الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى أين وصل مشروع أسلمة الدولة في تونس ؟

حزب الكادحين في تونس

2013 / 12 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


نشرت "طريق الثورة" في عدد شهر مارس 2013 نصّا تركّز فيه الحديث على ما احتوته مجلّة الالتزامات والعقود التونسيّة من الفصول القانونيّة المعمول بها إلى حدّ الآن والتي لا تزال تحافظ على جوهر علاقات الإنتاج شبه الاقطاعية (المساقاة، المغارسة، شركات الخمّـــــاس وشركات الحيوان وغيرها...). وذلك في سبيل إلقاء الضوء على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس ومناقشة الأطروحة القائلة أنّ سلطة بورقيبة قد قضت نهائيا على الإقطاعية من خلال الأمر العليّ الخاص بإلغاء نظام الأحباس الخاصّة والمشتركة الصادر في 18/07/1957 والذي نشر بالرائد الرسمي بتـاريخ 19/07/1957 .
وفي الوقت الذي يعود فيه من جديد السّجال حول الأحباس والاوقاف وتحاول فيه السلطة اليمينية الدينية استصدار قوانين ضمن هذا المجال نلاحظ أنّ إصدار السلطة البورقيبية للأمر آنف الذكر لا يعني عزم النظام في ذلك الوقت على القضاء على علاقات الإنتاج الإقطاعيّة بل مثّل سعيا من طبقة الكمبرادور للحدّ من سيطرة الطبقة الإقطاعية ويأتي ذلك في إطار الصراع بين هاتين الطبقين للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من السلطة، علما بأنّ الصّراع الدائر بينهما يظلّ دوما ثانويّا لا يتعلق بحريّــــة الكادحيـن بل باستعبادهم .
ولمزيد التدليل على ذلك نورد ديباجة نص الأمر التي تميّزت بمسحة دينيّة مبالغ فيها : "الحمد لله، من عبد الله سبحانه المتوكل المفوّض جميـع الأمـور إليـه محمد الأميـن باشـا بـاي صاحب المملكة التونسيّة سدّد الله تعالى أعماله وبلّغه آماله، إلى من يقـف على أمرنا هـذا من الخاصّة والعامّة...". فهل هذه الصّيغ المذكورة تدلّل على توجّه صريح للقضاء على الإقطاع ؟ بالطبع لا، إضافة لكون هذه المهمّة ليست موكولة للطبقة الكمبرادوريّة التي لا تستطيع الاستمرار في الحكم إلاّ بدعم من حليفتها الطبقة الإقطاعيّة، لأنّ الترتيبات التي وضعها الاستعمار الفرنسي لضمان مصالحه في تونس تقتضي بالضرورة المحافظة على هذا التحالف الطبقي الكمبرادوري الإقطاعي وتدعيم موقعه في السلطة.
لقد نصّ هذا الأمر في فصله الأوّل على ما يلي: "يُمنع التحبيس الخاص والتحبيس المشترك ويعتبر لاغيا كل تحبيس من هذا القبيل"، ويشمل التحبيس بالأساس العقارات سواءً الأراضي أو البناءات وهي تعتبر بلغة الاقتصاد بمثابة الأموال المجمّدة التي لا يتمّ التصرّف فيها لا بالبيع ولا بالقسمة بمعنى أدقّ هي أموال خارج الدورة الاقتصاديّة .
ولمزيد توضيح تعريف التحبيس نورد هنا ما نصّ عليه الفصل الرّابع من الأمر العلي : "يُقصد بالتحبيس العام ما كان مصرفه لفائدة الإسعاف أو الصحّة العموميّة أو التعليم أو الشعائر الدينيّة. ويقصد بالتحبيس الخاصّ ما كان مصرفه لفائدة أشخاص معيّنين أو لذرّيتهم على أن يؤول بعد انقراضهم إلى جهة عامّة. ويقصد بالتحبيس المشترك كأحباس الزّوايا ما كان مصرفه عائدا في آن واحد للأغراض ذات المصلحة العامة المشار إليها بالفقرة الأولى ولفائدة أشخاص معنيين ولذرّيتهم".
