الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الشعر في خطر؟

غياق منهل هادي

2013 / 12 / 23
الادب والفن


كثيرون باتوا يتحسرون-ومنهم انا- على أمة اقرأ التي لم تعد تقرأ كثيرا. وفاتنا ان نسائل من يكتبون عما يكتبون. فالقراءة والكتابة تكمل احداهما الاخرى وتحدد احداهما الاخرى، فجودة المكتوب تجعله مقروءا ووفرة القراءة تحسن جودة المكتوب -في عالم مثالي طبعا-. الجودة هنا لا تعني المطابقة لمعايير توصيفيه نمطية جاهزة بقدر ما تعني الاقتراب من الحاجة الفعلية للمتلقي والقراءة الواقعية لموضوع الخطاب. وهي تعني ايضا أجادة الأدوات الممكنة للوصول للمتلقي اينما وكيفما كان.1 فمن لا يقرأ بمفهوم القراءة التقليدي له وسائله الأخرى للتواصل في هذا العالم وعلى الكاتب كمنتج خطاب ان يوصل خطابه بوسيلة او بأخرى. ان الفشل في الوصول الى الجمهور الواسع فقط لكون الاخير لا يقرأ هو كسل ثقافي بامتياز. وعندما نحاسب انفسنا لآننا لا نقرأ كفاية ينبغي ان نحاسب من يكتبون لأنهم لا يبحثون عن وسائل اكثر اتساقا مع عالمنا المتسارع. ننطلق هنا من فرضية ان الجمهورعلى حق لأنه من غير الممكن كميا واحصائيا أن يكون الملايين على خطأ والاقلية على صواب.
كثيرا ما نسمع من اصحاب الثقافة الفوقية- اسمحوا لي ان اسميهم هكذا- خوفهم مما وصلت اليه الثقافة عموما والادب والشعر خصوصا. مجاميعهم الشعرية المغلقة على فهم بعضهم البعض لم تعد تساوي ما يعادلها ورقا. وباتت تزاحمها في سوق الكتاب روائع الطبخ ودواوين الابراج وكتب الطالع. يشتكون من ان شعرهم النخبوي لم يعد يكترث لأمره احد، ان ما تعكسه هذه الشكوى الرائجة بين بعض المثقفين هو ان ذلك الشعر ما عاد يلقى اذانا صاغية من جمهور فقد الاهتمام بنخبويتهم الفارغة، مع الاعتذار. فهل هذا يعني ان الشعر والادب والثقافة كلها في خطر؟
بدءا فمن البديهي ان ما يمثله الادب والشعر اوسع كثيرا من حدود هذا المفهوم القاصر. فالشعر ليس نمطا ثقافيا ترفيهيا او تمظهر سطحي لموجة ثقافية عابرة في حياة امة ما. هو ليس كتابات يكتبها شعراء ليقرأها بعضهم البعض في احتفال صغير ينتهي ببعض التصفيق وكلمات المجاملة وربما بمقال في صفحة ثقافية ما. هو ليس متغير من متغيرات حياتنا. انه حاجة انسانية ملحة وظاهرة ارتبطت اساسا بالظاهرة اللغوية. الشعر حاجة اصيلة لاستخدام اللغة بطريقة معينة للتعبير عن/او لتوليد مستوى معين من المعنى. من هنا فان وجود وتقدم ورقي الشعر في أي مكان مرتبط باللغة ارتباطا جذريا. والمقصود باللغة هنا هي اللغة الحقيقية كما يفهمها الأنسان العادي. من هنا فان الشعر لا يتراجع بتراجع قراءتنا لأساطين القريض وطلاسم قصيدة النثر المنغلقة على نفسها. الشعر لا يتراجع لأنك تفضل شراء الخبز على شراء مجموعة شعرية. الشعر لا يتراجع لان شباب اليوم يفضل التسكع في الفضاء الالكتروني على التجول المعرفي في مكتبات قصيدة الشعر وصراعات التفعيلة. فعندما تضيق ذرعا بشاعر ما فهذا لا يعني انك تتنكر لحاجتك الانسانية للشعر كنتاج جمالي ووسيلة ابداع.
من بين البدائل التي افرزها واقعنا اليوم هو الانتشار الواسع للشعر الشعبي. هذا النوع الادبي القديم بأصالته وانتمائه الصارخ الى التراث الشعبي والجديد بانتشاره الواسع وتعاطيه بسلاسة مع مواضيع الساعة للمتلقي اليومي البسيط. من مزايا الشعر الشعبي الذي تملأ قراءاته - بغثها وسمينها- الفضاء الالكتروني، انه سماعي بالدرجة الاولى- وهنا نذكِر باننا امة سماعية بامتياز، فازدهار شعرنا بعصوره الاولى كان لميزته هذه-. يفضل المتلقي اليوم تصفح مواقع التواصل لسماع قصائد او ومضات شعرية يمكنه تداولها بوسائل مختلفة موفرا الوقت والجهد والمال على القراءة بطريقتها التقليدية. فهاتفك الجوال كفيل بان يحوي أنطولوجيا متنقلة لما تفضله من قصائد و اناشيد واغاني وهلم جرا. ان وجود وانتشار الشعر الشعبي هو بحد ذاته حالة ثقافية صحية، اذ انه يؤكد ان المجتمع ينحت وسائله التعبيرية من واقعه الثقافي ولا يكتفي باستيراد انساق تفكير وابداع خارجية دخيلة. ان ابرز ما يحتاجه هذا التيار الواسع والكم الهائل من الشعر الشعبي هو الارتقاء بمعاييره الجمالية والابداعية وحتى الذوقية. يحتاج الشعر الشعبي الى الانفتاح عليه بصورة جدية على المستوى الاكاديمي والثقافي النخبوي على حد سواء. اكاديميا نحتاج للمزيد من الدراسات والبحوث النقدية والتأصيلية للمنتج الشعري الشعبي الضخم ليس باعتباره جزءا من التراث الشعبي بل كونه نوعا ادبيا حيا ومتجددا. و ثقافيا تحتاج النخبة الادبية من شعراء ونقاد الى الاعتراف بوجود هذا النوع واهميته الشعرية. وهذا لا يعني التسليم منا بان الشعبي هو سيد الساحة الشعرية الاوحد وانما الواقعية في قراءة مشهدنا الثقافي واتجاهات الجمهور والقدرة على تأصيل وتقويم التجربة الشعرية الشعبية.
الشعر ليس في خطر لكنه يتخذ كعادته مسارات جديدة. هو ليس كما الشاعر الفوقي الذي تأخذه العزة بالشعر ليتعالى على الاعتراف بان الواقع لم يعد يطيق امثاله. ما يحدث هو ليس مخاض ثقافي جديد. انه ببساطة ان الجمهور لم يعد يطيق غرور ونرجسية النخبة وان النخبة هي ابعد ما تكون عن مفهوم المثقف العضوي كما روج له العم غرامشي. هذه القطيعة –لو سلمنا بوجودها- تحتم على النخبة اعادة النظر بدورها الطليعي المفترض في قيادة التحولات الثقافية الكبرى. على النخبة ان تنزل قليلا من ابراجها للأخذ بهذا التيار العريض من الشعر غير الموجه. هذا الشعر الذي يشكل جزءا كبيرا من وعي شرائح واسعة من جمهورنا.
لا خوف على الشعر لأنه كفيل بتصحيح وتغيير مساره ذاتيا. الخطر الحقيقي هو على النمط الشعري النخبوي الذي اوغل في العديد من نماذجه في التغريب. على شعراء النخبة الاقتراب اكثر من الجمهور 2(تكاد جدلية ان يفهم الجمهور ما يقال وان يقول الشاعر ما يفهم ان تكون متجذرة في نمط الشعر العربي النخبوي منذ القدم). فالشاعر بطبيعته انسان مرهف الاحساس متمرد، نرجسي حتى النخاع.3 هو لا يكترث لحظة الكتابة بما يقوله الجمهور ولا يمكن والحال هذه ان نطالبه بالنزول الى مستوى ادراكهم البسيط. لكن الاغراق بالغرائبي والابتعاد عن الوضوح يفقد اقوى النصوص الابداعية سمة الوصول المباشر الى القلب.
اقول، لا تنزلوا الى مستوانا ايها الشعراء ولكن ارتقوا بأذواقنا اليكم. رفقا بشعركم نفسه وكفاكم تغريبا ولا تخافوا على الشعر، فله رب يحميه.

1 من هذه الادوات ما تقدمه التكنلوجيا الحديثة من وسائل التواصل المتعددة(الملتيميديا) والتطبيقات الالكترونية الاخرى.
2هنالك اتجاه الشعر من اجل الشعر وهذا الاتجاه لا يكترث للجمهور ولا يتأثر بانتشاره وقراءته وهو خارج مدى التوصيف هنا.
3 يقول أحدهم "كيف لا اكون نرجسيا وانا في بلد الثمانين مليون نخلة" (مقابلة تلفزيونية على هامش مهرجان المربد2013)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-