة التسامح المناقضة لسياسة التمييز العنصري ، بل كانت ــ كما تشير سيرة حياته ــ نتيجة طبيعية لنضاله الدؤوب من اجل الحرية . لقد اكتشف مانديلا ــ في أقسى لحظات حياته وهو يواجه الموت من البيض ، او وحكومة البيض تزج به في السجن ــ بأن النضال من أجل الحرية لا يتحقق ان لم يكن شاملاً للبيض والسود على السواء ، والا تحوّل نضاله من أجل الحرية الى مجزرة بشرية يوقعها السود بالبيض ، ويتحول هو شخصياً الى عراب لهذه المأساة التاريخية . وهذا ما دفع هذا الزعيم المفكر الى اعتزازه الشديد ببشريته ، ورفضه القاطع لمحاولات اخراجه منها ، باضفاء صفات فوق بشرية عليه ، فاضفاء الآلهي على البشري هو المقدمة الضرورية لتبرير كل المجازر في التاريخ ، بعد ان ادعى قادة هذه المجازر بانهم مكلفون من السماء في تنفيذ هذه الافعال الوحشية : لنشر شريعة اللّه على الارض ، كما يفعل الساسة في عالمنا المنكوب بسياسييه . ومن خلال هذا الاعتزاز الشديد بكونه بشراً لا نصف الاه : قدم مانديلا نموذجه الفريد الذي يشير الى ان العالم اغنى بالتجارب وبالامثلة ، واوسع من النظريات والمفاهيم التي تريد ان تتوقف بالحياة عند حدود نماذج القيادة التي قدمتها لنا المركزيات الاثنية والثقافية : الهندية والصينية والاغريقية والرومانية والفارسية والعربية ، وكذلك الاوربية الحديثة . فنموذج مانديلا يشير ــ من حيث دلالته التاريخية ــ الى ان الامم والشعوب المهمشة تستطيع ان تقدم ــ وهي تنتزع حريتها ــ نموذجاً في الابداع السياسي لا يقل في أهميته التاريخية عن أي نموذج سابق ذي اشعاعات انسانية : فمثلما حوّل مانديلا ويلات السود ومعاناتهم من الدولة التي أنشأها البيض على ترابهم الوطني الى فرصة تاريخية يتعالى فيها السود ــ سكنة البلاد الاصليين ــ على اسلوب المعاملة بالمثل الذي سيأخذ في حالة جنوب افريقيا تنظيم مذابح جماعية للبيض للثأر منهم ، تستطيع كذلك شعوب الكرد والامازيغ والفلسطينيين التي غلبتها على أمرها الامبراطوريات القديمة ان تتعالى على جراحاتها القديمة ، وان تضرب مثالاً في التسامح في لحظة انتصارها . بهذا المثال الانساني الغير مسبوق عالمياً ، واجه مانديلا تراثات المراكز الحضارية القديمة التي فلسفت نظرتها الى الآخر انطلاقاً من ثنائية السادة والعبيد : ففضلت امة على اخرى ، وفضلت البيض على السود ، والرجل على المرأة . واجه مانديلا تلك الافضليات كلها بنموذج طبقه فور انتصاره يقوم على المساواة المطلقة بين الامم ، وبين البشر على اختلاف سحنهم ، وبين الرجل والمرأة ، فحول قضية تحرير ابناء جلدته من استعباد البيض لهم : من قضية داخلية خاصة بمجتمع دولة جنوب افريقيا ، الى عرس عالمي شاركته فيه كل امم وشعوب الارض . هكذا كتب هذا الزعيم الافريقي سيرة حياة خاصة . لم يكتبها انطلاقاً من نظرية المخلص ، ولا من الادعاء الاجوف بوجود قوى غيبية ترعاه وتسدد خطاه منذ الولادة ، بل قدم سيرة حياة اشارت تفاصيلها الى ان السياسي لا يبدع الا اذا تخلى عن تلك الهلوسات الذاتية ، واندمج بقوة في حياة مجتمعه الارضية ، اذ بهذا الاندماج وحده يتحول السياسي ــ كما تحوّل مانديلا ــ من قائد لتحرير مجموعة مضطهدة من مجتمعه ( السود ) الى زعيم وطني أخذ على عاتقه مهمة تحرير مواطنيه من الاوهام : تحرير السود من اوهام الثأر ، فليس بالغرائز العدوانية وحدها تحل المجاميع البشرية المغلوبة على أمرها مسألة تحررها ، وتحرير البيض من استعباد اوهام االعنصرية لهم ، فتجنب بهذه السياسة الانسانية حرباً أهلية دامية متجاوزاً بذلك المثال الذي قدمه الرئيس الامريكي ابراهام لنكن في العقد السادس من القرن التاسع عشر ، ثم تجاوز النموذج الذي قدمه