ورغم صدور هذا الأمر منذ 18/07/1959 فإنّ تصفيّة الأحباس لم تتمّ بصفة نهائيّة، إذ ظلّت العديد من الأراضي الفلاحيّة مجمّدة ومازالت العديد من الرّسوم العقاريّة الخاصّة مدرجة بمصالح الملكيّة العقاريّة كحبس وحافظت العديد من الزوايا المنتشرة في البلاد على ملكيتها للعديد من العقارات خاصة الأراضي، ممّا دفع بالمشرّع التونسي إلى تنقيح هذا الأمر بمقتضى القانون عــ24ــدد لسنة 2000 المؤرّخ في 22/02/2000 وذلك بإحداث لجان جهويّة لتصفيّة الأحباس الخاصّة والمشتركة وتعيين مُصفّي لتصفية البعض منها. والمقصود من هذا القانون هو رفع التجميد على العديد من العقارات التي لا تزال تحت طائلة الأحباس باعتبارها أموالا جامدة غير قابلة للتداول في السوق النقدية لكي تصبح أموالا متحرّكة وقابلة للتداول بالبيع والشراء والكراء والرّهن وغيرها من المعاملات التجارية الأخرى .
إنّ طرح مسألة الأحباس من جديد والعمل على إعادة تقنينها يتنزّل في إطار سعي الإقطاع الذي تمثّل النهضة تعبيرته السياسيّة إلى تركيز أسسه ودعم موقعه لتمرير مشاريعه الرجعيّة المتمثّلة بالأساس في بناء الدولة الدينيّة أو الخلافة الراشدة السادسة كما سمّاها الأمين العام للحركة حمادي الجبالي أمام أنصاره. فحركة النهضة تعيش اليوم مرحلة التمكين عبر سعيها للسيطرة على الشعب ولا بدّ أن نستحضر هنا مضمون تلك الرسالة الموجّهة من حسن الترابي لراشد الغنّوشي في أكتوبر 2011 وبالتحديد بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الصورية وفوز حركة النهضة بأغلبيّة المقاعد في المجلس التأسيسي، والتي أكّدت على ما يلي: "وأنا أنصحكم، أن لا تبدأوا في وضع برنامج الأسلمة والتمكين قيد التطبيق قبل أن تفكّكوا مؤسّسات الدّولة القديمة، وهي خطر عليكم، نحن جرّبنا هذا وعانينا منه... يجب علـيكم تفتيت مؤسّسات وإدارة دولـة بورقيبة العلمانيّـة لأنّـها ستقـاومكم... فقط بعد إزالتها تستطيعوا أن تبنوا الدولة الإسلاميّة المنشودة". ونفس هذا التمشّي هو الذي دفع بالغنوشي إلى دعوة السلفيين إلى التريّث وعدم حرق المراحل باعتبار أنّ الجيش والأمن غير مأمونين حتّى لا يتمّ إرباك المخطّط الذي رسمته حركة النهضة لنفسها للسيطرة على السلطة نهائيا وإنشاء الدولة الإسلاميّة.
لم تسعَ حركة النهضة خلال سيطرتها على السلطة طيلة عامين لحلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتخبّط فيها الجماهير الشعبية خاصّة في ما يتصل بالعقارات التي مازالت تعاني من العديد من المشاكل والتي كانت سببا في تعطيل العديد من المشاريع "التنمويّة" في الجهات حسب التبرير المقدّم من السلط، بل عملت على تفتيت المؤسسات والسيطرة عليها عبر غرس عناصرها في كلّ مكان وتمكينها من ترقيات استثنائيّة واستمالة العديد من المسؤولين الإداريين والموظفين الذين أبدوا استعدادا لخدمة مشاريعها، كما استغلّت سيطرتها عدديّا على المجلس التأسيسي لتمرير العديد من القوانين التي تؤسّس للدولة الدينيّة من ذلك ما تمّ تمريره من قوانين الماليّة الإسلاميّة التي تمّ بمقتضاها فتح بنوك وإحداث شركات تأمين وإنشاء صكوك إسلاميّة، كما أعيد الاعتبار لمؤسّسة الزّكاة وهو ما دفع بنواب حركة النهضة إلى محاولة تمرير قانون الأحباس لما له من ارتباط عضوي بقانون المساجد الذي ينتظر طرحه للنقاش بين الفينة والأخرى، لأنّ الأحباس ستمثّل مصدرا هامّا من مصادر تمويل المساجد والجمعيّات "الخيريّة". كما أنّ هذا القانون، أي قانون المساجد سيوفّر غطاءً قانونيّا للتمويلات الخارجيّة سواءً لمؤسّسة الزكاة أو لميزانيّة المساجد التي ستكون بمثابة الدولة داخل الدولة .
