الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حارة ماركس

باسم النبريص

2013 / 12 / 21
سيرة ذاتية


إلى عمر حَمَّش

[نصف خيارة]
كان الصيف وكان زوّارُهُ. وجاء خالي حسّان من السعودية، بعد غياب طويل.
وفي مرة، دخل علينا، وفي يده نصف خيارة:
مرقطة بسواد خفيف، ثخينة، معتدلة الماء،
ولها رائحة ملأت البيت كلّه.
جاء ولم يمكث طويلاً، ربما نصف ساعة فقط.
ولسبب ما، كان مشغولاً في الحديث مع أمي وأخواتي، فلم يقضم الخيارة. وأنا، طوال هذه المدّة، لم يكن لي من تركيز إلا على كفّه اليمنى وهي تقبض عليها ..
على تلك البذور الخمس الكبيرة الواضحة في سطحها الأبيض. كلما همّ بأخذ قضمة يرفعها إلى نصف المسافة بين سرّته وفمه، ثم يُنزل يده وينشغل بالكلام.
وأنا أُحبط وأستغرب.
أيامها كان الخيار بعلياً ما يزال ولا ينزل إلا في موسمه.
ولم نكن عرفنا خيار الحمّامات البلاستيكية، الأقل جودة ونكهة.
الرائحة عبقت، وبدأ ريقي يسيل.
ثلاث سنوات قبلها، لم أذق خيارة.
خرج خالي بنصف الخيارة كاملاً، كما دخل.
وبعدها بأسبوعين، رجع لغربته.
أما نصف الخيارة تلك فاستوطن ذاكرتي للأبد. لقد كنت أنتظر أن يأكله فيرمي بالعقب، فأتلبّث حتى يخرج، وأهجم.
بعدها، حين كبرت وبدأت أكسب - شبعت من الخيار:
قاطفاً ثماره في حمّامات المزارع في عِزَّاتا، بائعاً له في سوق الكرمل بتل أبيب، ومشتريه بالبوكسة حيث أسكن في المخيم.
وبعدها شبعت من الخيار البعلي أيضاً. كلما وجدته في بسطة على جانب الطريق بين غزة وخانيونس أو في سوق أو في قلب البلد، أشتري ولا أنظر للسعر.
لقد أكلت منذ تلك الزيارة، كميات هائلة، وأنواعاً مختلفة منه، في غير بلد وفي أربع قارّات.
لكن خيارة خالي حسان، لم تبرح ذاكرتي ولن تبرحها.
الآن، أذهب لسوق لابوكوريا في قلب برشلونة، وأشتري أغلى أنواعه - رغم رداءتها. وما من مرة أراه معروضاً، في أي مكان، إلا تذكّرت خيارة خالي.
إلا اشتريت منه حاجتي أو غير حاجتي، انتقاماً من ذلك الحرمان الذي سبّبه لي الخجل،
قبل 43 عاماً.
نعم: نصف خيارة. ولكنها الخيارة الأشهى في عمري كله، ما سبق وما سيلحق،
لأنني أريدها هيَ بالذات. هيَ دون غيرها. فكيف السبيلُ وقد:
تشابَهَ الخِيار؟

[رغبة]
كنا على الحلوة والمرة. هكذا بلا اتفاق. وكانت أمهاتنا صديقات، وكل يوم يجلسن على الأبواب، ليتمتّعن بهواء العصاري.
كان بلوك دي الذي نسكنه يفيض بشقاوتنا، فنخرج لنلعب في الأحراش القريبة، أو نفطُّ من على سور المدرسة المواجه لنا، لنسرق ما تيسّر.
نبحث عن أعشاش العصافير في شجر الكينا، أو نقطف الورود من الأحواض أمام الفصول.
مع الوقت، عرفت أنّ خاء "يروح". وكان جميلاً أبيض، وله قوام مثير.
ذات يوم في العصاري، دخلنا البيت المهجور الفاصل بين بيتنا وبيتهم. كان أهله تركوه وسافروا للسعودية. وكان زوج أختي الكبيرة يرعاه، فيسقي الليمونة، وينظف العشب تحتها.
جاء ابن أختي وقال كلمات مشفّرة، عرفت منها أن خاء سيحضر بعد صلاة العصر للبيت، وأن ابن أختي مع ابن عمي سيكونان في انتظاره.
أنا سمعت الكلام، وطفق دبيب النمل ينتشر في دمي وناظريّ.
ها قد جاءت أول الفرص. سأجرّب بعد قليل تلك المتعة الألذ: المتعة التي يا طول ما تكلمنا عنها وتناقلنا أسرارها، نحن فتيان الحارة.
لحقتهم.
وبزاوية في فناء مليىء بالكراكيب، انبطح خاء كاشفاً عن كنزه المبهر.
صعد ابن العم، وكان أكبرنا سناً، وبعد وقت أخرج جسمه، مزهوّاً، ودفقَ على البلاط ماء شديد البياض واللزوجة.
وأنا اندهشت جداً مما رأيت ومن قوة دفع الماء.
كانت أول مرة أرى بعد طوفان من التهاويل.
ركب ابن اختي، وفجأة ظهر زوج أختي!
تصنّمنا وتداريت أنا وابن عمي، وراء جدار قصير، بينما ظل ابن اختي فوق ظهر خاء، لا يعرف ماذا يفعل، وجميعنا يحرص على كتم النفّس.
لم تطل البلوى. دقيقتان، وذهب زوج أختي مثلما جاء. بل لحسن التوفيق، سمعنا صوت المفتاح وهو يدور في القفل الخارجي.
خاف خاء ورفض الإكمال، لكن ابن أختي قضى وطره ضاغطاً عليه، ثم أخرج سرسوباً من ماء باهت وشحيح.
الآن جاء دوري.
كان الخجل والرغبة يتصارعان في جسدي، فانتصرت الرغبة.
لكنه، هو، رفض بإصرار. والرفيقان لم يتعاطفا معي أبداً، فقام، وقاما، تاركينني في ملابسي الكاملة.
تسحّبنا وخرجنا، وظل كنز خاء يزلزل يقظتي ويفتك بها.
مرت الشهور وحاولت معه، فلم أنجح. يريد مالاً أو سندوتش حمص، ومن أين لمثلي بهذيْن.
ظلوا يتناوبونه في أية خلوة، وأسمع حكاياتهم، فيندلع ألمي وأشعر بنار التمييز.
إيش عجب أنا يعني، مع إن الأولاد كلهم بل حتى الشباب مروا عليه؟
ألأنني يتيم و ..؟
أيوا، لأنك كحيان مش لاقي اللضا.
هكذا واجهته يوماً، وهكذا صدَمَني في تلك السنّ الحسّاسة.
ولكنّ أُمهاتنا أصدقاء جداً. وأخواتك كل يوم عند أخواتي. وأشياء من هذا النوع.
أردت ترقيق قلبه، وأن يمنحني الفرصة لو مرة واحدة.
إنما لا فائدة.
والعجيب، أنني حاولت معه مراراً في المنامات، على امتداد 14 عاماً، وما من مرة نجحت للآخر.
أستيقظ مقهوراً ..
هل يقلد الحلمُ الواقع؟
أللعنة.
ولمَ هو إذن حلم؟

[مشوار]
أمشي وراءها، في شوارع الطين والتراب.
كيس اللوز أبو خط أحمر فوق رأسها، مملوء بالقشور. وعلى صدرها تحتضن كيس "القلوب" القطني.
يداي متهدلتان على جنبي، ورقبتها صالبة.
نقطع حارة زعرب وننزل في الهَوَدِة، حتى نصل شارع جمال عبد الناصر، ثم نعبر سوق الخشب والحديد، فالسكة القديمة، لندخل حارة المصريين.
تمشي بخطوات ثابتة. وأنا وراءها أودّ أحياناً لو تخفّف من سرعتها، لأتمعّن أكثر في ما يصادفني من أكوام البطيخ والشمّام وعناقيد البلح.
تمشي، ولا يخلو الأمر، من وقفات قصيرة، حين تصادف إحدى رفيقاتها، فتتلكمان وتتواسيان ثم نواصل الطريق.
نصل مدرسة الحكومة، ونأخذ على اليمين، في ذلك الشارع الطويل، حتى نشارف هنقر التموين، فنكسر على الشمال.
إنها تخطو الآن بحذر. فكارّات الحمير والبغال كثيرة هنا، والخلق زحمة.
نواصل ونتجاوز تلال اللوز الجاف وهي تنفث فوحَها الثقيلَ تحت الشمس، إلى أن نصل للرجل السمين ذي اللون المحروق تحت العريشة.
تنزل أمي حمْلها، وتأخذ نفَس الراحة الأول. وبشَاشتِها تمسح عَرَق الطريق.
يرحب بها العامل، ويزن كيس لُبّ اللوز، ويسجل في دفتر مهترىء، وأحياناً ينقدها أجرتها، ونعاود الكرّة:
يملأ الكيس أبو خط أحمر، وقد فرّغه من القشور، ويضعه على القبّان. ويسجّل في ورقة الدفتر.
ونرجع.
نمرّ على تلال البطيخ والشمام وعناقيد البلح. أخجل أن أطلب، فأنا حاسس بالحال.
لكنها تقف، رغم الثقل، وتبتسم وتشتري ما تقدر عليه.
ولا مرة ذهبنا وعدنا إلا وفي يدي شيء:
عجوة أو رطب أو حتى بلح.
ماتت أمي في حضني، بعد 47 عاماً من تلك الأيام. وكان الحال تحسّن.
زرتها ثاني أسبوع، وزرعت على قبرها نخلة.