جورج واشنطن في حصر الترشح لرئاسة الولايات المتحدة الامريكية بدورتين ، اذ قلصها نموذج مانديلا الى دورة واحدة... والخلاصة ان حياة الزعيم الافريقي كانت مرافعة مستمرة دفاعاً عن نموذج سياسي يقوم على التضحية ( سجنه الطويل ) وعلى الانجاز المشع بدلالة وطنية ذات ابعاد انسانية . من غير هذا البعد الانساني ( وهي اضافة مانديلا التاريخية ) لا يمكن حل مسائل الطائفية والقومية والتمييز العنصري . صحيح ان للمضمون الطبقي أهميته في توحيد فقراء وكادحي القطبين المتصارعين ، الا ان تجربة مانديلا قدمت دليلاً مختبرياً على ان الهويات الفرعية ــ التي تصاعد لهيبها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبعد عصر العولمة ــ من الضروري البدء بتطويعها على تقبل مفهوم المواطنة كمقولة ثقافية وممارسة يومية ، وتقبل النظام المؤسسي الحامل لها على مستوى الدولة ، قبل الدخول بأي برنامج عابر لهذه المسألة الاجتماعية الحيوية . ليتم من خلال ( تقبل مفهوم المواطنة وتقبل آلية عمل المؤسسات الحاملة لها : وهي عملية تاريخية طويلة زمنياً ) كنس مخلفات عهود الاقطاع وانظمتها السياسية القائمة على ثنائية السادة والعبيد ، وهي ثنائية عاشتها البشرية عبر آلاف السنين ، بما تضمنته من امتيازات كان البيض في جنوب افريقيا ــ وهم أقلية ــ يحتكرونها ويحرمون منها الاكثرية السوداء . تجربة مانديلا في جنوب افريقيا هامة لشعوبنا في الشرق الاوسط ، الذي يضم قوميات كبيرة كالعربية والفارسية والتركية ، ما زالت بعيدة عن تقديم حل انساني للقوميات الصغيرة التي تشاطرها سكن الدولة . فحري بطلائع هذه الامم ان تضع نصب عينيها هذه التجربة الخلاقة وتسترشد بنتيجتها الايجابية الناجحة وهي تحل واحدة من أعقد المشاكل العرقية والثقافية ، يعود سبب تأخر طلائع هذه القوميات في تقديم حل انساني للاقليات القومية والدينية والطائفية ، الى انطواء شعاراتها المركزية على فكرة مقاومة الخارج باطلاق من غير التمييز بين الخارج كحضارة جديدة وبين الخارج كتمدد استعماري ، مما دفع بطلائع هذه القوميات الثلاث على الانطواء على ذاتها والعودة الى بعث اصولها الاولى ( منظومتها الفكرية القديمة ) التي دمجت فيها زاوية نظر اسلاموية بزاوية نظر قومانية : قاد الى الاعلاء من فكرة ضرورة المركزة الشديدة للدولة من أجل مقاومة ناجحة للخارج الامبريالي الصهيوني : المتآمر دائماً على وجود هذه القوميات الثلاث ، مستخدماً الاقليات الدينية والقومية اداة في تآمره المستمر هذا . لم يتكئ نموذج مانديلا على حلم استعادة امجاد قديمة حققتها امبراطوريات قومية او دينية . أخذ نموذج مانديلا بعين الاعتبار الحقائق الجديدة في التاريخ العالمي في القرون الثلاثة الاخيرة التي اعادت فيها قوى الحضارة الجديدة رسم معالم خارطة كونية جديدة ( كما فعلت في التاريخ الامبراطوريات الزراعية القديمة ) تضيع حقوق السود لو طالبهم مانديلا بانتظار نيل حريتهم حتى يتم اعادة رسم خريطة جديدة للمعمورة تنفذها امبراطورية جنوب افريقيا التي سيسود فيها السود على باقي الاعراق ، كما نادت بذلك انظمة مجالس قيادة الثورات في البلدان العربية ، وكما تنادي بذلك الاحزاب الاسلامية في طول بلدان المسلمين وفي عرضها ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة ضرب مستشفى للأطفال بصاروخ في وضح النهار بأوكرانيا


.. شيرين عبدالوهاب في أزمة جديدة وصور زفاف ناصيف زيتون ودانييلا




.. -سنعود لبنائها-.. طبيبان أردنيان متطوعان يودعان شمال غزة


.. احتجاجات شبابية تجبر الحكومة الكينية على التراجع عن زيادات ض




.. مراسلة الجزيرة: تكتم إسرائيلي بشأن 4 حوادث أمنية صعبة بحي تل