الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلام الدائم شعارٌ يصلح لأبواب المقابر

فيصل القاسم

2005 / 6 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


يُعتبر "شارع وايت هول" في منطقة "ويستمنستر" بلندن من أشهر شوارع العاصمة البريطانية، فهو يحتضن مبنى وزارة الخارجية ويتصل بالشارع المحاذي لمبنى البرلمان وأيضاً بساحة "الطرف الأغر" الشهيرة. والأهم من ذلك أنه أحد عنواين سكن الملكة إليزابيث. لا بل هناك شيء أكثر أهمية من كل ذلك وهو أن الشارع الأشهر في بريطانيا شارع "داوننغ ستريت" الذي فيه مقر الحكومة البريطانية يتفرع من شارع "وايت هول". باختصار فإن منطقة "ويستمنستر" وما يحيط بها من شوارع تـُعتبر القلب السياسي النابض لبريطانيا. وبما أن القلب عادة هو العضو الذي يختص بالحب والكراهية يُعز من يشاء وينبذ من يشاء فقد آثر قلب بريطانيا آنف الذكر(المؤسسة الحاكمة) أن يقرّب إليه أحب الشخصيات التي برأيه تستحق التمجيد أكثر من غيرها عبر التاريخ وذلك من خلال تخليدها بنصب تذكارية عظيمة.

مررت قبل أيام بمنطقة "ويستمنستر" وتوابعها، وبدافع الفضول بدأت أعاين التماثيل المـُقامة فيها لعلها ترشدني إلى طبيعة العقلية الحاكمة في ذلك البلد الذي امتلك في يوم من الأيام امبراطورية لم تغب عنها الشمس. وكم كنت مخطئاً في توقعاتي كملايين العرب. فنحن نعيّر بعضنا البعض عادة بأننا لا نقيم وزناً كبيراً للمفكرين والمثقفين والفنانين والأدباء والمبدعين والمخترعين. ولطالما كنا نحترم الغرب ونحسده على إيلائه مفكريه ومبدعيه اهتماماً عظيماً. لكن جولة بسيطة في منطقة "ويستمنستر" ستظهر لنا كم كنا مغفلين. لا أريد أن يستشف أحد من كلامي أن الغرب لا يحترم أدباءه ومخترعيه وكتابه العظام، فهو يضعهم في مرتبة متقدمة، لكنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن ينافسوا أبطال الحروب والجنرالات وقادة الجيوش وسفاكي الدماء وقتلة الشعوب وقادة الحملات الاستعمارية والغزاة الغربيين على الحظوة بمكان لائق حول المنطقة المحيطة بالبرلمان البريطاني ومقر الحكومة.

لم أجد وأنا أتلفـّت يميناً وشمالاً في شارع "وايت هول" وغيره من الشوارع المتفرعة منه غير تماثيل لهذا القائد العسكري أو ذاك. فهنا تمثال ل"مونتغمري" الذي قارع "هتلر" في الحرب العالمية الثانية وهناك تمثال ل"كرمويل" المعروف تاريخياً بسطوته العسكرية الرهيبة، وفي الزاوية الأخرى نصب لقائد القوات البريطانية في هذه المعركة التاريخية أو تلك. وفي زاوية ثانية عدة تماثيل لجنرالات قتلوا وسفكوا ما تيسر لهم من الدماء البريئة وغزوا من البلدان أكثر مما قرأوا من كتب. ولا ننسى أن ساحة "الطرف الأغر" تحتضن واحداً من أعلى النصب التذكارية في البلاد ألا وهو تمثال "اللورد نلسون" البطل الذي صارع الفرنسيين في أكثر من معركة وانتصر عليهم. وإذا وجدتَ تماثيل لبعض المفكرين والمخترعين في الساحة الشهيرة سترى أنها تماثيل قزمية بالمقارنة مع تمثال المقاتل الشرس "نلسون" ولا يتجاوز ارتفاعها مترين أو ثلاثة على أكثر تقدير كما لو أن الطبقة الحاكمة تقول: "القوة وبس والباقي خس" وإن الجبروت هو أعلى وأرفع القيم التي نؤمن بها.

وللتذكير أن هناك بقعة صغيرة على الطرف الآخر مقابل تمثال اللورد "نلسون" مباشرة لا يوجد فيها تمثال. وقد شكلت الحكومة لجنة خاصة لاختيار شخصية تاريخية كي يـُقام لها نصب في تلك البقعة. وقد أمضت اللجنة ثلاثة أعوام وهي تبحث عن شخصية عظيمة كي تقابل "نلسون" في الطرف الآخر فلم تجد مما حدا بالحكومة البريطانية إلى أن تنسى الموضوع وأمرت بعد كل هذا الجهد بزراعة شجرة في المكان الذي كان مخصصاً لبطل يضاهي "نلسون" في قوته وجبروته. لا أدري مثلاً لماذا لم يقيموا نصباً للأديب العظيم شكسبير. ربما لأنه ليس رمزاً للقوة والعنف.

وإذا كان البريطانيون قد شيدوا ل"نلسون" تمثالاًً شاهقاً كي ترنوا أعين الناس إليه إلى الأعلى، فإن الفرنسيين قد أقاموا لنابليون تمثالاً بطريقة تجعل كل من يريد أن يراه ينحني. لقد بنوا النصب النابليوني في قاع المكان المخصص للتمثال، لكن ليس للانتقاص من قدره بل كي يحني المشاهدون رؤوسهم وهم ينظرون إليه كنوع من الخشوع والتقديس.

هذا هو الغرب الذي يعظنا حول فضائل الديمقراطية والليبرالية والسلام والمحبة. إنه غرب القوة والسيطرة والحديد والنار. وإذا كانت بريطانيا قد تراجعت في النصف الثاني من القرن العشرين عسكرياً فقد حلت محلها أمريكا التي تسير على النهج ذاته. فقد وصلت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية إلى حوالي نصف ترليون دولار أي ما يعادل ميزانية كل دول العالم مجتمعة تقريباً. والأدهى من ذلك أن هناك استرتيجية أمريكية شهيرة تـُعرف باستراتيجية "الضربة الاستباقية". وتنص الخطة على ضرب أي قوة في العالم يمكن أن تفكر بمنافسة أمريكا عسكرياً حتى لو بعد خمسين عاماً. وتندرج حملات مكافحة ما يسمى بالإرهاب في هذا الإطار، فممنوع منعاً باتاً أن يكون هناك أي جهة تهدد عرش الأقوياء.

صحيح أن أمريكا تفاخر بأنها الديمقراطية الأعظم في العالم، لكن قيمها الأصلية ليست ديمقراطية ولا ليبرالية ولا حتى تكنولوجية بل عسكرية بالدرجة الأولى. وللتذكير فإن أعظم الاختراعات التكنولوجية في أمريكا جاءت بفضل المؤسسة العسكرية، فهي التي كانت ترعى المخترعين كي يجودوا عليها بأعتى الوسائل العسكرية الفتاكة والمدنية. هل نسينا أن جهاز الفاكس مثلاً وُجد أول ما وُجد لأغراض عسكرية بحتة قبل أن يصبح في متناول المدنيين قبل حوالي عشرين عاماً؟ وحتى الكومبيوتر صُنع لأهداف عسكرية حربية واستخباراتية أولاً ومن ثم طـُرح في الأسواق. وينطبق ذلك على الكثير من المُعدات والأجهزة الأخرى التي لم تر النور إلا في مصانع وزارة الدفاع الأمريكية. وقد ذكر لي مفكر عسكري ذات مرة أنه لولا العسكر لما رأينا الثورة التكنولوجية العظيمة في النصف الثاني من القرن العشرين في أمريكا وغيرها. بعبارة أخرى فإن الثورة التقنية جاءت أول ما جاءت لخدمة العنفوان العسكري وليس لرفاهية المجتمعات الغربية.

إن أهم قيمة عبر التاريخ هي قيمة القوة وليس أي شيء آخر. وإذا كانت أمريكا ترهب العالم هذه الأيام فليس بذراعها الاقتصادي أو الأخلاقي بل بسطوتها العسكرية الرهيبة حيث وصلت قواعدها العسكرية إلى حدود الصين. ولعلنا نتذكر مقولة "ستالين" الشهيرة حينما أخبروه بأن الفاتيكان قد انقلب ضد الاتحاد السوفياتي فسألهم "ستالين": "وكم يملك من الدبابات" فأجابوه: "ولا دبابة"، فضحك "ستالين" بملء شدقيه ساخراً من ذلك الخطر المزعوم. وهناك أيضاً مقولة للقائد البريطاني آنف الذكر "كرومويل" حينما أخبروه بأن هناك مظاهرة حاشدة حول مقره فسألهم: "هل يحمل أي من المتظاهرين أسلحة"، فأجابوا: "لا"، فرد عليهم "كرومويل" بضحكة مجلجلة: "دعوا أحد الجنود يرفع بوجههم سلاحاً وسيتبخرون بسرعة البرق".

في الوقت الذي لا يقدس فيه الغرب سوى القوة والأقوياء ويتسلح فيه العالم حتى أسنانه نجد بعض الأنظمة العربية لا هم لها سوى الترويج لما يسمى بثقافة السلام يساعدها في ذلك رهط ممن يسمون ب"الليبراليين العرب الجدد" الذين أخذوا على عاتقهم إدانة وتجريم كل عربي يحاول أن يدافع عن وطنه بحجر صغير أو بسكين المطبخ. كيف لا وقد كان مثلهم الأعلى الرئيس المصري أنور السادات قد أعلن قبل توجهه إلى إسرائيل عام 1977 أن حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب العربية مع إسرائيل؟ مع العلم أنه لم يحدث في التاريخ أن أعلنت دولة ما بأنها لن تحارب من الآن فصاعداً. فهناك مثل يتداوله العالم منذ الأزل يقول: "إذا أردت السلام فاستعد للحرب". مع ذلك فهناك توجه عربي غريب يجنح للسلم "عمـّال على بطـّال"، والويل كل الويل لمن يستخدم مفردة "مقاومة" فقد غدت كلمة ملعونة مطعونة إلى يوم الدين.

لا ضير في أن تمتلك إسرائيل طائرات حربية خاصة لا يوجد لها مثيل حتى في أمريكا ولا ضير في حيازة مئات الرؤوس النووية الرهيبة. لكن هناك مشكلة خطيرة في أن يمتلك الفلسطينيون بضعة قذائف هاون من النوع الذي استخدم في الحرب العالمية الأولى. وهناك مشكلة أخطر في أن يمتلك حزب الله بضعة ألوف من الصواريخ البدائية. وعندما أطلقت سوريا صاروخ "سكود" قبل أيام هب العالم هبة رجل واحد ليدين "هذه النزعة العدوانية السورية الخطيرة". فليس من حق السوريين أن يدافعوا عن وطنهم حتى بأضعف الإيمان. ولعل أكثر التعليقات المثيرة للسخرية على حادثة الصاروخ السوري تلك التي جاءت من الإسرائيليين النوويين مما يذكرنا بمرارة بقصة الذئب الذي اتهم الحمل بتلويث ماء النبع علماً بأن الذئب كان يقف على رأس النبع والحمل يقف في أسفله.

لا تخجلي من تمجيد القوة يا "أمة الفتوحات"، فالتاريخ لا يصنعه إلا الأقوياء. ولو ألقينا نظرة بسيطة على تطور التاريخ نجد أنه عبارة عن سلسة متصلة من المعارك والغزوات لا أكثر ولا أقل. وقد قال عز وجل في محكم كتابه: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". وكل من يحني ظهره يصبح مطية للركوب. وليسمح لي صديقي الدكتور عزت السيد أحمد صاحب كتاب "انهيار اسطورة السلام" أن استعير منه عبارته الشهيرة:" السلام الدائم شعار لا يصلح إلا لأبواب المقابر".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في جباليا ورفح بينما ينسحب من


.. نتنياهو: القضاء على حماس ضروري لصعود حكم فلسطيني بديل




.. الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة بمسيرات حاشدة في المدن الفلسطي


.. شبكات | بالفيديو.. تكتيكات القسام الجديدة في العمليات المركب




.. شبكات | جزائري يحتجز جاره لـ 28 عاما في زريبة أغنام ويثير صد