الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغبياء

دينا سليم حنحن

2013 / 12 / 22
الادب والفن


أَ
غْ
ب
يـاء ...

دينا سليم - أستراليا

لقد اتهموني بالغباء، أيمكن أن أحاول الانتحار، وهل سيخرب العالم إن فعلت، ومن يكترث؟ كما اتهموا والدتي بمحاولتها قتلي، يتهمون هذه المرأة التي يعيش كل صفاء الكون داخلها، يا لغبائهم!
سأروي لكم الحكاية، واحكموا أنتم من هم الأغبياء.
أمضيت يومين كاملين في قسم الطوارئ، وكل الذي أذكره هو أني كنت أسبح في الفضاء الخارجي مع الملائكة، لم تكن هناك ملائكة، لا لم تكن، بل كانت، لا أذكر، أعتقد أنه... لا أعرف، بل صدّقوني لم يكن هناك أي شيء، وإن اعتقد بعضكم بهذا، فهذا صلب الغباء، والحقيقة هي ولكي أكون نزيها معكم، لست أذكر مع من التقيتُ بينما كنت أتردد الدخول إلى العالم الآخر... مجهول قادني إليه، كل الذي أذكره الظلام الدامس من حولي بينما وجه والدتي يتراءى لي من بعيد وهي تبكي، غبية أمي، ألا يكفيها من العذاب، ربع قرن وهي تحاول إعادتي من الموت وتنجح، تعرفون لماذا؟ لأنها كانت تدعو لي يوميا في صلاتها ببقائي على قيد الحياة، ألم أقل لكم إنها امرأة غبية!
قالوا لي إني تناولت وجبة مضاعفة من المخدر، أنا لست مدمنا على المخدرات، فلا تسيؤوا الظن بي، وصدقوني أني لا أعرف له طعما رغم أني أعتاش عليه يوميا وبدونه يختل توازني ويبدأ الوجع ينهش فيّ وينغص عليّ حياتي، لئيم هذا الوجع، تموت شهيتي للطعام، جسدي يضمحل، أبدو كهيكل عظمي متحرك، أنطوي على نفسي فأسكن مخدعي الصغير، أجلس في العتمة، وأشاهد برامج السّحر والشعوذة، أحب متابعتها جدا فهي تزيد من رغبتي لمتابعة الحياة، الحياة.. كم قصيرة هذه الكلمة كقصر سنوات عمري، قال لي الأطباء إن حياتي ستكون قصيرة، أغبياء، ألا يفهمون أنهم يتدخلون بشؤون الله، دائما يخفقون!
تعودت وفي كل مرة أقابل طبيبي المختص أن أريه أني ما أزال على قيد الحياة متفاخرا، يستغرب، يعبس وجهه ويقول:
- نحن نعجز عن معرفة السبب!
- عن أي سبب تتحدث يا دكتور؟
- سبب بقائكَ حيا حتى هذا اليوم، النتائج المخبرية سلبية فكيف تعيش بهكذا ظروف، هل تحب الحياة إلى هذه الدرجة؟
أحيانا أطلب النجاة من الألم بالموت، لكن لا تخبروا الطبيب بذلك، فواحد مثلي أرهقته سنوات المرض الذي كان من المحتم عليّ مقاومته، هذا السرطان اللّعين الذي نخر عظامي، وقوّض سلسلة ظهري وأظهرني محدودبا، فأصبحت أخطو كالجمل التائه في رمال صحراوية، أصبحت أحدب مثل (أحدب نوتردام)، نعم هو ما آل إليه حالي الآن بعد أن مررت عملية زرع نخاع ولم تنجح، الفشل قائم وحياتي قائمة على شروط، لا تشفقوا علي، لأني أكره نظرات الشفقة التي أراها كل يوم في عيون الآخرين...
خرجنا من المستشفى، أنا ووالدتي التي لم تذق طعما للنوم أياما، وبعد إصراري على ذلك وعلى عاتقي، وقّعتُ عن نفسي وثيقة تحرير من المشفى، وطالبوا والدتي بالتوقيع كشاهدة على توقيعي، يخاف عليّ هؤلاء الأغبياء، لكني رفضت العودة إلى البيت، أردت أن أستنشق من بعض هواء مدينتي الجميلة، فأخذتني إلى الشوارع المكتظة بالناس، تسوقني بكل مودة من يدي كطفل حديث المشي، مسكينة والدتي، طفلها يكبر ويصبح شابا، بدلا أن تتعكز هي عليه يتعكز هو عليها...سؤال ما يخيفني:
- على من ستتعكز والدتي يا ترى؟
- هل تكلم نفسكَ يا بنيّ؟ سألتني هذه الأم الرؤوم، لكني أجبتها بخبث:
- أنتِ واهمة، هل بدأ الخرف يزحف إلى رأسكِ الصغير هذا يا أمي فيغتال عقلك المتعب؟
- غبيّ أنت إن كنت تظن ذلك، والدتك لن تخرف أبدا!
وكثر الأغبياء من حولي، أقصد الناس، عذرا، أرجوكم لا تغضبوا مني، وبعد مغادرتي المستشفى، وبعد نجاتي من الموت الأكيد الذي هو محتم عليّ، لقد حقنني الأطباء بمادة تزيل السّموم من جسدي، وغسلوا لي معدتي، لو تدرون كم مصل غرزوا داخل شراييني خلال خمسة وعشرين عاما، فقد دامت معاناتي أكثر من ربع قرن، كم أكرهكم أيها المتعافون الأصحاء، جميعكم أغبياء، تخافون المرض، أنا فقط الشجاع الذي يقاومه ولا يخشاه!
أنا لا أشتم... بل هي ذرابة لسان! أشتهي البوح بكل ما يجول بخاطري المتوهم بالخلاص، أريد أن أشتم، وأن أصرخ وأحتج، هل تعتقدون أني سوف أتخلص من هذا المرض، أنتم واهمون، لكن لا أحد يبتّ بالأمر سواه، ولأنكم غير مدربين على الصّبر مثلي، ولكي لا تغضبوا مني سأكمل لكم القصة، فاستمعوا:
سرنا معا في الشارع، مررنا بصحبة مكونة من شاب يحاول العزف على آلة قديمة أوتارها صدئة، لكنه مهما تدرب على العزف فلن يصبح عازفا، عادة متجددة لظاهرة التسوّل من أجل شراء وجبة المخدر اليومية، تحيطه أربع شابات جميلات، شقراوات، شعرهن ناعم مثل الحرير، قدهن أهيف، عيونهن ملونة، شفاههن شهية وأنوفهن مصقولة، لو تعلمون كم أحب بنات حواء!
ما كان مني سوى أني هجمت على حقيبة والدتي، فأستوليت على ما في داخلها، كانت مليئة بالدولارات، وبدون أن أحصيها رميتها لهم وأنا سعيد، اليوم بالذات بدأت أحب الآخرين، بعدما غرفت من طعم الموت القليل، ووالدتي تتمنع قائلة:
- ويحكَ، ماذا تفعل يا بني؟
- لا تكوني بخيلة يا والدتي، لا تكترثي للمال!
- أنا لا أكترث سوى لهؤلاء الشباب الذين بدؤوا يسلكون كل السّبل في سبيل اقتنائهم للمخدر، خسارة لكل هذا الشباب والجمال أن يذهب هباءً.
- دعيهم يتخدرون، هو اختيارهم فحسب، أنا أشتري العمر بالدقيقة، أسرقه من القدر بلا حياء، وهم يبيعونه بالرّخص المجاني، هباء... أغبياء... ألم أقل لكم إنهم أغبياء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج