الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشيك بوينت تشارلي..!!

حسن خضر
كاتب وباحث

(Hassan Khader)

2013 / 12 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


أعبر تشيك بوينت تشارلي مرتين، على الأقل، في اليوم، وغالباً في نزهة المساء. مساء أمس، أعاد الجندي الأميركي تذكير امرأة على دراجة هوائية، جاءت من الشرق، بأنها تعبر الحاجز إلى القطاع الأميركي في المدينة. فعل ذلك بطريقة يُراد لها أن تكون جدية، ومع ذلك كانت مسرحية تماماً، ولا تنسجم، بالتأكيد، مع الابتسامات على وجوه المارّة.
تشيك بوينت تشارلي نقطة تفتيش أميركية، تتوّسط فريدريك شتراسه، الشارع البرليني العريق، مركز حياة الليل، والفن، في عشرينيات القرن الماضي، الذي شطرته الحرب الباردة إلى نصفين. وهناك، على بعد أمتار قليلة، في الجهة المقابلة، كانت نقطة تفتيش روسية، يحرسها الجيش الأحمر السوفياتي.
نقطة التفتيش الأميركية تأخذك إلى برلين الغربية، والنقطة الروسية تأخذك إلى برلين الشرقية. وهنا، أيضاً، انتصب جدار فصل بين شطري العاصمة الألمانية لمدة ثلاثين عاماً. وهنا، أيضاً وأيضاً، على جانبي تشيك بوينت تشارلي، بالذات، وقفت الدبابات الأميركية والروسية، ذات يوم، وحبس العالم أنفاسه خوفاً من اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
كانت هذه أسخن نقاط الاحتكاك، وأسرع أعواد الكبريت قابلية للاشتعال، في زمن الحرب الباردة. وقد نُسجت حولها الأساطير، وكُتبت عنها الروايات، واقترنت بها مصائر ما لا يحصى من بني البشر، الذين أفاقوا، ذات يوم، ليكتشفوا استحالة عبور الشارع، لزيارة جيرانهم وأقاربهم، أو شراء الخبز والحليب من متجر قريب، أصبح في الجانب الآخر للجدار.
ولكن الجندي الذي رأيته مساء أمس لم يكن أميركياً، في الواقع، رغم الزي العسكري، وراية العم سام التي يقبض عليها بيده، فهو موظف يمثل دور الأميركي، لتمكين السوّاح من التقاط الصور التذكارية معه، إلى جانب غرفة صغيرة من الخشب والصفيح، شبه مستطيلة، تمثل نموذجاً للغرفة الأصلية، التي كان يحتمي بها الجنود الأميركيون من تقلبات الطقس، ومراقبة الشارع. هناك، أيضاً، من يؤدي دور الجندي الروسي، ويرتدي ملابس الجيش الأحمر.
وإذا جئت من الشرق إلى الغرب، ورفعت عينيك إلى أعلى، ستجد لافتة معدنية كبيرة عُلقت عليها صورة لجندي أميركي. وإذا جئت من الغرب إلى الشرق ستجد صورة مشابهة لجندي سوفياتي.
كل هذه الأشياء مجرد بقايا رمزية، وفلكورية، لما مضى. وحتى الجدار لم يبق منه في فريدريش شتراسه سوى علامات على الرصيف، يدوسها العابرون، في الاتجاهين، دون ملاحظة أو توقف. فهي تستوقف السائحين، لا غير. وعلى جانبي الشارع صور تذكارية، ومقتطفات إخبارية، تختزل سيرة وصورة الجدار، إضافة إلى متحف قريب، ومحلات لبيع الهدايا التذكارية.
أغلب ما نراه من بنايات في الشارع يعود إلى عقود قريبة مضت، بعد توحيد شطري العاصمة. وأغلب ما نراه في العاصمة نفسها، يعود إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الحالتين يشهد كل ما نراه على إرادة النهوض من تحت الأنقاض من ناحية، وعلى إرادة عدم تجاهل الماضي، بل الحفاظ على بعض شواهده لتحذير الأحياء من أشباحه، من ناحية ثانية.
تحذير الأحياء من أشباح الماضي سمة من سمات الفضاء العام في العاصمة الألمانية. في مبنى البرلمان الألماني (الرايخستاغ) احتفظ المهندسون، بعد ترميم المبنى الذي طاله الدمار في الحرب العالمية الثانية، بجدار ثقبته طلقات رصاص، وكتب عليه الجنود الروس، الذين كانوا أوّل من اقتحم العاصمة، عبارات بالروسية، ربما كانت شتائم، أو مجرّد أسماء لم تعد تعني شيئاً، لكنها ما تزال حاضرة في الزمان والمكان، لتذكير الأحياء بحقيقة أن من لا يتعلم من الماضي، يكرر أخطاءه وخطاياه.
مشهد الجنود الروس والأميركيين يومي في ساحة باريس القريبة من مبنى الرايخستاغ، وبوابة براندنبرغ، التي عبرها نابليون على صهوة حصان، ذات يوم. وهم ليسوا جنوداً حقيقيين، في الواقع، بل مجرد أشخاص يتقمصون شخصياتهم، ويرتدون ثيابهم، ويرفعون راياتهم، لتمكين السوّاح من التقاط الصور التذكارية.
غالباً ما تنتهي نزهة المساء إلى ساحة باريس، بعد عبور شارع يمثل قلب المدينة ويحمل اسماً شاعرياً: تحت ظلال أشجار الليم، (أونتر دن لِنْدِن). وقد زرع الشارع، بالفعل، بأشجار الليم منذ أواسط القرن السابع عشر، ليصبح جزءاً من تاريخ البلاد حتى يوم الناس هذا.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بفلسطيني بلغ سن الرشد في ظل الاحتلال، وتمثل الحواجز، ونقاط التفتيش، ومصاعب الانتقال من مكان إلى آخر، جزءاً من تفاصيل حياته اليومية، إضافة إلى الجدار الذي يواصل الإسرائيليون بناءه حول التجمعات السكانية في الضفة الغربية، فإنه يرى في تشيك بوينت تشارلي ما لا يراه السائحون.
يرى ما يعيد تذكره بهشاشة وجوده الإنساني، ولكنه يرى أن نقاط التفتيش، والجدران إلى زوال. فما سيبقى من الاحتلال، ذات يوم، لن يكون أكثر من بقايا رمزية وفلكلورية تعيد التذكير بأشباح الماضي، وتحذّر الأحياء من تفاهة الشر. لن يرتدي الفلسطينيون زي الجيش الإسرائيلي لاستعادة الماضي بطريقة رمزية وفلكلورية. فهؤلاء جاءوا إلى بلادنا كمحتلين، بينما جاء الروس والأميركيون إلى ألمانيا كمحررين.
المهم أن تشيك بوينت تشارلي، تعيد التذكير بعلاقة الذاكرة بالفضاء العام، وبالعلاقة بين هندسة المدينة والذاكرة الجمعية لقاطنيها. ثمة الكثير من مواقع الذكرى وشواهد الذاكرة في برلين الجديدة. ولعل الفلسطيني، في نزهته المسائية، تعلّم ثلاثة أشياء: مَن لا يتعلم مِن الماضي يكرر أخطاءه وخطاياه، والجدران، والحواجز، مهما طال الزمن أو قصر، إلى زوال، وإرادة الحياة والبناء أقوى، دائماً، من تفاهة الشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مرسيليا على أتم الاستعداد لاستقبال سفينة -بيليم- التي تحمل ش


.. قمع الاحتجاجات المتضامنة مع غزة.. رهان محفوف بالمخاطر قبيل ا




.. غزة: ما هي المطبات التي تعطل الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. البنتاغون: الانتهاء من بناء الميناء العائم الذي سيتم نقله قر




.. مصدر مصري: استكمال المفاوضات بين كافة الأطراف في القاهرة الي