لقد نصّ مشروع قانون المساجد على إلزاميّة بناء المساجد من طرف المؤسّسات والجماعات العموميّة المحليّة والجهويّة، بمعنى آخر لا يمكن أن يتحصّل أيّ باعث عقّاري على رخصة الإنشاء أو البناء إلاّ إذا تضمّن مثاله على بناء مسجد (الفصل 7: يجب تخصيص مساحات لبناء المعالم الدينيّة في كلّ مخطّط عمراني تضعه الدولة أو الجماعات المحليّة أو الباعثون العقاريّون لكل تجمّع سكاني جديد) وكلمة يجب تعني الإلزام أي أنّ كلّ مشروع عقاري يتمّ تقديمه للحصول على ترخيص يرفض بمجرّد عدم تخصيصة لمكان ما لبناء جامع، علما أنّ عدد الجوامع الحالية المصرّح به من طرف مصالح وزارة الشؤون الدينيّة هو 5500 وإذا اعتبرنا أنّ عدد السكان حاليا هو 12.000.000 فسنجد مسجدا لكل 2182 فردا إضافة لمئات الزوايا وآلاف دور القرآن والكتاتيب.
إنّ الغاية من بناء المزيد من المساجد ليست التزهد والتعبّد والتقرّب إلى الله بل هي تحويلها من دور عبادة إلى مؤسسات سلطوية تتدخل في كل أوجه حياة الأفراد وبالتالي بسط نفوذ اليمين الديني على الفضاء العام (الفصل 18: للمسجد وظائف وأدوار يؤدّيها في حياة المجتمع الرّوحيّة والعلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة). كما أنّ المسجد من خلال هذا القانون سيصبح مؤسّسة موازيّة للمؤسّسات المدنية التي ستصبح مؤسسات هامشية (الفصل 20: يضطلع المسجد بوظيفة تربويّة تعليميّة تتمثّل في تأمين دروس تدارك لمختلف مراحل التعليم لكلا الجنسين وفق البرامج المعمول بها في مؤسسات التربية، وبالتنسيق مع الجهات المعنيّة تأمين دروس في القراءة والكتابة ضمن برامج رفع الأميّة وتأمين دروس في الأخلاق والتربيّة الدينيّة لعموم الناس). والسؤال المطروح هنا: ماذا بقي لوزارة التربية والتعليم من دور؟
غير أنّ المهام الموكولة للمساجد لن تتوقّف عند هذا الحدّ بل سيتمّ السطو على جانب هام من مهام وزارة الداخليّة والعدل عبر إنشاء أمن موازي ومحاكم شرعيّة "للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (الفصل 22: يضطلع المسجد بوظيفة توجيهيّة إصلاحيّة عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتمثّل في تبليغ أحكــام الشريعـــــة الإسلاميّة في مختلف مجالات الحياة وتقديم دروس للوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين بين أفراد المجتمع ومحاربة الآفات الاجتماعيّة والعمل على الحفاظ على الوحدة الدينيّة للمجتمع وتماسكه وحمايته من شرّ الخلاف)، كما سيصبح المسجد بمثابة مؤسسة لتقديم الإعانات المزعومة للفقراء والمحتاجين (الفصل 23: يضطلع المسجد بوظيفة اجتماعيّة تتمثّل أساسا في إشهار الزواج وختان الصبيان... وبثّ الوعي الصحّي، وتقديم مساعدات للأرامل والأيتام والعجّز وذوي الاحتياجات الخاصّة والفقراء والمساكين ولأبناء السبيل ويخصّص للنساء جزء من وقت النشاط المسجدي يقمن فيه بأنشطة خاصّة بهنّ). ولم يكتف المشرّع "النهضوي" بهذا الدور الذي أعطاه للمسجد بل أضاف إليه مهام رقابيّة واستخباراتيّة للحدّ من حريّة التعبير والتفكير (الفصل 28 : يمكن أن تقام توأمة بين المساجد من أجل الغايات التالية: التبادل الثقافي الإسلامي، التضامن المادّي والمعنوي، توحيد الرؤية لمجابهة الانحرافات العقائديّة والفكريّة والاجتماعيّة ويمكن توسيع التوأمة خارج التراب الوطني). فهذا القانون يؤسّس لتركيز سلطة استبدادية دينية تراقب كل شاردة وواردة.