[عَلْقَة]
كنا في العطلة الصيفية، نذهب لنقطف البطيخ في مقاثي بئر السبع الشاسعة.
يأخذنا مقاولون محليّون، من مخيّماتنا إلى هناك.
وفي ظهيرة، على الغداء، صرخنا بصوت واحد: كل يوم خبز وبطيخ!
إلتقطها أحدهم، وأغرانا بثمار البندورة والفلفل في حقل غير بعيد.
اقتحمنا الحقل كالعفاريت، رغم أسلاكه العالية جداً، وملأنا بطوننا، ثم أكياسنا بالثمار الكبيرة كيما نعود بها لأمهاتنا آخر النهار.
أحدهم، وللآن لم أعرف اسمه، خاننا ووزّ للمقاول أبو اسكندر.
فهاج هذا وماج، ونزل علينا بمطرق اللوز. هربنا ولا أعرف، للآن أيضاً، كيف استفرد بي، رغم سرعتي المشهودة.
أشبعني ضرباً ولسعات من نار، أنا "اللحم على عظم"، ابن الحادية عشرة.
علّمت ضرباته على كل جسمي، الذي كان عارياً وقتها إلا من بنطلون وفانلة.
بالأخصّ على ساعدي الأيسر.
انتشرت الحكاية في المخيّم، وبكت أمي. لأنهم حطوا الحكاية كلها في رأسي، مع أن الحقيقة غير.
وطبعاً قُطع رزقنا، وثاني يوم لم نسرح.
مضت الأيام، وكل صيف حين ألبس الفانلة أو القميص نصف الكم، أرى طبعة الضربة، ولا أنسى أبو اسكندر باسمه الغريب، أبداً.
عشر سنين بعد ذلك ومات أبو اسكندر.
وأنا شعرت حينها أن عزرائيل الحبيب انتقم وثأر لي أخيراً.
واستمرت الحياة.
وصرت أحذق سارق في مخيمي على الإطلاق: جرأة هي اسم آخر للجنون.
أخش على السوبر ماركت في غيفعات سيفيون، حيّ الأغنياء ذاك، فأسرق عشرات قوالب شفرات جيليت جي تو، أو أسرق عشرات علب التايم، حتى تفيض العلبُ على فم السلّة المفتوحة.
ولا مرة ضبطوني.
لأنني كنت أسرق من حيث لا يتوقع عاقل أبداً.
أصفّ على الدور بجوار ماكينة المحاسبة، كأي محترم، وأضع الشنطة تحت قدمي، وأحاسب فقط على رغيف الليخم الكبير.
الزبائن المحترمون يرون ولا ينبسون.
وأخرج.
سالماً موفور الاحترام، كما دخلت.
لكنني، على مدار سنوات طوال، لم أسرق من غلبان أبداً.
لا يمكن.
الآن، وقد بلغت من العمر مُنْحَنَاه، حين أعود للوراء وأتفحّص وأتمحّص، أوقن أنّ:
نصف الخيارة ذاك،
والرغبة تلك،
والمشوار هذاك،
والعلقة هذه،
التي قرأتموهنّ أعلاه، هي أربعة أسباب مركزية، بين عشرات أخرى، جعلتني أدخل حارة ماركس، فتىً، وأقيم فيها.
لا أبرحها أبداً.
في عمري هذا، ومع تجاربي هذه، البراح: مستحيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك


.. إسرائيل -مستعدة- لتأجيل اجتياح رفح بحال التوصل -لاتفاق أسرى-




.. محمود عباس يطالب بوقف القتال وتزويد غزة بالمساعدات| #عاجل


.. ماكرون يدعو إلى نقاش حول الدفاع الأوروبي يشمل السلاح النووي




.. مسؤولون في الخارجية الأميركية يشككون في انتهاك إسرائيل للقان