إنّ طرح مشاريع هذه القوانين للنظر فيها من طرف المجلس التأسيسي يدخل في إطار مرحلة التمكين التي بدأت في تنفيذها حركة النهضة للسيطرة على الشعب في اتجاه تأسيس دولة دينيّة خاصّةً وقد نجحت في تمرير العديد من القوانين الخاصة بالماليّة الإسلاميّة وتركيز ديوان للإفتاء ليساهم في دعم العلامة المميّزة لمطابقة المنتوجات لقواعد الشريعة الإسلاميّة علامة "حــلال" كما غيّرت العديد من المفاهيم مثل الحوكمة الرشيدة، التشاركيّة وغيرها وغضّت النظر عن تعدّد الزوجات الذي يتمّ حاليّا عبر الزواج الشرعي الذي لا يتم إدراجه بالحالة المدنيّة بالبلديات.
إنّ كل المشاريع الممرّرة والمقترحة من طرف حركة النهضة تهدف بالأساس إلى السيطرة على الكادحيــن عن طريــق المؤسّسات الدينيّة خاصّة المساجد التي ستمثّل حسب القانون الذي يتمّ إعداده حاليا إمارة مستقلّة بذاتها من حيث التمويل (التمويل الخارجي وريع الأحباس إلى جانب التبرعات) ولها ميليشياتها الخاصّة للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومحاكمها الخاصة لإنفاذ أحكام الشريعة الإسلاميّة وبرامجها التعليميّة، وخير دليل على ذلك ما قام به أحد رجال الدين إثر تواتر الحديث عن قانون الأحباس من المطالبة باسترجاع الأحباس التابعة لجامع الزيتونة والتي افتكّها بورقيبة حسب زعمه مدّعيا أنّ مستشفى عزيزة عثمانة وكليّة الآداب 9 أفريل أقيمت على أرض تابعة لجامع الزيتونة الذي يملك أيضا العديد من الأراضي الزراعيّة وأحسنها ولعلّ الجميع يتذكّر ما قام به هذا الأخير من تحدّي صارخ لوزارة التعليم العالي والشؤون الدينيّة عندما فرض تعليما خاصا ومستقلا عن المؤسسات التعليميّة، كما حاول افتكاك بعض المقرات التي سوّغتها بلديّة تونس لبعض الجمعيات بواسطة ميليشيا خاصّة به.
إنّ كلّ هذه المساعي التي تقوم بها النهضة مباشرة من أجل تمرير قوانين الأحباس والمساجد أو بتفويض منها مثل نشر تعليم موازي (التعليم الشرعي الذي تشرف عليه دار الحديث بالمرسى وكذلك جامع الزيتونة والعديد من المؤسسات الدينيّة الأخرى) وفتح مطاعم إسلاميّة وإدراج علامة "حلال" على بعض المنتجات هدفها الإستراتيجي هو بناء أسس الدولة الإسلاميّة التي تحلم بها ممّا يطرح على الشعب التصدي لهذه المخططات المعادية في جوهرها لتطلّعات الجماهير التي انتفضت في 17/12/2010 من أجل الشغل والأرض و الحريّة والكرامة الوطنيّة.
لقد انتفض الكادحون من أجل حقّهم في توفير الشروط الضروريّة للعيش بكرامة ولم يرفعوا يوما ما صوتا مناديا بالدولة الإسلاميّة، هذه الدولة التي ترتكز اقتصاديا على علاقات إنتاج متخلّفة يعيق تطوّر القوى المنتجة وخاصة العمّال والفلاحين كما ترسّخ أيضا النظرة الدونيّة للمرأة وتجرّدها من حقوقها حتّى التي اكتسبتها اليوم بحكم نضالها اليومي جنبا إلى جنب مع الرجل، إضافة إلى مصادرة أغلب الحقوق والحريات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين